أنا … والنهر… وذلك العصفور
تاريخ النشر: 05/07/15 | 16:10هو ذلك النهر الذي يفصلني عن الجانب الآخر للمنطقة، يروق لي أن أتساءل جل وقتي عن من يسكن الضفة الأخرى وماذا يفعلون، وبأي الأمور يقضون وقتهم، وبمَ يشتغلون، هو ذلك النهر العريض نوعا ما، الذي بكل ثقته وصوت مائه العذب الجميل، يحيرني، ويحملني من الشوق أطنانا لأعرف كل ذلك، يتحداني وبكل سخرية يسألني أن كنت أعرف، فيستفزني بتحديه، وأطرق أفكر وأقلب بصري في الحجارة التي استقرت في قاعه، وكأنه يخيفني ويذكرني بأنه أن أحب سيحركها، وأن أراد سيشل حركتها ويثبتها هناك، وهل للخوف أن يتسلل إلى قلبي؟! وأنا التي ما انثنيت يوما عن مبدأي، فإن كنت يا نهر عنيدا، فاعلم أنك قد أخذت عني فلسفة العناد، وإن كنت قاسيا، فللقلب تقلبات وكم يسعدني أن أرد القسوة بقسوة وأخرى، فالصاع عندي يرد بصاعين، لأن الكرم من طبائعي وسجاياي.
ويستمر الجدال بيني وبين النهر، ويعلو الصراخ، وتحمر الوجوه، ولا نصل إلى اتفاق من أجل الضفة الأخرى، هو يتحداني إن كنت أعلم، وأنا أصر أنه أيضا لا يعلم، ليتني أستطيع الوصول إلى الضفة الأخرى لأرى ما فيها وأستمتع بحلاوة الاكتشاف، ولكن كيف لي أن أصل إلى هناك؟
وبيني وبينها نهر عنيد؟ ولست إلا فتاة قاسية الرأس، فهو يصر دائما على أن يذكرني بأهميته بالنسبة لي، حيث أنني لا مناص لي من اجتيازه للوصول للضفة التي أريد، بيد أن ثرثرته تزيدني عنادا وغضبا، وأقول بنبرة الواثق الساخر أن كنت تفصلني عن الضفة الأخرى، وهذا ما علي فعلا الاعتراف به على مضض، فأنت في مكانك مستقر، تتحرك حركتك الموضعية الثابتة التي لا تتغير، أن كنت لا استطيع أن أعبرك بسبب خلافي معك، فأنت لا تستطيع أن تعبر نفسك إلى الضفة الأخرى، سامحني يا صديقي النهر على قسوتي، لكنها مرارة الحقيقة.
يصمت النهر قليلا مخفيا حزنا أنا أدرى به، ويتجاهل كلامي ليحدثني عما سمعه من العابرين نحو الضفة الأخرى عنها، لكني سألته عنهم، فلم يجب إلا بأن أخبارهم قطعت منذ أن تجاوزوه، فأصدقه ولا أصدقه.
وفي قرارة نفسي أضمر من الخطط ما ليس للنهر أن يعرف، ولا أن يخطر بباله، فهذا عصفوري الصغير، أعددته، بالطعام والشراب زودته، وهمست بأذنه عن مرادي وأطلقته على مرأى من النهر ليأتيني بالأخبار.
يتعجب النهر، وأقول مفاخرة ” غدا أو بعد غد” سيكون لدينا الخبر، ويأتي الغد ومن الصباح حتى المساء انتظر عصفوري، فيشتد بقلبي القلق تارة، ويشتد الأمل بي طورا آخر.
أحس أن النهر يود أن يسأل عن عصفوري، ببراءة مبطنة بخبث خفي، فأقول له_ مراقبة لون السماء_ في الغد سيعود، وأستمر طوال الليل بالدعاء، أريد أن يعود عصفوري، ليس بالخبر، بل أن يعود كما كان عصفوري الجميل ولو بلا أخبار، فلست أبالي بما وراء النهر.
ويأتي نهار الغد وتغيب شمس أصيله عاكسة بلونها الحزن على الحجارة البيضاء التي تترامى على ضفتي من النهر، عصفوري لم يعد، ويحك قلبي!
غاب عصفوري، ويحك أيها النهر! هل أصابه مكروه؟
فتصيبني نوبة الجنون عليه، ويحاول النهر أن يهدئني، فأذكره بعابريه الذي عبروه ولم يعودوا من قبل، واذرع الأرض جيئا وذهابا،
والاضطراب يسود كياني، فأصل إلى ما وراء الجنون، ولن يسلم النهر مني فآخذ بعضا من حجارة ضفتي راشقة بها صفحة النهر ، محولة صفاء وجه إلى كمد وحزن من دوائر ومويجات كانت كبيرة وصغرت شيئا فشيئا، فيتعكر ذلك الوجه الصبوح الذي كان صبوحا دائما رغم كل الملاحم التي كنا نخوضها سويا في حقيقة الضفة البعيدة وما فيها ومن عليها.
وأملأ أنا الدنيا ببكاء ليس له مثيل، فيزداد النهر عجبا، ويشفق علي، فيطلب إلي أن أجوزه رغم أني رشقت منذ قليل بالحجارة صفحة وجهه، فأقول : هل تريد أن تتخلص مني، فالعابرون منك لم يعودوا إليك، وكأني بهذا أضفت للنهر من جراح قد صنعتها في قلبه واحد آخر، لكن ” ما لجرح بميت إيلام”.
واقضي ليلتي بجانب النهر، أشعل نارا والحزن يلفني ببرد تواجده، وما زال النهر يسامرني بأحاديث ليس عمن عبروا ولم يرجعوا ولكن عن عصفور سيعود، وأنا ما زالت أقاطعه وأؤنبه : وأقول ما ذنبه فيما كان بيننا؟
ويطلع الصباح، على قلبي الكسير على عصفور صغير، والنهر لم ينم ولم أنم أنا، ومع شروق الشمس يلوح في الأفق من بعيد عصفوري الصغير عائدا، فأقفز أنا فرحا ليحط على كتفي هامسا بأنه لم يصل إلى هناك وأنه قضى الوقت محاولا الوصول، وأخبره بأن ذلك جميعه لم يكن مهما، المهم انه عاد إلي، وبفرحتي هذه أتأهب لأرشق النهر بحجارة صغيرة جديدة، ولكن أنا وعصفوري هذه المرة، فسامحني أيها النهر العزيز، يا مستودع حزني وفرحي، لأني رشقتك وسأعاود فعلتي مرة أخرى، لكن قبل أن أقوم بشقاوتي الأخيرة، فلنتفق أننا سندير للماضي ظهورنا، ولن نتساءل يوما عن أهل الضفة الأخرى.
سناء ناجح عليوي