الحنين الى خبيزه …..

تاريخ النشر: 15/04/13 | 12:22

وترددت في بيتنا كلمة " خبيزه" تلك القريه التي كانت قريبه من اسماعي بعيده عن عيني … نمت معي منذ طفولتي …. تخيلتها قريه سحريه واقعه وراء الافق … او وراء المحيط …

الكبار من حولي كانوا يرددون : زرت خبيزه , زرعت بأرض خبيزه , اشتريت منها … وسهرت فيها …سمعت كثيرا عن المباريات التي كانت تجري, في لعبة الخاتم والفنجان بين فريق قريتنا وفريق قرية خبيزه ….. وسمعت عن ايام الحصاد المشترك … وسهر المغمرات …. "وتقمز" " الملايات " وحلقات الدبكه التي كانت ملتقى اهل القريتين …. سمعت عن وادي السنديانه , ووادي العرايس , وبير حجوه , وعين النبعه …..

وسمعت عن " الملاجاه " …. لجوء اهل خبيزه الى قريتنا … واقتسام اهل بلدنا معهم لقمة الخبز , ومسطبة البيت , وفرشة النوم , وصابونة الغسيل … لقد طردوا من بلدهم وخرجوا منها " بالمواعين الي عليهم " … ولم يقيموا فيها الا اشهرا معدودات وغادروها عندما سمعوا انها ستضم الى دولة اليهود ….

وحدثوني عن سالم محمد السلطي , الذي كان من اكثر اصدقاء ابي موده واخلاصا … وبداية معرفتهم عندما ساق ابي جمليه الى خبيزه … محمله بالقمح متوجها الى خبيزه , بعد ان جاءت اخبار الجراد , الذي لم يبق على عود اخضر الا والتهمه , وترك القريه في تلك السنه بدون محصول ….. وعندما وصل الى هناك اناخ جماله , ممهدا المجال امام المشتريين من اهل البلد , كي يساوموا على البضاعه … فلقيت بضاعته رواجا …. جميع الرجال الذين كانوا " يعمرون " الساحه تقدموا واشتروا من القمح , ما سمحت لهم جيوبهم وحاجتهم …. الا رجل واحد , فقد بقي جالسا في مكانه على صخره كبيره , يسترق النظر الى عمليات البيع والشراء التي تجري امامه ..!!

" فلقطته عيناي….!! " هكذا كان يقول ابي عندما يسري في جسمه تيار الحماس والنخوه …..

وعندما لم يبق الا كيس واحد من القمح اعلنت ان هذا محجوز … وليس للبيع … فظن بعض الرجال اني طمعت في سعر اعلى …. فعرضوا علي اسعارا مضاعفه ….فاعلنت انه مبيوع لذلك الرجل , الذي يجلس على تلك الصخره ..!! ولم اكن اعرفه من قبل ..!! تقدمت من الرجل , وصحت به على مسمع من كل رجال خبيزه : – " تعال يا رجل واستلم قمحاتك ..!!؟ " فنظر بأتجاهي مذهولا , وقال متلعثما وهو يشير الى كيس القمح والى صدره …. انا ..!!؟ القمحات الي ..!!؟" فقاطعته وانا اعض على شفتي :

– اه الك … انسيت انك " وصيتني " على كيس قمح ..!!؟"

– ولكن انا ما معاي مصاري …. وما لي حاجه بالقمح ..!! قال والذهول قد استولى عليه …..

– تعال خذ قمحاتك وخلصني ..!! صرخت به مقاطعا … فتقدم والرجل واخذ كيس القمح …..

ونشأت بيننا صداقه متينه لم تدم طويلا …. ففي احدى الليالي الشتاء السوداء التي قبضت على خناق القريه ولم تسمع بها الا " ولولات " الرياح , " وطقطقات " المزاريب , التي تحولت الى شلالات تصب ماءها على الارض دون رحمه .. والناس نيام متدثرون , بما لديهم من غطاءات تحميهم من اللسعات , التي ترسلها رياح الشتاء التي تجمد كل ما يقع في متتناول يدها , والا بطرق قوي يغالب اصوات المزاريب والريح العاتيه , فتح ابي الباب , بعد ان اجتاحته موجات من الرهبه والتوحي والخوف من المجهول , خصوصا وان بلدنا كانت تنتظردخول اليهود للاستيلاء عليها … وعندما فتح الباب وهو يقول :

– مين ..!!؟

– افتح انا محمد السلطي … !! قال من اعماق الظلمه بسوط مستغيث …..

فتعانقنا طويلا …. طويلا …. والدموع الحارقه تسيل مدرارا من عيون لم تعرف الدموع من قبل ….

– وين صارت اراضيكم يا ابو خالد ..!!؟ سأله ابي يصوت خرج من بين اهات البكاء المسفوح …

– السيره طويله وانا مستعجل …. احنا خيمنا بجانب طول كرم …. مخيم نور شمس ..!!

– وين مستعجل بات عندنا الليله يا ابو خالد " والصباح رباح " قال ابي مستعطفا ….

– جئت لارد لك الامانه … وامشي ..!! قال محاولا اختصار الطريق على ابي ..

– الامانه ..!! عن اية امانه تتحدث ..!!؟ سأل ابي كالمصعوك ….

– ثمن كيس القمح , بعت ذهبات زوجتي كي اقدر ان اتدبر امري مع عائلتي في بلاد الغربه , والباقي قررت ان اسد بها ديوني ..!!

قال بلهجه , من كان قد اتخذ قرارا لا رجعه فيه ….

– لن آخذ منك قرشا واحدا … حتى لو قطعتني وقبرتني تحن الارض ..!! صرخ ابي من اعماق قلبه , وتقدم من صدبقه ووضعه في حضنه , وبدأ يقبله قبلات , كلها لوعه وحسرات ولم يتراجع ابو خالد عن قراره , وضع صره من المال على الفرشه وغادر عرعره …. الى مجاهل الغربه والشتات وبعد النكبه الثانيه رافقت ابي الى مخيم " نور شمس " بحثا عن ابي خالد وعندما وصلنا الى المخيم هالنا ما رأته اعيننا من اوضاع المخيم , الذي بني ليكون علبا من الصفيح والحجار والطين , يسجن فيها ساكنوه ومشينا من زقاق الى زقاق , حتى ارشدنا اهل المخيم الى بيت ابي خالد , وعندما دخلنا بيته " وقشعت " عيناه صديقه , حتى هب من مكانه وتقدم من ابي , وتعانقا عناقا طويلا " وهات يا دموع ..!!"

وجلسا ليالي يتذكران اخبار " خبيزه " واهلها ….

ويرويان لي ولابناء ابي خالد , ايام عزها الذي اغتيل في وضح النهار ….

وبعد ان قاربت الزياره على الانتهاء … وصمم ابي على وداع ابي خالد وعائلته ومخيمه , صاح ابو خالد بابنه قائلا :

– هات كيس الخبيزه من المخزن ..!!

فقام ابنه من مكانه , ولم يغب طويلا , عاد وفي يده كيس قديم جدا , مزقته يد الزمان ….

– اتدري ماذا فعل كيسك !!!؟ قال الرجل والكيس يتدلى الى اسفل يده …

– كيس ..!!؟

– نعم كيسك الذي اعطيتني اياه مملوءِ بالقمح ..!!!

– اما زلت تحتفظ به ..!!؟ صرخ ابي كالمصعوك …

– نعم لانه انقذ , ما يزيد عن عشرين نفرا ..!!

– شيئ لا يصدق …!!! خرجت من بين اسنانه كلمات تائهه ….

– اتدري على ماذا "عشنا " طوال الاسابيع التي سبقت الكيس !!!؟ على الخبيزه نطبخها ونأكلها فهي فطورنا وغداءنا وعشائنا ..!! اكمل حكايه يحفظها عن ظهر قلب ….

– على الخبيزه !!؟ همس ابي بذهول مصعوك

– واتدري على ماذا عشنا في الايام الاولى للرحيل ..!!؟ هنا في المخيم ..!!!

– على ماذا ايها الرجل ..!!؟ قال ابي بصوت قارب على الانهيار …

– على الخبيزه …!!!! لقد ملأنا الكيس …. كيسك …. بالخبيزه …. في طريق رحيلنا من البلد , ولم نجد غيرها حتى وصلتنا مؤن الاغاثه , من وكالة غوث الاجئين …!!

حتى تلك اللحظه لم يستسغ ذوقي طعم الخبيزه , لم اذقها ابدا , رغم احتجاج امي ومحاولاتها التي كانت تعود لتجرب حظها في اقناعي , مع عودة كل موسم من مواسم الخبيزه … ولكن دون جدوى …!!!

غادرت المخيم …. ورجعت الى بلدي …. وفي اليوم التالي , رافقت والدي , وتوجهت الى خبيزه … الى القريه المسلوبه …. وعندما وصلنا الى هناك فلم نجد الا حطام من الحجاره المبعثره , وغابه من الاشواك والاعشاب والواح الصبر , التي ترفع اكفها الى السماء , لترسم عليها تاريخ واخبار قرية خبيزه ….

ومن بين الاشواك والواح الصبر والحجاره المهدمه , كانت " عروق " الخبيزه ترفع " هاماتها " الخضراء الى اعلى , معلنه انها ستعود للاخضرار في موسمها في كل سنه , لتعد سنوات النكبه , وتعد العده للعوده … عودة ابناء خبيزه الى بلدهم …!!!!.

" فلقطنا " طبخه من خبيزات خبيزه , واكلتها لاول مره ….. لقد كان طعمها لذيذا … لذة العوده ….!!!

‫2 تعليقات

  1. لهذا المقال لا تعلقون ولا تعقيبات لماذا؟؟؟؟؟ لامسيات راقصة وعروض في الحوارنه نراكم هناك تكتبون تعليقات وتعقيبات ام غريب!!!!!؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة