“نزيف الظلال” بين الالتزام الوطني والالتزام الأممي

تاريخ النشر: 01/07/15 | 10:00

ديوان “نزيف الظلال-2014″(1) الصادر عن دار الماجد برام الله، هو المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر مفلح طبعوني، بعد ديوانه الأول “قصائد معتقة-1999″(2)، وديوانه الثاني “عطايا العناق-2011″(3). من خلال مراجعة أولية لتلك المجموعات الشعرية الثلاث، يمكن أن يلحظ المتابع لمسيرة الشاعر مفلح طبعوني، أن تقدمًا ملموسًا وتطورًا ملحوظًا في الإبداع من ناحيتي المبنى والمعنى، قد طرأ لديه في ديوانه الجديد. ويمكننا أن نعزو ذلك التطور، ربما إلى تبدل الظروف وتغير المفاهيم التي رافقت الشاعر أو مرَّ بها خلال تلك المرحلة، فساهمت في صقل التجربة، وإثراء الخبرة، وزادته تجربة على تجربة وخبرة على خبرة، مثلما تجلى ذلك في قصائد الديوان الجديد. وقد تجدر الإشارة إلى أن أشعار المجموعة الجديدة تمتد عبر فترات متباعدة ومراحل طويلة ومتعددة، إذ يفصل بين بعض قصائدها فاصل زمني يبلغ أحيانًا عدة سنوات. والشيء ذاته ينسحب أيضًا على ديوانيه الأول والثاني. الأمر الذي يتطلب دراسة خاصَّة متأنية ومتابعة لتجربة الشاعر في مراحلها المختلفة، بغية الوقوف، عن كثب، على حقيقة التطور الذي طرأ على تلك التجربة الإبداعية.
يعني هذا أيضًا، من بين ما يعنيه، أن الشاعر لم يكن في عجلة من أمره أبدًا بالنسبة للنشر، إنما نراه متريِّثًا متأنيًا على أقل من مهله، قبل أن يبادر إلى أي إصدار جديد. الأمر الذي يتيح له إمكانية التهذيب والتنقيح والغربلة على نار هادئة، والتمهل والانتظار مرة بعد أخرى، إلى أن يحين وقت اختمار تلك الأشعار ونضوجها على أكمل وجه، قبل أن يعْتقها من عقالها إلى يدي المتلقي، أو إلى النور، كما هو واقع الحال مع تجربته الأولى “قصائد معتقة”!
وقد يكون من المفيد أن يتوقف المرء عند العتبة الأولى للمجموعة الشعرية، وهو العنوان “نزيف الظلال”، لما يمكن أن يقع من تعالق بينه وبين المضمون. إذ يعدُّ العنوان، بمنظور ما، إشارة ضوئية أو لافتة مرورية أولى موحية ومعبِّرة إلى أبعد حد. فالعنوان “نزيف الظلال” عنوان إبداعي، يوحي بدلالات كثيرة، لكنه يبقى المرآة التي تعكس حقيقة ما تتضمنه المجموعة الشعرية من مضامين. ويمكن أن يعد العنوان بمثابة القاسم المشترك لقصائد المجموعة، لما فيه من كشف وتعبير وتصوير، فجاء، بحق، اسمًا على مسمى، فهو نص قائم بذاته في توظيف مجازي يدخل في الإنزياح الدلالي.
قد لا نبتعد عن جادة الصواب إذا قلنا: الظلال هي الرجال، أو قل هي الأشباح، فلكل رجل ظله وأثره! فهل حقًا أصبح الرجال ظلالاً أو أشباه رجال؟! وهل يمكن أن ينسحب ذلك الكلام أيضًا على واقع العالم بأسره، من دول وقادة ومنظمات، لا على واقع الوطن العربي لوحده؟! أم تُرانا لا نرى إلا ظلال الرجال وظلال القادة وظلال دول العالم؟! حقًا ما أشبه الاسم بالمسمى!
يجمع ديوان الشاعر “نزيف الظلال” بين ثناياه ثلاثة عشر نصًا شعريًا مفتوحًا على فضاءات لا متناهية، وهي نصوص متفاوتة في فنيتها، لكنها تمتد من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. تلامس أشعار الديوان مستويات ثلاثة هي: المستوى الذاتي ببعديه: الفردي والجمعي، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الإنساني! أما الشعر لديه فمنبعه من أعماق النفس، ومن شغاف القلب، ومن ضفاف الروح، فتراه جاريًا متدفقًا بانسيابية تصاعدية مرنة! يقول الشاعر عبد الناصر صالح في تقديمه للمجموعة على صفحة الغلاف الداخلي “شعر ينهمر كالشلال في الإبداع، ويطرح الأسئلة التي تخلقها حالة التفاعل مع دلالات التعبير النفسي. أسئلة الوجود والإنسان والحرية”(نزيف الظلال، الغلاف الداخلي)! لذا تراه يحاول، من خلال مجموعته الشعرية الجديدة، أن يكون مختلفًا، هذه المرة، في استخدامه للمفردات والألفاظ، وفي حسن تخيره للأفكار والمعاني، في توافق وانسجام تامَّين بينهما، وهو ما يسمى في البلاغة العربية: موافقة أو مطابقة الكلام لمقتضى الحال! فكل مبدع يستخدم الشيفرة الخاصة به في نتاجه “إن علاقة الشيفرة بالدال هي علاقة إشارية مترابطة ومتواصلة، ينفتح من خلالها الدال على استعداد شيفرته التي تتحدى سلطة القارئ”(4)! كذلك، يلحظ المتابع أن معظم قصائد المجموعة “نزيف الظلال” تمتح من تجربة حياة، أو من خبرة مسيرة ما، أو من رؤيا معينة. هي كشف لواقعنا الفردي والجمعي على حد سواء، من دون مجاملة أو مواربة. وهي، في الوقت نفسه، اختراق لذواتنا من دون استئذان! إنها تجسيد لأزمة الإنسان: عربيًا أولاً وعالميًا ثانيًا! أي على مستوى الوطن العربي تحديدًا، ومستوى البشرية جمعاء، والقضايا على مختلف أنواعها ومجالاتها المتعددة. تظلِّلها روح وطنية عالية تصل حدَّ الثورية أحيانًا، وثقافة فكرية متقدمة تلامس حدَّ الإنساني الأممي، والوعي الطبقي! ما يعني أن فيها من النصوص ما يمكن أن يتمتع به المتلقي، من الإدهاش والإغراء الشيء الكثير! يقول الشاعر:
“يا رفاقي
ليتنا نبقى قصيدة
للعصافير الطليقة
ليتنا نبض بلابل
لترانيم الجِنان”(رفيقة درب، ص71)!
كذلك قوله “أمنيات رائعات
يا نشيدًا في فضاء الفقراء”(وإذا، ص82)!
وقد ينطلق شاعرنا من رؤية متبصرة بمبدأ الالتزام، لكنه لا يقتصر على قضاياه الخاصة فشعره ملتزم بقضايا وهموم شعبه، وقضايا الأمة، والبشرية جمعاء، والتي تتراوح بين الوجداني والاجتماعي والوطني والإنساني. حيث نجد لديه مراقبة الواقع الحياتي المعيش، محليًا وعربيًا وعالميًا، خاصة الواقع القومي والانتماء الوطني، المغاير، وفق منظوره، لكل ما هو طبيعي وحقيقي وأصيل، واقع التجزئة والانقسام والانفصام والتشوه، والإخفاق المستمر، والبيئة القفراء من حوله، بفنية مبهرة وتوصيف دقيق لما يحدث فيقول:
“وأنا أعرف مثلك
بأننا لسنا كباقي الشعوب
نملك وطنًا واحدًا، بل أوطان”(تكامل الفوضى، ص46)!
كذلك لا يتردد في مجابهة ما يدور حوله من وقائع وأحداث بالرفض والغضب، فيشير إليها منبِّهًا من تبعاتها ومخاطرها، ولا يكتفي بالوقوف جانبًا مكتوف اليدين، إنما يبقى يقظًا عيناه صاحيتان لا تغفوان، تراقبان الأحداث عن كثب، وهو متداخل بها إلى أبعد حد، من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه، فيحمل همَّ الجماعة لا همه وحده، ولا يلتفت إلى قضاياه الخاصة به فقط، إنما إلى قضايا إنسانية تهم البشرية جمعاء! وذلك في محاولة منه نقل العدوى إلى الطرف الآخر، أي إلى إيقاظ القارئ أو المستمع إليه، يشد انتباهه، بغية إحداث التأثير الوجداني والتفاعل المطلوب، في نفس المتلقي. يقول:
“واشعليني
للصبايا الفارعات
ومرايا العاشقات
في ظلام الموت حبًّا
ليفيق الكون من هذا السبات”(بعث أبيد، ص11)!
إن أول ما يلفت نظر المرء في قصائد المجموعة الجديدة “نزيف الظلال”، هو اعتمادها على فنية التكثيف في العبارات، والتركيز والحشد في الأفكار، في لغة إيحائية يغلب عليها الإكثار من استخدام المجاز لاسيما الاستعارة، الأمر الذي يُتيح فرصًا كثيرة لابتكار أجمل اللوحات الفنية تصويرًا وتعبيرًا! أما الجمل فيها فهي قصيرة، لكنها تختزل في ثناياها من الدلالات والأفكار والمشاعر معًا ما يضيق المجال عن ذكره في هذه العجالة، وذلك رغبةً من الشاعر بأن يتفاعل المتلقي معه، فكرًا وثقافة ووعيًا! وتلك ضرورة من ضرورات تأكيد الرؤيا الشعرية، والحرص على إيصال فكرة ما مع ما يرافقها من قوة تأثيرها في المتلقي، ناهيك بأنها تعد من السمات المميزة للشعر والفارقة بينه وبين النثر. يقول الشاعر عبد الناصر صالح في مكان آخر من تقديمه للمجموعة بأنها ليست سردية، لكنها “تعتمد على الكثافة والتركيز ضمن رواية شاملة للواقع تنفتح على فضاءات الروح”! يضاف إلى ذلك، فإن المجموعة الشعرية الجديدة لم يفتها أن تترك مساحة من الفجوات أمام المتلقي، وذلك للمشاركة في عملية انتاج المعرفة، من تأثُّر وتأثير، وإثارة، وتفاعل، ودهشة، فتطلعه على قضايا وهموم من واقع الحياة، وتثير فيه ألف سؤال وسؤال! وبما أن المتلقي شريك حقيقي في الإنسانية، وفي هموم الحياة وأعبائها، وفي عملية الاستقبال والإرسال، فإنه يصبح جزءًا لا يتجزأ من النص، ومن فتنة السؤال، ومن البحث عن الحل أيضًا، إذ “تبدأ متعة القارئ عندما يصبح هو نفسه منتجًا”(5)!
ولم يعد خافيًا على أحد أن النص الجيِّد هو النص الذي يثير الأسئلة والتساؤلات، لا النص الذي يقدم الإجابات، خاصة أن السؤال مِفتاح المعرفة! وما ذلك إلا لكي ينهض القارئ بدوره المنوط به في عملية قراءة النص، وإضاءة جوانبه. من هنا، أمكن المرء أن يلحظ بأن الذات المتكلمة (الشاعر) والذات المخاطَبة (المتلقي) حاضرتان بقوة في أجواء قصائد المجموعة. يقول الشاعر عبد الناصر صالح “إن الشاعر مفلح طبعوني يؤكد، في ديوانه هذا، على أن الشعر الحقيقي ليس صياغة أفكار جاهزة أو آراء مستقلة مهما شرف المقصد وعظمت الغاية، وإنما هو كشف دائم يفتح أعيننا على الكون وينطلق من أعماق الذات إلى أرجائه”! فالشعر المتميز هو الشعر الذي يحرِّك المتلقي من الأعماق فيؤثِّر فيه فكرًا وعاطفة ووجدانًا، وينتابه شعور غريب من الانفعال والتفاعل!
ولا بد من إشارة مضيئة ولافتة أخرى، إلى أسماء بعض الشخصيات والأماكن التي يوظفها الشاعر في حشد مكثف في أشعار المجموعة. نذكر منها أسماء الشخصيات التي يذكرها الشاعر أو يلمح إليها في قصيدة(تكامل الفوضى، ص37): أورفيوس، وماسورة سرحان، وتوفيق زياد، وميسر عاقلة طنوس، وحسن عميري، وناظم حكمت، ومظفر النواب، وأرسطو، وابن رشد، نيرودا، وحنظلة، وشجرة الإبداع، وبتهوفن، والشيخ إمام، ومايكوفسكي، ولاعب النرد قصيدة محمود درويش، وجيفارا، والحلاج! لم يكن مصادفة استدعاء تلك الأسماء التي يوظفها المرسِل وهو الشاعر في شعره، إنما لأسباب عدة، بضمنها فنية واجتماعية وثقافية ووطنية وإنسانية، فضلاً عن كونها يمكن أن تشير بكل وضوح إلى هُوية الشاعر نفسه ومن أوجه عدة!
ما هو معروف أن النص الجيد هو ذلك النص الذي لا يكتفي بالقراءة الواحدة، أي أنه يرفض أن يُقفل الباب عليه بقراءة واحدة ووحيدة فقط، إنما تبقى مشرعة أبوابه على قراءات متعددة. علمًا أنه ما من قراءة يمكن أن تلغي أو تبطل قراءة أخرى، إنما قد تضيف عليها أو تنقص منها، أما أن تلغيها فلا! وأزعم أن نصوص الديوان الجديد “نزيف الظلال” لم تقرأ كما يجب، لنكتشف أنه توجد لدينا أزمة قراءة حقيقية أيضًا، لاسيما القراءة النقدية الإبداعية لمثل تلك الأشعار، وأعني القراءة المنتجة والمضيئة لا المستهلكة فحسب! والنتيجة أن قراءة محدودة قد لا تفي النَّص حقه، فتسيء أكثر مما تجدي نفعًا! فالقراءة نشاط اجرائي لا يقل إبداعًا وأهمية عن نشاط الكتابة الإبداعية ذاتها! وعليه فإن القراءة تصدر، كما يفترض، عن آليات الموهبة والكفاءة والثقافة والتجربة. أسوق تلك الملاحظة على أمل أن لا نتعجل في إصدار الأحكام أو إطلاق الكلام على عواهنه، لأنه قد ينجم عن ذلك إساءة مقصودة أو غير مقصودة للنَّص أولاً، ولكل ذي علاقة بالنص المتناوَل من مرسِل أو مرسَل إليه ثانيًا!
في إحدى القصائد (تكامل الفوضى، ص37) يعرض الشاعر للوحة فنية من متعدِّد، يُرى، من خلالها، متحسِّرًا متألمًا مما تراه عيناه أو تسمعه أذناه: من طيبة قلب فلسطين وشعبها! ثم ساخرًا غاضبًا لأن فلسطين “تنقش قوس نصرها بين النهدين”(تكامل الفوضى، ص44)! لأنه كلام لا يعدو كونه مجرد شعار واهٍ ليس أكثر! ويسخر كذلك بتألم من متابعة المسلسلات على مختلف جنسياتها! إلى خلفيَّات التركيات! إلى بعض الممثلين الأتراك!
في حين رأى بعض القراء: أن الشاعر، في تلك اللوحة، كان جادًا في ما يقول، لا على سبيل الغضب والسخرية والتألُّم! وأن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك، حين رأى في ذلك الكلام تناصًا، أراد الشاعر أن يزيِّن به أشعاره! وفي الحق، لقد فات هؤلاء أن الشاعر إنما يقول ذلك الكلام تألمًا وغضبًا وأسفًا، وعلى سبيل السخرية اللاذعة! ولا وجود لتناص في تلك اللوحة تحديدًا!
وثمة قراءة أخرى ترى في قول الشاعر “وخذيني للشموس الشامخات لأغني لعطايا الكبرياء”(بعث أبيد، ص6)! شموسًا حقيقية لا على سبيل التمثيل! حقًا هل يوجد في الكون أكثر من شمس واحدة ونحن لا نعلم؟! واضح من السياق أن الشموس هن الجميلات (وهن الصبايا الفارعات، بعث أبيد، ص11)! اللاتي يشبهن الشمس بجامع الصفات المشتركة، وكل احتمال آخر يسيء إلى المعنى والفكرة! علمًا أن المعاني والدلالات، لا سيما في الشعر، تتحدد من خلال سياقاتها، وبعيدًا عن معانيها المعجمية. ولست أعلم ماذا عساه أن يكون مصير من يذهب إلى الشمس! (وخذيني للشموس الشامخات)! ربما كلَّ شيء إلا أن يغني لعطايا الكبرياء!(لأغني لعطايا الكبرياء)! أخيرًا نحيل القارئ إلى ما ورد من شواهد حول الشموس، في الموروث الشعري العربي!
هنالك فقرة أخرى يمكنها أن تستوقف القارئ على النحو الآتي:
“اسكريني
من ربى عينيك في ليلة عيدي
ودعيني
أرشف الدمع من الخد الرطيب
أرقديني تحت نخلات السبيل”(بعث أبيد، ص13)!
أما وقد سكر الشاعر، في مناسبة سعيدة هي ليلة عيده، بتأثير سحر عيني المحبوب، وفيها غير دلالة واحدة متخيَّلة، فإنه يستأذنه أن يرشف الدمع عن خده الرطيب! وذلك تحايلاً عليه لأجل لثم خده وتقبيله! ولا أرى أي داع يستوجب التذكير بأن الخد قد أصبح رطبًا مبللاً بفعل الدمع! وعليه، لو استُبدلت عبارة الخد الرطيب بالخد الأسيل لجاءت أكثر ملاءمة وانسجامًا، بدليل أنه وقتذاك يجتمع للشاعر معنيان في آن لا معنى واحد فقط (دمع العين ونعومة الخد)!
كذلك، يمكن الإشارة إلى بعض الأخطاء النحوية أو الشكلية، وقد تكون أخطاء مطبعية مما اقتضى التنويه، مثال ذلك: “وشميني فوقِ صدر الناهدات”(بعث أبيد، ص19)! “وتحاصر ساحتِنا” “عن خالتُنا زكية”(الغائب الحاضر، ص58،60)! “فُحزيران خطوبٌ وكرب”(صور من تلاوين القدر، ص90)!

تجليات الأسلوبية التعبيرية
يلحظ المرء تجليات أسلوبية تعبيرية وتصويرية متعددة لدى نصوص المجموعة الشعرية الجديدة، وتلك الصيغ الفنية والبلاغية والمحددات النحوية إنما تعمل على تقوية المعنى وإعطائه بعدًا آخر، مثال ذلك:
• الجملة الخبرية: “ما زلت مع الثورة والثوار”(الغائب الحاضر، ص61)! “أنت في الحيِّ مرايا للحقيقة”(رفيقة درب، ص69)! “إنك الرايات في أفق البقاء”(رفيقة درب، ص70)!
• الجملة الإنشائية: “اسكبيني نفح روح للحياة”(بعث أبيد، ص17)! “وازرعيني في حكايا العاشقات”(بعث أبيد، ص18)! “أحرقيني فوق تل من ربيع”(بعث أبيد، ص24)!
من المعروف أن الجمل الخبرية أكثر قوة من الجمل الإنشائية، لما لها من إثارة لذهن القارئ والتأثير على مشاعره، وكشف وإخبار عن ذات المتكلم، كذلك!
في الجملة الإنشائية، يُرى الشاعر مكثرًا من استخدام فعل الأمر، أي طلب فعل الشيء وتحقيقه، علمًا أن فعل الأمر من السمات البارزة في الجملة الإنشائية. ومن أغراضه البلاغية أيضًا أنه يؤكد مدى التحسُّر أو التوق إلى نيل الشيء البعيد وتمني الحصول عليه أو تحقيقه في أقل تقدير. ومعروف أن فعل الأمر يتناسب إلى حد كبير وخاصية السرد. يقول:
“ازرعيني
كثمار المستحيل
واغزليني
شال عطر للجليل
خمريني… وارشفيني… احرقيني…”(بعث أبيد، ص23-24)!
• توظيف الفعل المضارع: نجده يستخدم الفعل المضارع أيضًا بكثرة، الأمر الذي يبيِّن استمرار الحالة الحالمة التي يعيشها الشاعر، في حركية فاعلة وإيقاعية لا تتوقف. يقول:
“هذه البسمة روحٌ
تتعرَّى… تتراقص… تتبرج… تتمجد… تتعبد… تتعمد… من شرايين اليقين”(بعث أبيد، ص20)! وذلك، للتأكيد على استمرار الشكوى في المجتمع، وبغية إضفاء الاستمرارية والحركة والحيوية على الحدث!
• نبرة خطابية: شدة في اللهجة ووضوح في الخطاب والتقريرية المباشرة في المفردات والمعاني، يقول:
“وأنا أعرف مثلك
بأننا لسنا
كباقي الشعوب…
عندنا أقواس نشابٍ
نقاتل بها الأعداء”(تكامل الفوضى، ص46-47)!
• أسلوب ساخر غاضب: يستخدم الشاعر ألفاظًا تحمل دلالات الغضب والرفض والسخرية، وذلك، تعبيرًا عما يجيش في صدره، أو يعتمل في نفسه، من واقع مر يصعب السكوت عليه أو تجاهله! كقوله:
“نركض بترف معسّل
حول مصائبنا
مع الغباء والعماء
يسعل القلق
من عرقنا
ويخجل التراب
من شحوب الورد”(ص122)!
• الحوار: وهو وسيلة فنية أخرى، على قلتها، في أشعار المجموعة، يوظفها الشاعر للكشف عن أفكاره وما يجيش في صدره، وما يعتمل في خلده من هموم وقضايا، وصولاً إلى تعميق الفهم والوعي والإقناع لدى المتلقي! مثال ذلك:
“قال لي يومًا حسن: نحن لحن الشعراء. ونسيم الثوراتِ…
قال لي يومًا حسن: بارد هذا الخريف…
قلت يومًا لحسن: أنت أيوب الأبد…
قلت يومًا لحسن: لا تخف حيفا ورود وبقاء”(ص92-95)!
• استعارة تنافرية(6): وهي صورة بيانية تعني الجمع بين لفظين متنافرين أو متناقضين لا علاقة جامعة بينهما، على نحو مغاير تماماً، مثال ذلك قوله:
“آه من طعم الفراق ونشاف الريق في بحر الجفاف”(بعث أبيد، ص11)!
كذلك قوله: “لملميني قبل صهد وهجير
أبعديني عن عذابات الصفيح
في الصقيع”(بعث أبيد، ص21)!
أيضًا قوله “إلا قليلاً من العاهرات والقديسات”(تكامل الفوضى، ص43-44)!
• توظيف التضمين في بعض القصائد: وظَّف الديوان أسلوب التضمين في بعض قصائده توظيفًا صحيحًا، مثال ذلك: “قطعن النصراويات مرج ابن عامر”الغائب الحاضر، ص59)! “حاطَّة القدم على القدم”(الغائب الحاضر، ص61)! “فالدنيا ما عادت دنيا”(الغائب الحاضر، ص65)! “بكرا العيد وبنعيِّد بنذبح بقرة اسعيِّد…”(غدًا العيد، ص110)! “رجب حوش صاحبك عني”(غدًا العيد، ص113)!
• توظيف التناص: لا تخلو قصائد الديوان الجديد من تناص هنا أو هناك، مثال ذلك: “عن ألحان أورفيوس
وماسورة سرحان”(تكامل الفوضى، ص41)!
في تناص مع توفيق زياد الذي يقول في سرحان “يقظًا مثل حمار الوحش كان”(7)! كذلك قوله: “فمنا “معمّر” الأوطان!!
وذاك الذي في السودان”(تكامل الفوضى، ص47)!
في تناص مع الشاعر العراقي مظفر النواب الذي يقول: “جرذ الأوساخ المتضخم في السودان”(8)!
• سفر الخلاص: على الرغم مما يخيم على الواقع من سوداوية وإحباط، ويحيق به من ظلام وفوضى، لكن الشاعر لا يستكين إنما يكتب سفر الخلاص، وهو يستنهض الروح ويبث فيها القوة والثقة بالنفس، والأمل والتفاؤل بمستقبل سعيد. يقول:
“لنبدأ من جديد
بزرع هذه العتمة
بالنعمة والنغمة
من قاع الأرض
إلى القمة”(تكامل الفوضى، ص49).
• ميلاد جديد: ثم يُرى وهو ممتط لصهوة الحلم، يستنهض الهمم، معلنًا، بكل أمل وتفاؤل، حتمية التجدد والانتصار، مؤكدًا أن الأزهار سوف تتفتح لتحل مكان الأشواك، لا محال، وكذا سوف تعقب الأحزان الأفراح، وليس الموت نهاية الحياة إنما بداية لميلاد جديد، وبعث جديد. يقول:
“اجبليني واجعليني
طينة البعث الأبيد”(بعث أبيد، ص25)! كذلك قوله:
“فبعد الشوك أزهارُ
وبعد الحزن أفراحُ
وبعد الموت ميلادُ”(دمشق، ص103)!

هوامش:
1. مفلح طبعوني: قصائد معتقة، دار عنات، رام الله، 1999.
2. : عطايا العناق، دار الماجد، رام الله، 2011.
3. : نزيف الظلال، دار الماجد، رام الله، 2014.
4. محمد صابر عبيد: شيفرة أدونيس الشعرية، سيمياء الدال ولعبة المعنى، ص11، منشورات الإختلاف-الجزائر و الدار العربية للعلوم ناشرون-بيروت، 2009.
5. فولفغانغ إيزر: فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ترجمة د. حميد لحمداني و د. الجلالي الكدية، ص56، منشورات مكتبة المناهل، فاس، 1994!
6. موسى ربابعة: جماليات الأسلوب والتلقي، دراسات تطبيقية، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع، ص11، إربد، 2000.
7. توفيق زياد: عمان في أيلول، سرحان والماسورة، ط2، ص65، مطبعة أبو رحمون، عكا، 1994!
8. مظفر النواب: الأعمال الشعرية الكاملة، تل الزعتر، ص176، دار قنبر، لندن، 1996.

د. محمد خليل

m7md5lel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة