عريفة لا تعترف!
تاريخ النشر: 15/04/13 | 2:45سحبناها من تحته في آخر روح! كانت المسكينة مخنوقة الصوت، تنازع الرمق الأخير! البنت مدقوقة على رأسها المنكوش الشعر كما يُدق رأس أفعى! كان كل منبت شعرة من جسمها الأسمر مدقوقاً! كانت المضروبة عريفة هي أخته وهي أمه وابنته وخالته وعمته وكل من بقي له من دار أبو همام!
وفي الوقت الذي كان فيه أبو حمامة مختفياً في اليمن، وبعضهم قال إنه كان لاجئاً سياسياً في الجزائر، ولا أعرف إذا كان قد أُخرج من لبنان.. صدقني أنا لا أعرف أين كان بالتحديد، فأنا لا أشاهد أخبار"القنوات الفضائحية"، ولا أهتم بالسياسة، ذلك لأن السياسة ليس لها دين، وأنا رجل متدين كما تعرفني، أعتكف على صومي وعلى صلاتي، ولا أعرف غير ذلك!
طبعاً ستسألني إن كنت أعرف أبو حمامة، فسوف أجيبك بصراحة أنني صرت أعرفه من جديد! لم أكن أعرفه من قبل! كنت أعرف أباه، جارنا القريب في مخيم طولكرم، المدعو أبو همّام، والذي شاهدته آخر مرة في الحارة، وهو يتكوم على حماره ذي الخُرج المحتوي على أغراض وعلى بعض ثمار الزيتون، وهو يئن أنيناً خافتاً، محزوناً على اختفاء ابنه همّام، والذي قيل إنه استبدله بالاسم الثوري الحركي أبو حمامة، تتبعه أم همام التي كانت "تتبعّر"معه زيتون أهل القرى المحيطة.
كنا نضحك كثيراً على سقوط عريفة في الصف السادس الابتدائي! طبعاً يا حرام ، لكثرة الأشغال والأعمال، وشظف العيش تحت الاحتلال، سقطت المخروبة في مدرسة طولكرم الإعدادية للوكالة، فما كان من والدها أبو همامإلا أن قال لها وهو يستلم شهادتها الساقطة: "والله بعد اليوم ما تحكيها يا عريفة!"سمعت قول عمي أبو همام لها:
"والله بعد اليوم ما تحُكِّيها يا عريفة!" ولكنني لم أفهم ما معنى كلمة"تحُكِّيها" وما هي التي ستحكُّها؟ وما علاقة الحك بالسقوط في المدرسة؟ وبعد أن سألت أمي عن مسألة الحك هذه، وهل هي مأخوذة من (حكّ ، يحكُّ، فهو محكوك)؟ قالت لي وهي تضحك:
"عمك أبو همام يقصد أن ابنته لن تحك مؤخرتها بعد اليوم على مقعد الصف الدراسي!" ضحكت وأنا أتفهم كون عمي أبو هماملم يكن يهذي وهو يقول لعريفة هذا الكلام!
توفي جارنا أبو همام تحت وطأة الاحتلال الغاشم، وجاء همّام من غيابه الطويل ليحضر جنازة والده ، فسكن في البيت، ولم يعد إلى مواقعه النضالية في السودان، ذلك لأن الصومال كانت في فوضى حواس ليبية عربية اشتراكية تونسية وحدوية عظمى بدرجة لم يسبق لها مثيل من موريتانيا إلى اليمن.. لم يكن همّاممتزوجاً، وعندما سأله حضور الميتم المتحلقين حول جثة المرحوم والده، قال لهم وهو يرفع يديه إلى الله، ويدعو بالرحمة لروح أبيه:
"إنني لم أتزوج لسبب واحد فقط، هو أنني متزوج من القضية الفلسطينية!"
وتابع همّام دعاءه لله أن يغفر لوالده، ويدخله جنات نعيم.. ثم تنخع وبصق في وجه أبيه المسجى بين الحضور، مما أثار اضطراب واشمئزاز واستنكار الحضور الذين سألوه ، وهم يشاهدون البصاق الأصفر على وجه المرحوم: "لماذا بصقت هكذا على وجه أبيك المرحوم؟" فقال لهم وهو يبكي بكل تأثر، ودموعه تتساقط على وجهه: "إنني أُنفذ وصية الحبيب المرحوم أبي الذي كثيراً ما كرر مقولته لي: "إذا صار فيك خير يا همام، ابصق على وجهي!" وها أنا قد حققت أمنيتك يا أبي، وصرت موظفاً أتعاطى راتباً من الدول المانحة، والكل يرى نعمة المنح على وجهي، وألله منعم ومتفضل، ولذلك سميت نفسي أبو حمامة!".. والحمامة التي أعلنها أبو حمامة للجميع هي حمامة السلام، وليست (حمامة) أبو حمامة!..لم يفرح الحضور بهذا الزواج، ولكنهم ستروا على ما شاهدوا وسمعوا، وهكذا صار أبو حمامة يخرج من بيتهم، ويتجول في مخيم طولكرم مثل السبع، وهو ينادي بأعلى صوته: "يا سلام سلِّم، الحيطة بتتكلم! " والحيطة التي يفهمها أهل المخيم هي الجدار العازل الذي شيدوه مؤخراً حول أعناقهم، ليعزل السماء عن الأرض، ويضغط بكل صلابته، ليجعل كل ذات حمل تُسقط حملها..ولكن المنزرعات هنا، رغم غلبهن، فهن يتشبثن بأحمالهن! وأبو حمامة الذي قالوا إن عقله قد ركبه جن أزرق، يدخل مزرعتنا المجاورة لبيتهم، ومعه زجاجة ماء شمعية مستعملة، ليوهم الناس بأنه رجل مهم، ولا يشرب إلا ماء "صحة" اللبناني الأكابري، بتاع زمان، فيضعها واقفة تحت شجرة الزيتون، ثم يصعد إلى أفرعها، فيجلس ويتسلطن هناك، وينام ويسترخي إلى أن تسمع أخته عريفة شخيره، فتصرخ عليه لتوقظه من منامه، فيجفل أبو حمامة، وينزل من عليائه مطالباً إياها بما لذ وطاب من الطعام! ولكن عريفة – يا حرام- لم تكن تملك قرشاً تشتري به طعاماً، مما جعلها تصغر وتتضاءل أمامه..وأما أبو حمامة، فكان يتشنّج ويتوحش أمامها. وفي هذا اليوم المشؤوم، بقّت الملطوشة عريفة الحصوة، وقالت له: "أنت تقول: (إنك وإنك وإنك..) لقد أشبعتنا مراجل، ولكنك في الحقيقة لست شيئاً! فازداد توحش الثوري أبو حمامة، وقال لها: "أنا الذي لا أعجبك يا عريفة، أعتبر نفسي دولة مستقلة، وأطالب الأمم المتحدة بأن تعترف بي دولة مستقلة!" فقالت المضغوطة له: "أنت لا دولة ولا خر..!" وهنا تشنج أبو حمامة، وصرخ في وجهها قائلاً: "يجب أن تعترفي يا عريفة بي دولة مستقلة!" ونط من عليائه من قمة الشجرة، ونزل، فسقط إلى جوار زجاجة الماء اللبنانية، فوقعت المشمعة على جانبها، فانسكب ماؤها على الأرض، بينما أمسك أبو حمامة بتلابيب البنت الملطوشة، وراح يخنقها، وهو يصيح في وجهها : "عريفة، اعترفي بي دولة؟"بينما المغلوبة على أمرها تنكمش بين يديه، وهي تقول بصوت مكتوم: "لا أعترف بك دولة!" فيصرخ بها: "يجب أن تعترفي بي دولة، وإلا…!" فتقاوم خنقها قائلة: " لا أعترف بك دولة!" فيتشنج كاتماً نفسها: "أنت ملزمة بالاعتراف بي دولة!" فتقول ببقايا صوتها: "والله ما أعترف بيك دولة!"
نحن الذين اقتربنا من الشجرة لا نقول إنه خنقها فماتت، ولكننا شاهدناه بأم أعيننا وهو يلبِّبها ويدوسها، ويكاد يفتتها، حتى صارت عريفة مثل بقجة وكالة الغوث المبعوجة! ..المصيبة أن أبو حمامة يستخدم كل طاقاته في التعذيب المفرط، وعريفة تستجمع كل بقايا قواها في المقاومة، بينما أبو حمامةيصرخ مثل الغضنفر، وبقايا صوت عريفة يتضاءل مثل شعلة السراج المنونس، ويكاد أن ينطفىء في مهب الريح!
قلنا "إن البنت تموت!" هجمنا عليهما، فوضعت يدي عند فمها، فلم أشعر بنفسها، ولا بحشرجة روحها التي يبدو أنها قد أُزهقت، ولكن أبو حمامة ما يزال يضغط، وعريفة؛ سراج الدار المنونس ما تزال تقاوم. سحبناها من تحته في آخر روح ! كانت المسكينة مخنوقة الصوت، تنازع الرمق الأخير! البنت مدقوقة على رأسها المنكوش الشعر، كما يُدق رأس أفعى! بل كان كل منبت شعرة من جسمها الأسمر مدقوقاً! كانت المضروبة عريفة هي أخته وهي أمه وابنته وخالته وعمته، وكل من بقي له من دار أبو همّام!