الفلسفة أسلوب للحياة
تاريخ النشر: 15/04/13 | 3:12 عندما أسائل نفسي عن جدوى انشغالي بالفكر عموما والفلسفة خصوصا، أكاد لا أجد عذرا يشفي غليلي عدا كوني مهووسا بعشق الحياة. فبفضل هذا العشق وحده، أسترسل في قطف أزهار العمر، دونما كلل وأتحمّس للعيش كلّ يوم بيومه كما لو كان أو سيكون الأخير. على هذا النّحو، أختبر الحياة لا كفكرة بل كواقعة، واقعة تجبرني على الفعل أكثر منه على التّنظير. وتدفعني إلى البناء بدلا من الاكتفاء بالتّأمّل. من ثمّة حاجتنا للإيطيقا لا الأخلاق. الأولى تفضي بنا إلى النّظر إلى الحياة كظاهرة جماليّة، بيد أنّ الثّانية تُكْرِهُنا على الأخذ بالقبليّات وافتراض المسلّمات، وهو الخطير اعتقادٍ راسخٍ في الماورائيّات. نورد هذا التّوضيح لا لشيء إلاّ لأنّ نهج أسلوب إيطيقي في الحياة، لا يُبنى على فرضيّات وركام من المسلّمات، بل على وقائع معاشة ليس إلاّ. بعدئذ فقط، تغدو الحياة ممكنة، ولن نكون في حاجة للعثور لها على مبرّر خارج عنها، أيّا كان هذا المبرّر، تيولوجيا أو فنومنولوجيا. الحياة إذن أخلاق تُبنى وتًصنع، على قوام قاعدة فنيّة و أسلوب متعوي. وكلّ إنسان منذور للعيش، ملزم بالعمل على بناء ذاته، وتكوين نفسه حتّى يرقى إلى مستوى يليق به باعتباره كذلك. من ثمّة الحاجة الماسّة للفكر، بحيث يُمَكِّننا من بناء منظور، دقيق يكون بمثابة بوصلتنا للتّوجّه في جغرافيّة الحياة.
وبفضله فحسب، نضحي حكماء أنفسنا، ونستطيع أن ندرك وبوضوح كلّ أمورنا في الوقت الذي يتخبّط فيه عامّة النّاس في الظّلام وسوء التّقدير لشؤونهم. فأن يغدو المرء حكيما يعني من بين ما يعنيه، أن يتوفّر على ما يكفيه من قوّة وسلاسة سواء عند الاشتغال الذّهني أو البدني. أن يُبَيِّنَ على مقدرته على تحقيق كلّ ما يستعصي عموما على الآخرين. أن يكون آهلا لاكتشاف العلاقات الأكثر حميميّة التي تربطه بالعالم من حوله. أن يحرز، دونما ارتباك، الكايروس، تلك اللّحظة المناسبة للتّصرف. أن يعرف أن يميّز بين العام والخاص، أن يكون في مستوى الأحداث كما يؤكّد الرّواقيّون، أن ينمّي قدراته المعرفيّة قدر ما ينمّي مهاراته الجسديّة. سيرا وراء ذات النّهج، ورميا إلى بناء إنسان راق، صرّح الفرنسي فيليب صولرز مرّة بأنّ القراءة هي الحياة موضحا أنّنا لن نكتب على نحو جيّد إلاّ إذا كنّا نقرأ على نحو جيّد، لكنّنا لن نقرأ على نحو جيّد إلاّ إذا كنّا نحيا على نحو جيّد. وإذا كانت الكتابة والقراءة والحياة، قضايا متّصلة ببعضها البعض على نحو لا يقبل الانفصال، فذلك يرجع أوّلا إلى كون الكتابة وسيلة لا غاية في حد ذاتها. فالكتابة قبل أن تكون شكلا من أشكال الإبداع، فهي تقوية للحياة وخلق لإمكانات عيش جديدة، يزداد معها وفيها، قدرنا في الوجود، لننعم بسعادة لا توصف.
سعادة لا يتمتّع بها إلاّ من يحصل على فكرة جديدة أو يبتكر تصوّرا فعّالا و لهذا أثر في مساره اليومي. ذلك أنّ الأفكار على حدّ توصيف أبيقور، خيرات لا تفنى، تجعلنا نعيش كآلهة بين النّاس، أقوياء وعلى أحسن حال. على هذا الأساس، يغدو التّفلسف مثلا إحدى الطّرق التي نسعى من خلالها إلى التّخفيف من إكراهات المعيش، نشدانا للخير الأعظم من حيث هو السّعادة والفرح، المتعة والأتراكسيا والتّواجد على نحو أفضل ما أمكن.
جرّاء ذلك، ألفيتني أتعثّر سنينا، بين نصوص هذا الفيلسوف أو ذاك، وأقضي أعواما بصحبة هذا المفكّر أو غيره، ساعيا بكلّ ما أوتيت من جهد إلى تنمية سلطتي في الوجود، والرّفع ما أمكن من قدراتي حتّى لا تنطفئ فِيَّ الرغبةُ في العيش. إنّي بكلّ صراحة أعيش هؤلاء الفلاسفة وأنا أقرأهم. أجل فنيتشه مثلا ينبغي أن تحياه لا أن تقرأه فحسب. عليك أن توقع بصحبته خطوات في الفكر والحياة. أن ترافقه وتقترب من نثره المفعم بصوت خطواته، أن تختبر شذراته على نحو ما كان يكتبها ماشيا (كذلك الشّأن بالنّسبة إلى زارادوشت، إذ لن يفهمه من لم يعرف حياة الجبال و يتنفّس هواء القمم). عندها فقط سوف يَتَيَسَّرُ لك فهمه، لتجد نفسك، بعدئذ على غير ما كنتَ عليه، أو الأصحّ على ما ينبغي لكَ أن تكونه. لقد غَيَّر التقائي به أشياء عديدة. كذلك ديوجين الكلبي وأنتيستين، أبيقور وأريستبوس، ديمقريطس ولوكيبوس، وقراتوس وهيراقليطس، روجي لابورت وسبينوزا، مونتيني ولابويسي، بودلير ومالارمي، برودون وباكونين، فوكو ودولوز، كانديرا ودوستويفسكي، كافكا وميشال أنفراي، كريشنا مورتي و كامي… كلّ هؤلاء، وغيرهم كثر، ساهموا بشكل أو بآخر في صياغة حياتي، وتغييرها كلّيّا. لقد أنقذوني من الضّياع، ومنحوني فرصة إدراك معنى الحياة. عبر كتبهم لا أقول، أنّي تمكّنت فحسب، من اكتشاف عوالم غير معهودة، بل يسّروا لي السّفر إلى أقطار بعيدة، وذلك دون حاجة لجواز سفر ولا مصاريف تكلفة التّنقّل والإقامة.
فضلا عن ذلك، أجد أن ما ميّز إبداعاتهم أيضا، هو كونها لم تساعدني على حبّ الوحدة، واختبار متعها لأزيد من عقدين من الزّمن فحسب، بل مكّنتني أيضا، من الانفلات من قبضة التّرسيمات القطيعيّة، والتّخلّص من الاعتقادات الآسرة. لكنّ الوحدة، كفن صيانة الذّات، لا تفيد والحالة هاته، العزلة بل التّلاقي. أعني التّلاقي بنفسك، دونما إزعاج والنّظر إلى ذاتك وكلّ ما يحيط بك، بكلّ ما أوتيت من حرّيّة وإلى ما لانهاية. عندئذ فحسب، تستطيع أن تحتفي بجسدك في أوج عربدته الطّبيعيّة، وهو يمشي ويرقص، يفكّر ويكتب، يغنّي وينساق مع شطحات موسيقيّة… كيف لا، والجسد هو رأسمالنا الوحيد، في خضمّ روح هذا العصر الضّارب في العدميّة من رأسه حتّى أخمص قدميه؟ هذا كما أنّه، من خلالهم صِرْتُ أيضا، أدرك العالم كتحفة جماليّة، وهو أمر ليس سهل المنال، ويستدعي إيقاظ الحواسّ، واستثارتها عقليّا بواسطة الوعي. ذلك أنّ الوعي تفعيل لإرادة، بها نسموا ككائنات بشريّة عن الحيوان. لكن هذا الوعي، لا يفيد أن الاختلاف بين الإنسان والحيوان، اختلاف من حيث الطّبيعة أكثر ممّا يفيد أنّه اختلاف من حيث الدّرجة لا غير. وهو اختلاف، يترجم عمليّا في كون الإنسان وحده يدرك أنّه يستمتع، مثلما يعي أنّه كائن منذور للموت. بديهيّ إذن أن تكفل له هذه الإرادة الواعية، نوعا من التميّز، هو ما به يرقى بذاته فوق كلّ ما هو عامّي، ليتحوّل بالتّالي، من وضع بهيميّ، موسوم بالغباء والشّعبويّة إلى وضع استيطيقي، موشوم بالعبقريّة والأناقة. نقول هذا، لأنّ الاستمتاع دونما وعي، مجرّد خراب للنّفس ودمار للجسد. الاستمتاع إذن أسلوب في العيش، يستدعي الاشتغال على الذّات، على نحو مسترسل، حتىّ نرقى بها إلى مستوى نغدو فيه أسياد أنفسنا. لكنّك لن تكون سيّد نفسك، ما لم تكتسب، فضائل النّبل و العظمة، وتتشرّب شيم الأخلاق الأرستقراطيّة لا أخلاق العبيد.
الفرق بين الاثنين شاسع وكبير، بحيث أنّ الأرستقراطيّ هو من يعيش حياته، بغندرة، وفق مبدإ شامفور: "يستمتع و يمتّع دون أن يؤذي نفسه ولا غيره". أمّا نقيضه العبد، فهو من يرفض المتعة جملة وتفصيلا، وحالما يُقْبِلُ عليها، تجده يغوص في سلسلة من الأحزان اللاّمتناهية، جرّاء عدم تحلّيه أوّلا، بفنّ نحث الزّمان وعجزه ثانيا، عن الاشتغال على لحظات عمره، وجهله ثالثا، لتقنيّات بناء حيزه لأنطولوجي. تبعا لذلك فالعبد هو من لا يمكنه أن يستلذّ، دون أن يؤلم نفسه أو غيره. وهذا حال المرضى السّاديّين أو المازوشيّين، ولِمَ لا السّادو- مازوخ. درءا لمثل هذا النّزوع المرضي، أبدعت الحضارة البشريّة، في هذا الباب، جملة من الفنون، هي ما سمح لنا بأن نغدو أوّلا وكما قال ديكارت: "أسياد الطّبيعة ومالكيها". وأن نتحوّل ثانيا من منطق الحاجة إلى منطق الرّغبة. يتّضح ذلك، في التّقدّم الحاصل مع اكتشاف النّار، واختراع فنّ الطّبخ، الذي جعل من التّغذية قضيّة استطيقيّة مشمولة بالحرّيّة بعد أن كانت قدرا و قضيّة ضرورة.
وإذا كانت الإنسانيّة، كما يرى صاحب كتاب الطّبّ القديم، "قد انفصلت عن الحياة الحيوانيّة بفضل نوع من القطيعة الحميية"(1)، فذلك لأنّ الأكل صار فنّا، والحميّة طريقة لـ "أسلبة الحريّة" بتعبير فوكو، واختبار جماليّة الوجود. ممّا سمح لكلّ إنسان باختيار غذائه الملائم لصحّته، والمناسب لعمره، والبحث عن المناخ الجغرافيّ الموافق لجسمه. تبعا لذلك، ومع الوقت تدرّج الأمر، حتّى صحّ القول بأنّنا حصيلة ما نأكله، ونتاج ما نتغذّاه، بل يكفي أن نعرف ما يأكله المرء لنكشف توّا عن هويّته ومن يكون. أمّا فنّ صناعة العطور، فقد مكَّن من جهته، حاسّة الشمّ، باعتبارها باب العشق والحبّ، من التّأسيس لأواصر الوجدان وخلق أفق غير مسبوق في العلاقات البشريّة. ذلك أنّ للعطر علاقة وطيدة بالذّاكرة، وبه نستطيع أن نرسم معالم المرأة المحبوبة، ونسجّل حضورنا في مخيال النّساء المرغوب في معاشرتهنّ. كذلك الشّأن أيضا، بالنّسبة إلى العين والأذن واللّمس، فهي ما يمتدّ عبر أكثر من فنّ – كالسّينما والصّورة والهندسة والموسيقى والمسرح والنّحت والرّسم والرقص…
لتمكيننا من الانتشاء بسعادة يصنعها الوعي الذي يعتمل في فضاءات وأمكنة جغرافيّة متخيّلة أو محلوم بها، وفي صلة بتاريخ خاصّ، يتميّز بثرائه وفقره وعظمته وكبواته. ذلك أنّ السّعادة، مسألة خاصّة تقوم على جهد نبدّله ورغبة نبديها، كما تتطلّب العزم والإرادة والمبادرة والمجاسرة. فما من سعادة دونما إرادة استلذاذ، وما من متعة دونما اشتغال للوعي على نحو نستطيع بفضله الانتقال من مستوى المتعة البسيط والموجز الغير المصقول والفظ إلى مستوى أكثر حبكة وصنعا. فالمتعة باعتبارها أساس السّعادة، لا تنطبق بالضّرورة مع العواطف الفجّة والأحاسيس المباشرة، مثلما هي أبعد ما تكون عن الغريزة المشبعة والوجدان العفوي. إنّها ما يكون أكثر تماسكا وأقوى عندما تقوم على هندسة تستدعي في الآن ذاته الجزء الحيواني في الإنسان مصقولا بجزئه العقلاني. آيتنا في ذلك، هي أنّ الاستلذاذ على نحو حيوانيّ، بهيميّ شيء، والاستلذاذ على نحو انتقائيّ إنسانيّ شيء آخر. في الحالة الأولى، تشتغل العضلات والدّم السّائل اللمفاويّ واللّحم لا غير، أمّا في الحالة الثّانية، ففضلا عمّا سبق، يتمّ استدعاء المادّة الرّماديّة، والجهاز العصبيّ، الدّماغ والذّاكرة. فالمتعة تقتضي أوّلا، التّعلّم والمران، ولا يمكننا أن ندركها ونعرفها إذا اكتفينا بالاعتماد على ذواتنا الفظّة والجاهلة. يتّضح الأمر جليّا حالما نكون في متحف فنيّ مثلا أو في قاعة سينمائيّة، حيث يستحيل فهم أو تلذّذ ما يعرض قبالتنا سواء كان لوحة فنّيّة راقية أو فيلما متميّزا، دونما حيازتنا مسبقا لثقافة كافية.
ثقافة تؤهّلنا لفهم ما نحن بصدده واستيعاب جيّد لما يمتثل قبالتنا لأنّنا ههنا نرمي إلى التّشبّع بما يُوَلِّد معنى أكثر ممّا نرمي إلى الانبهار بما هو جميل. فالفنّ كمنطق للاستلذاذ، وكرهان لمقاومة كلّ قوى الإرتكاس التي لا تني تحطّ من قدر الحياة، هو ما يستدعي منّا بدل الاكتفاء بالانبهار، المرور إلى مستوى الفهم والاستيعاب الجمالي لهذا الشّيء الوحيد الذي لا ينال منه الموت بتعبير مالرو. ذلك أنّ قيمة الإبداع تتجلّى أكثر ما تتجلّى في كونه يجعلنا نستعيد البعد الدّينوزوسي للوجود، مدركين بأنّ حقيقة هذا العالم الذي نحياه تكمن فيه، هو نفسه ولا يستدعي الأمر البحث عنها في عالم أخروي مفارق. بناء عليه يغدو الفنّ أسلوبا لمقاومة الموت باعتباره الوقاحة عينها. وقاحة الواقع المرّ المشمول بمنطق الاستعمال الذي ما انفكّ يسوس حيواتنا و يسود تمثّلاتنا للعالم كما يحكم تصوّرنا لذواتنا، ضدّ منطق الاستعمال الذي هو منطق السّوق، القائم على معادلة مفادها أنّ الكمّ والعدد يحدّدان الكيف، "نحتاج الفنّ على حدّ تأويل نيتشه، حتّى لا تميتنا الحقيقة ". تلك الحقيقة التي سَوَّت بين العمل الفنّي وثقافة الاستهلاك، وجعلت الفرادات تذوب وسط الجموع، والتّنميط يحكم بدل الاختلاف. ههنا يضحي الفنّ كأعلى قوّة للزّائف مخرجا، إذ يسمح بتقديس الكذب، وتمثّل أحقيّة الوجود في الخطأ أي في التعدّد والتّنوّع.
إذ بفضل ذلك فحسب نستطيع على الأقلّ، التّخفيف من عبء الحقيقة، والإمساك بها عارية وبسيطة مادام أنّه ما من حقيقة بالنّسبة إلى الفرد، على حدّ تعبير فيورباخ، "غير تلك التي هي موضوع الإحساس ووعيه الخاصّ ". معنى ذلك أنّ الحقيقة هي ما يتجلّى للحواس، بينما الإنسان مقياسها مثلما يلح بروتاغوراس. بدل الحقيقة إذن ثمة بالأحرى "حقيقة المنظوريّة" التي تجعل النّسبي ممكنا والاحتمال واردا، وإذا كانت الحقيقة هنا رهان إبداع لا رهان اكتشاف، وقضيّة سبر أغوار الواقع لا قضيّة تأمّل مجرّد، فالبحث عنها مهمّة لا تتوقّف وفعل يشكّل التّاريخ، على اعتبار أنّه بالنّظر إلى نسبيّتها لا غير، يضحى الفكر مرحا، والفلسفة فنّا. فلسفة تمنح الأولويّة إلى فنّ العيش بدل السّعي وراء معرفة مجرّدة. إنّي بالمناسبة لا أستسيغ فلسفة همّها الوحيد، اكتشاف الحقيقة وإقامة ترسانة من القواعد الموضوعيّة، تنتهي بنا في آخر المطاف إلى الارتباط بالسّماء لا الأرض، والانتصار للفكر المحض بدلا من الفكر الاختباري. أُكِنُّ في هذا المضمار، تقديرا كبيرا لنيتشه، لا لشيء إلاّ لأنّ كلّ شيء بالنّسبة إليه يعود إلى ما عاشه وينبع ممّا جرّبه واقعيّا. كلّ فلسفة الرّجل، أتوبيوغرافيا وصراع مع الذّات، مبارزة وعراك في الحياة، سقوط ونهوض، خسران و نجاح، حزن ومرح، دموع وضحك، مرض وصحّة، حبّ وكره.
كيف لا، والمبارزة، هي ما بفضله ينبغي لنا أن ندخل الحياة، كما قال ستاندال ذات مرّة؟ وهو ما أحرزه نيتشه، الذي ليست فلسفته إلاّ حصيلة سبره لأغوار الأحاسيس التي اشتعلت نارها بداخله فتعامل معها بهدوء الحكيم، عاملا على الحفر في أصلها ومفصلها، مشتغلا على جسده كما لو كان طبيب نفسه. وبقدر ما كان يمسك بالوتر الحسّاس، بقدر ما كان يعرف أين ينبغي له أن يتواجد واللّحظة المواتية للتّرحال، كما الفصل المناسب لذلك. ليس ثمّة إذن من فلسفة دونما فيلسوف يصوغها بلحمه ودمه، فيلسوف يحسّ كليّا بانتمائه إلى عالم الأحياء لا الأموات، مختبرا بأنّ الأفكار لا تسقط علينا فجأة من السّماء بل هي مفعول كيمياء الجسد ونتاج فزيولوجياه. وههنا وجب الوقوف عند الصّراع التّاريخي بين التّيّارات الفلسفيّة، المثاليّة منها والمادّيّة، المنتصرة منها للمثل الأعلى الزّهدي والمتشبّثة بالمثل الأعلى المتعوي. الثّانية تعشق الذّات، تكتب وتتكلّم باسم الأنا، أمّا الأولى فهذا أكبر أعدائها، ولذلك لا تعثر في خطابها على أيّ أثر لسيرة ذاتيّة ولا شاهد عن تجربة شخصيّة.
يعكس هذا النّزوع الفصامي رغبة دفينة لدى المثاليّين في تزييف الواقع عبر الكذب، جرّاء عدم قدرتهم على القبول بطابعه التّراجيدي. ومن فرط غوصهم في ضرب من التّمثّلات المجرّدة، صاروا يفكّرون على نحو مفارق لحيواتهم، ويكتبون ما لا صلة لهم بها عمليّا. فهم أشبه ما يكونون بالفقهاء، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون.
ولا عجب، إن قلنا أنّ هذا الكلام، يكاد ينطبق على بعض زملائنا في الفلسفة(أمّ العلوم)، والمسرح (أبو الفنون)، كما في الرّواية والسّينما… بحيث يظلّون يتشدّقون بالحداثة في النّدوات، ويدافعون على المتعة على صفحات المجلاّت، وأعمدة المنابر الإعلاميّة، لكن للأسف، دون أن يكون لذلك أدنى أثر على حياتهم اليوميّة. فهم في واقع الأمر، أكثر ميلا نحو التّزهّد والمحافظة، التّقليد والرّتابة وأسيري طابوهات اجتماعيّة قاتلة. وتجدر الإشارة هنا، إلى كون هذه المفارقة، لا تنحصر على الزّملاء فحسب، بل تتجاوزهم، مثلما لا تخضع لمنطق الإقليميّة، بل تتعدّاه.
فهي كما هو معلوم قضيّة تاريخ بأكمله. ويكفينا توضيحا أن نتذكّر أسماء في تاريخ الفكر، لنعلم أنّ داء هذا الفصام أصاب العديد بدءا بأفلاطون حتّى هيغل. فإذا كان صاحب أسطورة الكهف يعتبر أنّ كلّ ما يصدر عن المحسوس مجرّد أوهام، ملمّحا على أنّ اللاّمرئي هو وحده الحقيقي، فصاحب فنمنولوجيا الرّوح، يوافقه الرّأي معتبرا أنّ الفلسفة أشبه ما تكون بطائر مينيرفا، لا تأتي إلاّ في المساء، أي بعد فوات الأوان. لم تكن الفلسفة بالنّسبة إليهم إلاّ وسيلة للإبقاء على أحوال النّاس مثلما هي بئيسة طبعا ولا أثر لها على أحوالهم. لكن لنعلم تبعا لذلك، أنّ المعرفة، ههنا ليست بريئة بل هي موضوع صراع، إذ بين تعليم موجّه للمحظوظين ومعرفة مرصودة للجميع، ثمّة عند هؤلاء الفلاسفة المثاليين، تعليما يخصّ النّخبة ويتمّ في غاية السّريّة. وما يزال أثر هذا النّهج مسترسلا حتّى يومنا الحالي بحيث مَنْ يخفى عليه وضع المدارس والجامعات العموميّة المترهّلة ونقيضها من المدارس المولويّة والكليّات والمعاهد الملكيّة. الأولى لعامّة القوم، أمّا الثّانية فلعليته من أبناء البرجوازيّين والحكّام. إنّ المعرفة إذن قضيّة سلطة ومسألة صراع. وبفضلها يتمّ التّدجين مثلما يكون التّمرّد. وعلى من يرغب في ركوب صهوة الفكر، أن يشرع في اختيار موقعه ممّا يحدث، ورسم طريقه وسط ما يجري. إنّه عليه أن يبدأ بمعرفة من يكون؟ وماذا يريد؟ ولماذا يفكر على هذا النّحو أو ذلك؟ عليه أن يمنح نفسه أحقيّة الكلام، ويستمرّ إعلاء لذاته وعرفانا بأناه. إذ ما من حجّة بالنّسبة إلى الفيلسوف غير حياته على حدّ تعبير أنفراي، هذا خلافا للمثاليّين من قبيل باسكال، الذي ما انفكّ يتكلّم بضمير المتكلّم، يورد لفظة "أنا" سبعمائة وثلاثة وخمسين مرّة، لكنّه سرعان ما ينقلب على نفسه مصرّا على تحقير الذّات. أليس إذن هذا التنكّر للأنا، حدّ تبخيس الكلام باسمه، مجرّد وهم؟ هذا إن لم نقل، أنّه تملّص مقصود، تبغي من ورائه كلّ أنطولوجيا مزعومة التّنكّر لواقعها الفزيولوجي المحتوم. ذلك أنّ "كلّ فلسفة عظيمة، هي اعترافات لصاحبها ونوع من الذكريات اللاّإراديّة"(2).
وعليه فالنصّ إذن لا يمكنه أن يسبح في الأثير، بين أحضان الميتافزيقا، ولا أن ينفصل عن إكراهات المعيش ويتنصّل من تربة الواقع التي انغرست فيها جذوره. وعلى سبيل الذّكر لا الحصر، ألم تكن فلسفة أبيقور، نتاج جسده السّقيم وحالته الصّحيّة الهشّة؟ لكن ومن ناحية أخرى، ألم يفتح بستانه في وجه الجميع، نساء ورجالا، دونما تمييز جنسي أو عمري، طبقي أو ثقافي، وذلك خلافا لأفلاطون؟ ألم ينجح في صياغة فلسفة للسّعادة، غرف منها عامّة النّاس، مناهضا بفكره كلّ سياسة ترمي إلى إعادة إنتاج النّظام الاجتماعي؟ ألا يفتح لنا بذلك، أفقا جديرا بالعيش ويطرح أمامنا إمكانات ممتازة للحياة؟ فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى فلسفة عمليّة، تسعف على تجاوز العدميّة التي صرنا نتخبّط فيها جرّاء طغيان الفلسفة المثاليّة.
يكفينا هنا، التّذكير بشرطة الفكر، التي سهرت على كتابة التّاريخ الرّسمي، فهمّشت، وزوّرت، وأضفت قيمة على البعض بينما تنكّرت للآخرين فكان أن اعتبر أفلاطون السّفسطائيّين، مجرّد مرتزقة، لا يُقِرُّون بوجود أيّة حقيقة، مثلما عمل كلّ ما في جهده، غلى حرق وإتلاف كتابات ديمقريطس، لكن طموحه الإجرامي هذا سرعان ما أحبط بعدما علم بتنبيه من "أميكلاس" و"كلينياس" الفيتاغوريّين بألاّ جدوى من ذلك، لأنّ كتب ديمقريطس ذاعت كالوباء في كلّ الأرجاء. أمّا فلسفة الكلبيين، فلم تكن تعتبر في أعين هيغل، إلاّ مجرّد طرف و نكت، لا تستأهل أيّ عناء. لكن ما يستوجب الإشارة، إنّما هو، كون الطّرف الكلبيّة، وهي كثيرة، غنيّة بالدّلالات، وتكاد لا تخلو من معنى.
وهو المعنى الذي نعثر عليه حالما ندرك أنّ الأفكار ههنا، تتمّ مسرحتها، فهي لا توجد فحسب، على شكل مكتوب، بل وأيضا على شكل مجسّد، عبر الحركات الجسميّة، وكلّ أدوات التّعبير الماديّة من مصباح، وضوء وبرميل وقدح ماء وديك بلا ريش… على هذا النّحو، يخرج الفكر الفلسفيّ لأوّل مرّة في التّاريخ من عقال المدرسة، والأكاديميّة، كما من الفضاء المنغلق، السرّي والمعتّم، لينفتح على العالم، ويعمّ الكلّ، فتمارس الفلسفة في الشّارع، والحديقة، والمقاهي، والعلن. الظّاهر أنّ روعة كلّ من خلَّفوا أثرا إبداعيّا يخترقه عشق غريب للحياة، تتجلّى أوّل ما تتجلّى في أسلوب عيشهم، وطريقة تعاملهم مع الأحداث التي عاصروها. ألم تكن حياة ديوجين، أكبر شاهد على فلسفته؟ فالحكيم لم يتفلسف، عبر المكتوب فحسب، إنّما أيضا عبر سلوكاته وتصرّفاته، حركاته الحيّة وإيماءاته من قبيل عيشه في برميل نكاية في فكرة الإستقرار والسّكن في منزل، ناهيك عن إصراره قلبا للقيم والأعراف السّائدة، على أن يدخل المسرح راجعا إلى الخلف بعكس كلّ النّاس. ذلك فضلا عن صرخته المدويّة في وجه الإسكندر، حينما بادر هذا الأخير بزيارته، فترك أن قال له:
"لا تحجب عني شمسي". أمّا عندما سمع بتعريف أفلاطون الشّهير للإنسان على اعتباره: "حيوانا ذا قدمين، وبلا ريش". فالرّجل ما أن صادف غريمه حتّى كيّل له الصّاع صاعين: إذ زجّ ،دونما كلام، بديك مريش بين قدمي أفلاطون وانصرف مستهزئا… واستدراكا للأمر، بادر صاحب بارمنيدس مجبرا لا مخيّرا، على إجراء تعديل طفيف، مضيفا لتعريفه الشّهير: "بأظافر مسطّحة". بمجرّد حركة بسيطة، إذن يتّضح أن التّحديد الأفلاطوني صار في أزمة وبات يعاني من لكمات الطُّرف الكلبيّة التي تعمل وفق نفس النّهج، وبدقّة واختصار متناهيين تصيب الهدف وتحقّق الغاية. لذلك نرى أنّ كلّ ما كتب، وأبدع لم يكن يستحقّ العناء، لو لا انغراسه في الحياة وتجدره في الوجود. إنّ الحياة إذن تغذّي الفكر تماما مثلما يغذي الفكر الحياة، فذلك ليس إلاّ لأنّ ثمّة منطقا وجوديّا يحكم كلّ ما نتلفّظه من عبارات ويسوس كلّ ما نخطّه من كلمات. فكلّ ما هو نظري، يفترض بنظري التّجلّي عبر الممارسة، وإلاّ فما جدواه؟ ههنا تتجابه الفلسفة النّفعيّة وكنتها المثاليّة.
الأولى ترى أنّ الألفاظ والأقوال كلّها وسائل عمليّة، وذات أثر ينبغي تقييمه إيجابيّا.
أمّا الثّانية فهي تروم عبر نفس الوسائل، صياغة الواقع على نحو أثيريّ، مفاهيمي، ومحض تمثّلاتي.
ليس الفيلسوف إذن هو من يكتب المجلّدات ولا يُقاس المفكّر بالمتون أكثر ما يقاس بالنتف الجميلة التي تصدر عنه وهو قيد العبور. وأنا بصدد تحرير هذا النّصّ، تلقيّت مكالمة هاتفيّة من صديقي عبد الصّمد الكباص، ينقل لي ما روي عن الموسيقار المصري محمّد الموجي، وكيف عاش حياة النّشوة والزّهو، تاركا قوله: "إنّ النّزوة وقود الفنّان".
أعجبتني العبارة وتستدعي منّا والحالة هاته الكثير من التّأمّل. كذلك الشّأن بالنسبة إلى ما قاله يوما لاعب التينس، روجي فيدرير، بحيث أكّد لأحد مستجوبيه، بعدما سأله عن مشكلة السنّ وتأثيرها على مردوديّة اللاّعب، بأنّ "الجسد هو مَنْ يتحكّم في العمر، لا العكس". واستطاع "فديرير"، بعد هذا التّصريح، أن يحقّق انتصارات عدّة ويتصدّر قائمة الأبطال العالميين. وههنا يتجلّى بالفعل أنّ للجسد قدرات لامتناهية، تثير الإعجاب و تستدعي الاستغراب، تماما مثلما سبق لسبينوزا أن أكّد. أليس الاثنان، بذلك فيلسوفين؟ ألم يفكّرا عمليّا، وعملا فكريّا، أكثر من أولئك الذين، درجنا على اعتبارهم فلاسفة؟ أمثال كانط الذي يقرّ بأنّ ثمّة من الأفكار ما لا يقبل التّجريب، من قبيل "النومين" واضعا العالم العقلي فوق العالم الحسي؟ ليضيف، في موضع آخر، أنّ النّومين هو ما لا يمكن للعقل التّفكير فيه، لأنّه المنفلت، والمتبخّر والعسير الفهم. أي بمعنى آخر، أنّه ما يستدعي الخنوع والطّاعة والإيمان والرّضى، دونما تفكير. وتلكم مرّة أخرى طريقة للهروب من الواقع وتعطيل العقل، ليس إلاّ بعدئذ يحقّ لنا التّساؤل عمّا جدوى قراءة فيلسوف لا يفيدنا في أبسط تفاصيل حياتنا؟
وما الدّاعي إلى التهام نصوص بأكملها دونما أن يكون لها أدنى أثر في طريقة عيشنا؟ أليس من العبث التّعامل مع الأفكار كما لو كنّا مجرّد قنوات؟ أليس من الهراء أن نتغذّى على نصوص سرعان ما نتغوطها تماما على نحو ما تفعل بعض أنواع الطّيور؟ إن أفكارا فلسفيّة بسيطة وقابلة لأن تعاش، أفضل بكثير بنظري، من صروح مفاهيميّة غارقة في التّجريد. تبعا لذلك، لا أطيق قراءة كاتب همّه الوحيد تأليف كتاب. كاتب يبحث منذ البداية عن الشّهرة والمجد، جاهلا أنّ هذه الأخيرة هي منتهاه إن كان بالفعل كاتبا رفيعا و متميّزا عن الرّداءات المنتشرة كالطّحالب وسط ركامنا الإعلامي. أقول هذا ،لأنّ الكتابة، سفر في الحياة قبل أن تكون خدشا على الورق، إنّها مرآة ما نحياه ونكونه، ونتاج صراع الذّات مع محيطها. فنحن على حدّ توصيف نيتشه نكتب بالدمّ، لا الحبر، على اعتبار أنّ للكلمات التي نخطّها رائحة: "أجل لكلّ لفظة رائحتها: ومثلما للعطور، تناغما وإيقاعا فكذلك الألفاظ"(3). من ثمّة وجب الحديث عن كيمياء الكتابة التي بفضلها يغدو الجسد، باعتباره جسد الكاتب، عملا فنيّا والعكس وارد. إنّنا والحالة هاته لا نكتب بيدينا فحسب، بل أيضا بالأرجل والرّئتين، والقلب والأظافر، العينين والأنف، العضلات والبطن، المفاصل والشّعر…
خلاصة القول أنّه ما من مكان محدّد به نكتب أكثر ما نكتب في سياق تفاعل جسدي قد يخترقه الألم (ألم إبكتيت) أو الطّمأنينة (طمأنينة أبيقور)، الكآبة (كآبة لوقراتوس) أو المرض (مرض كافكا)، القلق (قلق كيرجور) أو السّيفليس (سيفليس نتشه)، التّهميش الجنسيّ (فوكو) أو العياء (دولوز)، فقدان البصر (المعري) أو حبّ المعتقة (عمر الخيّام)…
هكذا نرى أنّ النصّ لا يمكن مقاربته دونما مقاربة سياقاته، ويستحيل استيعابه دونما استحضار سيرة صاحبه، لأنّ الأفكار التي نتبنّاها هي في آخر المطاف نتاج تأويلنا للجسد إن لم نقل على حدّ تعبير صاحب إرادة القوّة، أنّها كذلك، سوء فهم له. نؤثر هذا القول لا لشيء إلاّ لأنّه الفيصل ما بين مفكّر وآخر، وسرّ تميّز هذا الفيلسوف عن غيره. ذلك ما حدا بـ "ألكسيس فلننكو" إلى اعتبار شوبنهاور فيلسوف موت، مقابل نيتشه كفيلسوف حياة. ففي الوقت الذي لا يرى فيه شوبنهاور، في الطّبيعة إلاّ الغمّ والهمّ، وكلّ غابة هي في أعينه تكاد تبدو مجرّد نشيد حزين، نلفي عند نيتشه رغبة عريمة في تمجيد الحياة بحيث تكون الطّبيعة بنظره، في فصل الشّتاء، مثل الإنسان في حالة النّوم.
أمّا الموسيقى فهي المعبر والهاوية. إذ لا مجال للقول بوجود موسيقى عصريّة رديئة وأخرى عتيقة رائعة. لهذا وجب التّريّث في إصدار أيّ حكم. قد نقول بخصوص تفضيل شوبنهاور لـ "روسيني" عن موزار، بأنّه اختيار زائغ، إلا أنّ مثل هذا الحكم هو ما ينبغي لنا مراجعته كلّيّا، خاصّة، إذا ما حالفنا الحظّ واستمعنا لـ " la Messa di gloria" لـ "روسيني" بمعهد الموسيقى الكبير، بفيينا. لقد كانت عصريّة ورائعة بالنسبة إلى شوبنهاور. وقد تبنّى نيتشه نفس الموقف، حيث كان على الموسيقى أن تعوّض الميتافيزيقا… لكنّها ليست الوثاق القويّ الرّابط مابين نيتشه وشوبنهاور فحسب، بل الهوّة أيضا. لقد كان نيتشه، في الواقع، موسيقارا ممتازا. وإذا كان من ناحية أولى، ماهرا في العزف على البيانو، فهو من ناحية أخرى مرتجل وموهوب… وبما أنّ شوبنهاور لم يكن لا ممارسا جيّدا ولا مرتجلا، فإنّني لهذا السّبب لا أرى فيه نظير ذلك الموسيقار الجيّد"(4) لنلاحظ استئناسا بهذه المقارنة بين الاثنين، إنّ الفرق إنّما يكمن في كون نيتشه موسيقارا بالفعل، خلافا لشوبنهاور الذي هو في أحسن الأحوال مجرّد مُتَأمَل ومستمع. والواقع أنّ نيتشه تعاطى الموسيقى مثلما الفلسفة عمليا، أي أنّها كانت كفنون هي ما به يحيا ويعيش أمّا صنوه شوبنهاور، فكان غير قادر على الجمع بين الفكر والحياة، وكلّما أتى بطرف، انزلق الطّرف الآخر من بين يديه انزلاق الزئبق أو السّمكة من بين أنامل الماسك بهما. درءا للثّقالة والتفاهة، إذن يحتمي الفيلسوف بالفنّ ويتقوّى بصقل ذاته و بنائها، نحثّها والإنهمام بها إذ لا شيء عنده بوسعه أن يفصله عن أسلبة حياته والاشتغال الدّؤوب عليها يوما بيوم، وساعة بساعة، بله دقيقة دقيقة، وثانية ثانية.
إنّ المفكّر الأصيل يقدّس لحظات حياته ويحياها بكثافة، يمتزج فيها الزّمان بالحريّة، على اعتبار "أنّ الإنسان الذي لا يستطيع أن يخصّص ثلثي وقته لنفسه، مجرّد عبد"(5). وبالفعل فكيف لمن لم يتخلّص من نسيج العنكبوت الاجتماعي أن يكون لذاته؟ كيف بوسع من يستنفذ طاقته اليومية في تفاهات السّوسيال أن يغدو سعيدا؟ فالسّعادة لا تكون إلاّ خارج التّرسيمات القطيعيّة وبعيدا عن ضجيج الوعّاظ الأخلاقييّن، خدام الليبراليّة المتوحّشة، وإيديولوجيو ديانة الرأسمال. هؤلاء الذين جعلوا من كل ما هو منحط ذي قيمة، وردوا كلّ سافل من علية القوم يتشدّقون بالأخلاق الفاضلة بينما هم في واقع الأمر لا يدافعون إلاّ عن أخلاق العبيد. أي تلك الأخلاق التي طالما عانت منها البشريّة باسم الدّين. لماذا؟ لأنّ المثل العليا بالنّسبة إلى هذا الأخير إنّما هي كلّ ما يناقض غريزة الحياة القويّة. فالوعّاظ لا يحبّون إلاّ الضّعفاء والمستضعفين أي كلّ من هم قليلي الذمّة ولا يُقَدِّرون ذواتهم وبالأحرى أن يقدروا غيرهم. إنّ "الدين مثلما قال نيتشه عن المسيحيّة لفي حاجة للمرض تقريبا مثلما الحضارة الهلينيّة كانت في حاجة لقدر وافر من الصحّة"(6) . أن تَرُدّ النّاس عليلين ومرضى، تلكم هي الغاية المثلى بالنّسبة إلى كلّ الدّيانات، التي على أساسها بُخِّس الجسد، واعتُبِر مجرّد سجن للرّوح. أمّا الأرض التي فوقها نعيش فليست إلاّ ملجأ للمعتوهين، والمتألّمين، الخطّائين والمذنبين.
وبقدرما هو المؤمن مستضعف ومستبطن للألم بقدرما هو الكافر متجبّر ومتكبّر. الأوّل نموذج مرغوب فيه عند الربّ خلافا للثّاني الذي يستلزم الأمر تكسير شوكته، والحدّ من كبريائه. لماذا؟ لأنّه ينافس الخالق في جبروته، و يزاحمه في عظمته. لذلك فكلّ متكبّر موعود بالعقاب الشّديد. نعثر على جذور هذه الإيديولوجيّة الاستعباديّة، في الميتولوجيا الإغريقيّة، التي ما انفكت تروي نقمة الآلهة على المخلوقات، وكيف بلغ بها الأمر هي بدورها حدّ اعتبارها القوّة عجرفة والكمال تكبّرا. ذلك أنّ الإله زوس لم يكن بوسعه أن يقبل بأيّ وجود للكائنات، فوق البسيطة، اللّهم منها تلك التي تزحف، على بطنها غير مكتفية بذاتها. يشرح أريسطوفان في مأدبة أفلاطون(•) قصّة الخلق هاته، ويفسّر كيف خلقت الكائنات، أوّل مرّة، بحيث أنّها كانت على شكل خنثى، تجمع بين أعضاء التّناسل الذّكر والأنثى، ولها أربعة أقدام وأربعة أيدي، رأس واحد ووجهان يرتكزان على عنق واحد. ممّا يعني أنّها كائنات في غنى عن الآخر، مكتفية بذاتها جنسيّا، وغير ناقصة من شيء.
لكن هذا الاكتمال، الذي أثار حفيظة الله ، و أجج غله فوصفها بالمتعجرفة لأنّها تكاد تنافسه في الكمال والإطلاقيّة، هو ما حدا به إلى التّسريع بمعاقبتها، بحيث عمل على شطرها نصفين: ففرّق بالتّالي أنثاها عن ذكرها. وعندئد، صار كلّ نصف يبحث في عذاب أبدي عن نصفه الآخر نشدانا لاكتمال مستحيل. وعليه غدا الحبّ نقصا والرّغبة سعيا دائما لردم هوّة ثابتة. هذا من جهة أما من جهة أخرى، فبحكم هذا التصوّر اللاّهوتيّ، أصبح كلّ إنسان كائنا ناقصا، يستشعر هذا النّقص في كونه عاجزا عن اتّخاذ نفسه كغاية ولا يستطيع أن يكون إلا كأداة قابلة للتّوظيف والاستعمال من لدن الغير. كلّ غرائزه تدفعه من حيث هي غرائز مهزومة ومريضة، إلى هجران الذّات من أجل اعتناق قوى خرافيّة، ماروائيّة، هي سرّ، بقائه عبدا مستلبا. من ثمّة أضحت هذه العبوديّة المختارة بتعبير لابويسي، بمثابة الشّرط الوحيد و الأسمى الذي فيه ينمو ويزدهر الإنسان المتديّن الضّعيف الإرادة، والمكسور الرّغبة. وهي السلطة الحاكمة التي يكون المحكوم في حاجة إليها لتدبير شؤونه وتسيير أبسط تفاصيل حياته. تبدو العبوديّة هنا، كما لو كانت الخلاص بالنّسبة إلى البعض، إن لم نقل للأغلبيّة التي تهوى الخرافات، بدل مواجهة تراجيديّة الواقع. تراجيديّة، خلاصتها أنّنا ككائنات محدودة في الزّمان وتحيى بين عدمين، جبرون بدل التّشاؤم أو التفاؤل، على التّعاطي مع الحياة، كما هي، مادام أنّها العلاج الوحيد، لمعضلة الموت.