شذرات وطنية بين يدي قصيدة: “أكفاننا هداياهم”
تاريخ النشر: 05/08/15 | 14:07بيد تزرع زيتونة، وبيد تهدل قصيدة، ها هي شاعرة الجليل إبتسام ابو واصل محاميد التي ما انفك الوطن يصول و يجول في خاطرها منذ عهد الصبا؛ فهي سليلة اسرة تعشق الحرية، وتعشق تراب الوطن الذي تتيه خيلاء بين أزاهيره ومروجه الخضر، وترتمي في احضان اشجار زيتونه الضاربة في عمق الزمن، وتحاكي طيوره تصدح على الاغصان. إنسانة وشاعرة وأم لنشء تربى على العزة، وعشق تراب الوطن وتقديم الروح قربانا لذراته الطيبة.
تتألم لكل جرح يحيق بجسم الوطن الحبيب، يعز عليها أن تأتي الجوارح من الطير من وراء البحار لتحط في ساحات الدارالآمنة، لإثارة الزوابع في الديار. هذه القصيدة ليست إلا آهات وزفرات دفينة تأججت بين جوانحها وقذفت بمكنونات لاهبة تصهر الصخر وتذيب الحديد. هي بمثابة صيحة تخرج من جوف انسانة حرة رضعت المجد والسؤدد مع حليب امها، وهي هنا تشكل رمزاً ومثالا لمن يتلوى حسرة على ما يمس عشقها الكبير والابدي: الوطن وترابه الغالي.
فمن امعن النظر في قصيدة ” أكفاننا هداياهم”، يجدها من ألفها الى يائها ملحمة وطنية تلخص وتجسد الواقع الذي جثم على صدر الوطن. فالعنوان يحمل الفكرة الرئيسة التي تضخ في شرايين القصيدة ما يفيد القارئ ومتذوق الأبيات. هنا يظهر من هو الضحية ومن هو الجلاد: فهدية الجلاد تتمثل في نوع الهدية التي يقدمها للضحية؛ إزهاق الروح.
ففي مقدمة رائعة تتجلى عبقرية الشاعرة بطرح سؤال على الغزاة واصفة إياهم بالقادمين من ديار بعيدة، بمعنى أنهم غرباء عن هذه الديار، ولم ينجبهم هذا المكان. فهم يعيثون في الاماكن الخراب والدمار ويتسلطون على الأجساد الغضة، التي نمت وترعرعت على تراب هذا الوطن الطهور. وتتساءل هنا عن طبيعة هؤلاء وعن طبيعة فعلهم:” من أنتم وماذا تفعلون؟”، وهي في قرارة نفسها تعرف هؤلاء القادمين وتعرف ما يخططون له: التحكم بمصير الديار.
الآن تخرج الصيحة من باطن الشاعرة الملتهب وتعلنها على الملأ مدوية وبكل صراحة، حيث طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى. فهو الموت الزؤام الذي لا يبقي ولا يذر، وهو سيف مسلط على الرقاب لئلا تنتفض. وتأتي استباحة الدماء والضياع والزج في أماكن الاعتقال وتعريض البشر لانواع التنكيل من اغتصاب للحرائر وهدم البيوت وتدمير للقرى. من المفارقات العجيبة التي تتألق فيها الشاعرة” أبو واصل” انها تشنف آذان القراء والمستمعين بوجود هدية يقدمها القادمون لأبناء الديار، وما اسوأها من هدية:” أكفان” الموت. ووسط هذا الخضم الهائل من السحق والمحق والدمار وسلب الحياة، تبزع قضية مواقف الاخوة والأشقاء وما هم فاعلون.
كان الأمل يحدو الشاعرة بأن ترى بني الجلدة وأُلي القربى يتدافعون لمد يد العون لمن ضاقت بهم الحياة وعضتهم الظروف بأنيابها، ولكن…؟ ليتها لم تبنِ على مساعدتهم الآمال العراض، ولم تستنجد بهم: كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ صمت مطبق رهيب، واستنكار لا يقدم ولا يؤخر، حتى ضاع الكثير من اجزاء الارض الطيبة وذهبت صفقات للمنتفعين واصحاب الاجندات الخاصة، ناهيك عن سطوة القوى الظلامية والانتقامية التي لا هم لها الا قض مضاجع المسالمين من البشر. ولا تتردد الشاعرة في توجيه الصيحة ثانية في كل محفل مذكِّرة الجمع بتحديد مواقفهم مما يحاك ويدبَّر بليل تجاه امتهم الشريفة التي استأمنتهم على شرفها.
فأين العبارات الرنانة التي صدح البعض بها مزمجرا في لقاءات تعقد هنا وهناك، وأين الحضور المدوي لإحقاق الحق ونبذ الباطل؟ كل ما تسعى اليه الشاعرة هو شيء واحد لا أكثر:” الحق”، ولا شيء غير الحق. الحق هو العدل وهو ارجاع الحقوق الى أصحابها دون بخس وضياع للدماء الزكية التي روت ثرى الديار.
تتسع دائرة اهتمام الشاعرة لتعم الثرى الواسع؛ من الماء الى الماء، ومن النيل الى الفرات. هذا الوطن العربي الكبير هو ما يؤرق ويقلق منام من استشرى حب الاوطان في جسدها. فبلاد الرافدين تئن، وبلاد الاهرام تئن، وبلاد اخرى محسوبة علينا تئن كذلك، ولا نقول إلا ” الله المستعان”. وأسئلة الشاعرة ما زالت حاضرة، ولكن بشكل أعمق من ذي قبل. فهل عاد عصر العبودية وبعث من جديد؟ هل أصبحت البشرية عبيدا للقوى المهيمنة على مقدرات العالم، وهل عاد سوق النخاسة في ثوب جديد؟ هذه اسئلة تطرحها الشاعرة ليس بغرض أخذ الاجوبة، بل هو اسلوب بلاغي يجعل المرء يقر بما يحدث حوله من عبث العابثين بحريات الشعوب وجعلها فئران تجارب لا حول لها من الامر ولا قوة؛ هي تحت سطوة الاستكانة والذل والمهانة، بل والرضى بمصيرها هذا والتصفيق لما يجري.
وتختم الشاعرة قصيدتها ببشرى جميلة للبشرية، وهي بطريقة تهكمية، لان أمرهم بأيد اناس من ذوي الحرص والغيرة والدفاع عن قضيتهم العادلة، ثم تلتفت الى الشعوب من بني الجلدة رافعة اكف الضراعة الى الله بأن يتكفل مصيرها، كونه هو القادر على ذلك، بعدما ضاعت-أو كادت- على ايد سدنتها المخلصين!؟.
يونس عودة