بيت نظيف أم أسرة سعيدة ؟
تاريخ النشر: 20/07/15 | 8:18ينظر إليّ نظرة خبيثة “من تحت لتحت” ليتأكد أني لا ألحظ ما يقوم به، ثم يضع يده الصغيرة في كوب الماء، ويأخذ بعضًا منه، ويضعه على الطاولة، ويحرك يديه المبلَّلة على الطاولة في سعادة.. ثم ينظر إليّ مرة أخرى ليتأكد أني لم ألحظ ما يقوم به ليستمر فيه.. فيدرك أنني أراه.. فيبدأ في التشبُّث بالكوب والنظر لي تحدٍ.. وأهم أنا أن آخُذ منه الكوب.
هنا بدأت أتساءل.. لماذا سآخذه منه؟ لكي تظل الطاولة نظيفة؟ ولماذا أريد للطاولة أن تظل نظيفة؟ لكي أكون سعيدة ومرتاحة؟ وهل سأكون سعيدة وطفلي يبكي في حرقة حين آخُذ منه الكوب؟ حسنًا، هل سيكون هو سعيد بالطاولة النظيفة، أو بالبيت النظيف المرتب، إذا كانت تلك النظافة سببًا في حرمانه من تجربة أشياء جديدة، ومن اللعب على حريته؟
في الحقيقة إن الطاولة ككل المنزل.. موجودة لكي نستعملها، فتتسخ، فننظّفها، ثم نستعملها، فتتسخ، فننظّفها.. وهكذا إلى ما لا نهاية! لا يمكن أن يظل المنزل نظيفًا ومرتبًا طوال الوقت! لو حاولنا أن نحافظ عليه نظيفًا فهذا معناه أننا لن نمارس حياتنا بشكلٍ طبيعي! هذه ليس دعوة للإهمال في نظافة بيوتنا وترتيبها، ولكن دعوة للتفكير بواقعية، والتوقف عن تعريض أسرنا لضغطٍ عصبي بهدف الحفاظ الدائم على نظافة البيت.
فلنسأل أنفسنا.. لماذا نريد بيوتنا مرتبة ونظيفة؟ الإجابة الحقيقية لهذا السؤال هي أننا نريد بيوتنا مرتبة ونظيفة كي نعيش في سعادة، ولكن للأسف مع التعب والعمل المستمر لتنظيف البيت وترتيبه ننسى الإجابة الحقيقية لهذا السؤال.. وينقلب الهدف! بعد أن كان الهدف هو العيش بسعادةٍ وراحة، يصبح الهدف هو الحفاظ على نظام البيت ونظافته! وبدلًا من أن تكون نظافة البيت ونظامه مبعثًا على السعادة والراحة لساكنيه، تتحول إلى سببٍ في تقييد حريتهم وتحجيم تحركاتهم!
وللأسف يصبح الحفاظ على نظام البيت سببًا للصراخ والخلافات بين ربة المنزل التي تتعب كثيرًا في تنظيفه وبين أبناءها وزوجها الذين تراهم غير مقدّرين لمجهودها، وترى في تصرفاتهم وإهمالهم –من وجهة نظرها- سببًا في ضياع ما أنجزته طوال اليوم! هنا يجب أن نراجع أفكارنا وسلوكنا بصدد هذا الموضع، ويجب أن نعيد برمجة أنفسنا على التالي.. من العادي أن يكون البيت غير مرتب أحيانًا.. هذا شئ طبيعي وصحي.
اللعب المتناثرة تقول أن هناك أطفالًا سعداء في هذا المنزل. الأطباق في حوض المطبخ تقول أن هناك أسرة سعيدة تأكل طعامها. الملابس والأحذية تقول أننا نخرج وندخل، ونعود إلى منزلنا لنرتاح. غرفة الجلوس جُعِلَت لنجلس فيها، ونأكل فيها على راحتنا، ويلعب فيها أطفالنا.. فمن الطبيعي جدًّا أن تكون أكثر غرف المنزل تعرضًا للكركبة المستمرة. من الطبيعي أن نعود من الخارج منهكين فنترك ملابسنا على السرير مؤقتًا حتى نرتاح ونعيدها إلى مكانها. هذه الأشياء لا يجب بأي حال من الأحوال أن تسبب لنا ضيقًا أو عصبية. فهي أشياء تحدث، وستحدث بشكلٍ مستمر. ليس الحل أبدًا أن نحاول أن نمنع هذه الأشياء من الحدوث، ولكن الأجدى أن نتفق سويًّا أن كل فرد سيقوم بالترتيب وراءه بعد الانتهاء مما يفعل. اسمحي لأطفالكِ أن يأكلوا على راحتهم، ويستخدموا أيديهم، ولا تقيّدي حريتهم خوفًا من الفوضى. اسمحي لهم أن يلعبوا كما يريدون، وأينما يريدون، ولا تتأفَّفي من لعبهم المبعثرة. تقبَّلي أن يترك زوجكِ ملابسه وحذائه بلا ترتيب لبعض الوقت ليرتاح. اسمحي لنفسكِ أن ترتاحي قليلًا بدون تأنيب ضمير قبل أن تنظّفي الأطباق. اسمحي لنفسكِ ولأسرتكِ بفعل ما تريدون، ولكن علّميهم أيضًا أن نظافة وترتيب المنزل هو مسؤولية مشتركة لكل من يعيش في المنزل من أصغر فرد حتى أكبر فرد. كلنا سنأكل ونشرب سويًّا كما نريد، ثم سيحمل كل منّا طبقه وكوبه إلى المطبخ، وسنقسم المهام لننظّف مكاننا. سنلعب كما نريد، ونبعثر ألعابنا حولنا أثناء اللعب، ولكن حين ننتهي سنتعاون سويًّا لنضع كل شئ في مكانه. سنضع ملابس الخروج على السرير أو الكرسي لبعض الوقت، ثم بعد أن نرتاح قليلًا ونغسل أيدينا ونشرب كوبًا من الماء، سنضعها في مكانها. وهكذا، مرة تلو الأخرى سيعتاد كل فرد من أفراد الأسرة هذا السلوك، وسنقوم بكل مهامنا بدون ضغط عصبي واستعجال غير مبرَّر. أما إذا كنّا نظن أننا بالسلوك الصارم الشديد نعوِّد أبناءنا على النظافة والنظام .. فنحن في الحقيقة نفعل العكس تمامًا! فحينما يرى الطفل أن النظافة والنظام هما عبارة عن قيدٍ لحرية حركته ولعبه وأكله وشربه في البيت، ويرى أنهما سببًا للكثير من الصراخ والمشاكل بينه وبين والدته.. فسيكرههما! حتى وإن التزم بهما لبعض الوقت تجنُّبًا للمشاكل، ولكنه عند أول فرصة سيتركهما تمامًا، وسيفضِّل الفوضى وعدم النظام، وسيرى فيهما التحرر من ذلك القيد الذي ملّ منه. حين يصبح النظام والنظافة سببًا لراحة أسرتكِ فعلًا، وحين يكونان مسؤولية مشتركة للأسرة بأكملها، وحين نصل إليهما بالتعاون والحب.. حينها سيحب أبناءنا النظافة وسيعتادونها بكل سلاسة. أما عن صغيري الذي أخذ ينظر إليّ في ترقُّب لرد فعلي –الذي تأخر كثيرًا- على ما يفعله.. فقد ضحك في سعادة حين رأي ابتسامتي الواسعة المشجعة له، وأخذ يكمل لعبه بالماء.. وحين انتهى، أعطيته منشفة صغيرة ليجفِّف بها الطاولة، ثم غسل يديه.. وانتهى الأمر.