ليلة سقوط الإنسانية
تاريخ النشر: 15/03/13 | 23:49كتبت كفرنبل (المدينة السورية ) في 14 تشرين الأول 2011 "يسقط النظام والمعارضة، تسقط الأمة العربية والإسلامية، يسقط مجلس الأمن، يسقط العالم، يسقط كل شيء"، لترفع اليوم في ذكرى مرور عامين على الثورة لافتةً كتبت عليها: "آذار 2011: مفصل تاريخٍ سجّل ليلة سقوط الإنسانية".
ربما لا شيء أصدق تعبيراً عن واقع الثورة السورية مما صرخت به كفرنبل، فبعد كل تعويل السوريين في البداية على الهامش الإنساني لدى الرأي العام العالمي أو الدول الفاعلة وإن كان من باب الحياء لتسقط كل المعادلات، فلم يكن أحد ليتوقع أن تقبل منظومة العالم المعاصر اليوم هذا الشكل من الوحشية والانتهاك السافر لحقوق الإنسان.
في آذار 2011 أمسك السوريون أدواتهم كاملةً لنقل الصوت والصورة، ولنشر الفكر الثوري بمختلف الوسائل، مقابل وسائل النظام الإعلامية أو القمعية أو السياسية أو حتى الشعبية منها، ظن السوريون يومها أن صورهم ستستحضر إنسانية الشعوب التي تتباهى بحضارتها، وأن موتهم وقضيتهم المحقة ستدفع البشرية للدفاع عن كرامتها وحق الإنسان بالحياة كأضعف الإيمان.
يميل البعض اليوم لتغيير المصطلحات بين تمرد أو أزمة أو صراع أو حربٍ أهلية، لكنها الثورة، لاشيء أصدق في وصفها من ذلك، فحين خرج الشارع لم يكن ليفكر حينها بالتسميات أو التواريخ التي يختلف عليها البعض لتحديد يوم الاحتفال أو وصفه، خرج السوريون لأنهم تعرضوا للإهانة والذل طوال أربعين عاماً مضت، لأنهم شعروا بأن التغيير بات ممكناً مع بدء الربيع العربي، خرجوا لأنهم لم يشاؤوا لأولادهم أن يعيشوا كأسرى لمنظومة "الأبد"، تلك المنظومة التي ألغت فكرة الحلم عند السوريين لعقود أربع، وجعلت حروفهم تتلى بأصواتٍ خافتة لأن "الحيطان لها أذان"، تركتهم ليجهلوا بعضهم البعض ليتحول الآخر (مناطقياً أو مذهبياً أو عرقياً) إلى مجموعةٍ من الأساطير، لتقوم الثورة بإعادة هيكلة أطر الأسطورة الجامعة محولةً إياها من أساطير الغرباء إلى أساطير الأحبة والوطن الموحد.
ثمانون ألفاً قالت بهم الأمم المتحدة استشهدوا على أرض الوطن، ثمانون ألفاً ممن استطاعوا للتوثيق سبيلا، وآلاف آخرون لم يحظوا حتى بحق الاعتراف بالموت، وغيرهم من المفقودين والمعتقلين والمخطوفين والمغيبين بشتى الطرق، وآلاف المصابين والمشوهين، وشعب كامل يجر آلامه بين من فقد عزيزاً أو منزلاً أو وطناً بأسره.
عامان ولم تتوحد المعارضة لتشكل قوة سياسيةً فاعلة وقادرة على التحرك دولياً حتى تستطيع انتزاع شرعيتها وتحقيق تمثيلٍ حقيقيٍ للشعب، عامان ازدادت خلالهما الصراعات السياسية وضوحاً والانقسامات في المحافل الدولية والسورية، عامان وعداد القتل يزداد نشاطاً وكثافةً، والمجتمع الدولي لا يأتي بأكثر من تصريحاتٍ وتنديداتٍ وشجب ووعودٍ لا تلبث أن تطلق حتى يأخذها النسيان.
قد يظن الناظر من بعيد أن السوريين لم يحققوا أي شيء ولم يجنوا سوى الموت والتشرد، وعامان مرا والسوريون ما زالوا يحتفظون بالأمل، ولو بالبعض منه بأنهم مقبلون على نصرٍ قريب، مقبلون على وطنٍ سيبنونه كما أرادوا دوماً، حراً كريماً ديموقراطياً يحفظ لهم كرامتهم وأحلامهم، وإن لم يعد الكثيرون ليحلموا بلحظةٍ يحتفلون فيها بالانتصار الأكبر معاً، ليعيشوا انتظار هذا اليوم، علهم يمارسون حقهم بالبكاء بسلامٍ على كل ما مر من ألم، لكن السوريين يعلمون حجم انتصاراتهم التي جنوها حتى اللحظة، ويدركون أن من استشهد منهم، لم يرحل رخيص الثمن، وأن ما وصلوا إليه الآن لم يكن حتى في إطار الحلم قبل عامين، فمن كان يجرؤ على البوح بما في نفسه في سوريا؟
ومن كان ليستطيع أن يكتب ويناقش ويرفض ويقبل ويوقع وينشر ويصور ويرسم ويمارس وجوده وكيانه المستقل من قبل؟
السوريون انتصروا من اللحظة الأولى عندما كسروا الخوف وأعلنوا انتماءهم للحياة، أما العالم فسقط لحظتها، وربما كان أبلغ ما أدركناه هو ما قاله أهالي كفرنبل اليوم أيضاً "أيها العالم: عذابنا كشف أن الإنسانية التي تتفاخرون بها، هي وحدها ما يجب أن تخجلوا منه".
يسقط كل شيء… ويحيا الشعب.