وها قد سرقوا رمضان أيضا!

تاريخ النشر: 05/07/15 | 11:39

لست ممن يحتفون برمضان أو ينتظرونه كثيرا، فكيف لكائن من قهوة ومزاج متقلب في الطعام والنوم أن يجد ذاته في شهر نهاره بلا قهوة، وليله طعام؟ كما أن الإيمان بالنسبة لي حقيقة داخلية مستقرة، وليس طقسا يتغير بتغير المواسم، الله هو نور قلبي وحقيقة وجودي، وصديقي الأول والأخير في كل زمان ومكان، فلا أحتاج حالة كهنوتية تقربني إليه في زمن ما، وتبعدني عنه ما أن ينتهي.
أيضا الطعام بالنسبة لي فائدة وليس متعة، ولذا فلذائذ رمضان تشكل عبئا على نظامي الغذائي وحيرة أمام شهر يأتي بعاداته وطقوسه، سيما في مجتمعاتنا التي مزجت الديني بالاجتماعي حتى أصبح الفصل بينهما مستحيلا.
ومع هذا ومنذ التاسعة وأنا أصوم رمضان إيمانا واحتسابا، ولا أظنني أستطيع غير ذلك، مالم يخذلني جسدي بمرض، أو يربكني سفر، لعدة من أيام أخر، فرمضان فرض واجب، في ديننا، وديننا هو الطريق الذي نعرفه ونألفه ونرتاح به وله للوصول لله، ولكل طريقته وطريقه.
كما أن رمضان أصبح مكوّنا ثقافيا إسلاميا، وذاكرة مكانية وجمعية تتلخص في فرح التجمع، وروح الصيام، وضحكات الأطفال، والموائد العامرة، وتبادل الطعام بين الأهل والجيران قبل الأذان، أصوات الآباء تتحشرج بالدمع وهم يقرأون القرآن قبيل الغروب، انتظار أذان المغرب بشغف، السحور الذي نستيقظ إليه مسرنمين فلا نعرف ما يدخل في جوفنا امتثالا لرغبة الأم، وواجب الصيام، وهربا من جوع مقبل لا ريب، العطش الذي يحاصر أوردتنا فنرده بالصبر والإيمان، «شوربة الحب» و»لقمة القاضي» وغيرها من الأكلات التي لا تتجلى إلا مع ظهور هلال رمضان. سوالف الفطور، والسهر حتى أذان الفجر، والنوم ببطون لا تكاد تجتر النفس من كثرة الطعام، والتسابق للمطابخ بعد صلاة العصر لتمضية الوقت أكثر من صناعة الحلويات وأكلات رمضان. توزيع الطعام بين الرجال والنساء والأطفال والجيران، و»اللولاة» و»الزلابيا» التي يحضرها الرجال من السوق، حيث يلذ لهم بعثرة الوقت حتى موعد الإفطار، وقد لا يأكلها أحد. وهو أيضا حالة روحية توحد الجمعي والفردي في لذة الإيمان، وسمو الأرواح، تبدأ بدعاء دخول رمضان وعقد نيّة الصوم كلما هلّ شهر الصيام، وصوت صلاة التراويح الذي يجرح قلوبنا باللهفة والإيمان، دعاء الأمهات، تلاوة القرآن، والتنافس في ختمه أكثر من مرة ووهب ذلك عن أرواح الموتى. صوت النقشبندي، والأناشيد الرمضانية التي تنطلق من المذياع من كل بيت ممتزجة مع رائحة الطبخات الرمضانية الخاصة، والتي قد لا تخلو من الموسيقى، فلا يكترث أحد سوى بالمعاني التي تعمق الإيمان وتروي الروح العطشى بالحب الإلهي الصادق.
رمضان كان واحة سلام للقلوب، ولجة نور للأرواح، ومساحة تأمل نتعرف فيها على أنفسنا أكثر، ونقترب من الله أكثر، ونشعر بالإنسان، ونتفكر في الكون.. أكثر وأكثر. أما رمضان اليوم فقد أصبح غريبا بيننا، فالمجتمعات العربية تذهب عاما بعد عام في إعادة تصنيع الدين وفق مصالحها السياسية والاجتماعية، وتتغير الطقوس الدينية حسب الحالة النفعية في تخلٍ نسبي وابتعاد متفاوت عن هدف العبادة، أو قيم الدين، وليس أدل على ذلك من رمضان الذي أصبح ـ للأسف ـ سوقا مفتوحة للإسفاف والإسراف بكل اتجاهاته الغذائية والفنية والإنسانية، فلا أحد يعمل في رمضان سوى المطاعم والمقاهي وربات البيوت، وصناع الدراما والإعلانات، كما أن الحكمة الجلية من الصيام، وهي الإحساس بجوع الفقراء، قد انتفت تماما، هذا إذا لم تتحول لمكايدة وقحة لهم بكثرة الطعام والموائد العامرة، أكثر من أي وقت في العام.
أما الحالة الروحانية فلم تعد أكثر من حالة دعائية سمجة للتدين والخشوع والامتثال لأمر الله، حيث يتحوّل الأغلبية مع دخول رمضان أو قرب دخوله، لدعاة للرب والعبادة، مع ما يصاحب الحالة من تصنع التدين، ومغازلة السماء بالأدعية، فينشط الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي (الواتس أب، والفيسبوك، وتويتر، والانستغرام) فتتغير صور «البروفايلات» وتكثر مسجات الأدعية، والدعوة للتوبة، والخير والإخلاص، وبر الوالدين، والصدقة، والأمر بالمعروف وغيرها من القيم الإسلامية، وكأن الله يعبد في رمضان فقط.
ومع تقدير ما يتطلبه هذا الشهر من تكثيف العبادة، إلا أن الأمر يصبح مثيراً للسخط ومملا، حتى يتبادر لذهنك أن تصرخ في الجميع أو تبعث برسالة عامة فحواها: أنتم بحاجة إلى طريقة أسهل وأضمن للوصول الحقيقي إلى الله، الدعاء الحميم والقريب بين يديه مباشرة، إنه لا يريد وسائط بشرية أو الكترونية بينه وبيننا، هكذا خلقنا وهكذا أمرنا. فلماذا تلجأون إلى البحث عن الله وهو في قلوبكم؟ ولماذا هذا السيل العلني من الأدعية، وهو علام الغيوب؟
وكان يمكننا أن نقف عند هذا الحد، لندعي أنه تأثير الحياة العصرية، والتقدم التكنولوجي، وتداعيات الرأسمالية البغيضة، والعولمة التي مسخت المجتمعات لحالة متشابهة، وسرقت الخصوصية الإنسانية لكل منها؛ ولكن ما حدث في هذا الشهر من الدموية والوحشية، والقتل الوقح والصفيق لضيوف الرب، وعباد الرحمن، لمسلمين يصلون في بيوت الله، وفي خيرة أيامه (الجمعة)، وفي شهر رمضان المبارك، تجعل المرء يتساءل: هؤلاء القتلة، بأي رب يؤمنون؟
إن تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت، أصاب العالم بالذهول، واستدعى كل القتل القبيح والمتكرر لمسلمين، لأشقاء الدم والدين والتاريخ والذاكرة والمكان في (السعودية، وتونس، ومصر، وسوريا، والعراق) وما غيرها ببعيد عنه، فهو الشر الكامن، والذي لا يعرف المرء متى يفصح عن وجهه القبيح، وعن فعله الدنيء، وأين، ناهيك عن الدول الغربية التي فتحت لهم أبوابها واحتضنتهم حين نفتهم أوطانهم. هذا القتل الصفيق من مدعي التدين، القتل الطائفي البغيض الرامي لخلق الفتنة والشقاق، وإذكاء روح التفرق بين المسلمين، هذا الزهق الدنيء والجاحد لأرواح مسالمة، باسم الرب الرحيم، وفي شهره الكريم، وهو منه، ومنهم، براء.
فنحن هنا لا نتحدث عن الطغاة، والسفلة والمجرمين، بل نتحدث عن متدينين يوهموننا بأنهم يعبدون الله، ويحبون الله، وأن الله أمرهم بما يفعلون! وهاهم يقتلون مصلين تقربا لله، ويمنحون صك الغفران لأطفال أو معتوهين، لقتل مسلمين يسجدون بين يدي خالقهم، فمن هؤلاء؟ ومن أمرهم بذلك؟ ومن سوّغ لهم أفعالهم القبيحة؟ ومن منحهم هذه الهالة المقدسة؟ ومن قدّم لهم فتوى تحليل الانتحار والقتل واعتباره شهادة، والانتحار في الإسلام جريمة، لا تقل عن قتل نفس أخرى، فكيف بمن يقتل نفسه، ويقتل مسلمين آخرين، كيف يمكن ان يكون مسلما، أو إنسانا؟ فحتى الجهاد فيه نسبة نجاة ونصر، أما تفجير النفس فهو موت حتمي، هذا ناهيك عن قتل مسلمين ساجدين لربهم. فهل يختارون معتوهين، أو يشرّبونهم ما يمنعهم من التفكير السوي، أو يخضعونهم لجلسات غسيل مخ حقيقي فسيولوجي؟
وما هذه إلا مجرد انعكاس لهستيريا كونية تتمدد في الخارج، من جرائم داعش المخزية باسم الله والإسلام، وحتى الجهل الممتد من الماء للماء والذي يبيح القتل والسلب والتكفير، ويسوّغ القبح والحقد والكراهية بكل مسمياتها الدينية والفكرية والاجتماعية، مرورا بالظلم والفساد الذي ينخر مجتمعاتنا (المسلمة!) ويكبل إنسانا ويتعالى فوق القانون، لأن له اليد الطولى والقوة الراجحة الكفة، وليس نهاية بالجوع الذي يثقب أمعاء البشر في العديد من بقاع هذه البسيطة، في حين يلقي الصائمون (تقربا لله!) كل يوم أطنانا من الطعام في سلة المهملات، وهم يرددون الأدعية بالرحمة والمغفرة، أمام شاشات التلفاز العريضة التي تتفنن بدورها في بث أطنان من التفاهة المخزية.
إننا نعيش مرارة لا يشفع لها رمضان، كما لا يشفع للإنسان الحقيقي كل المحاولات الجمالية التي يحاول بثها في الوجود أملاً، شعرا وفنا وغيرها من إبداع الإنسان المناضل بالجمال ضد القبح، فالقبح أكثر بكثير. لقد سرقوا منا كل شيء، ديننا، وإنساننا، وأحلامنا في غد أجمل، وبتنا بحاجة ماسة إلى أن نتحرر، ونحرر ديننا من كل هذه الوجوه والأفكار البائسة بكل الوسائل والطرق الممكنة، قبل أي خطوة نحاول بها الذهاب نحو المستقبل.
فاطمة الشيدي – كاتبة عُمانية
xxcc

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة