“الباهرة”، مجموعة قصص رجاء بكرية المتجدّدة،(1)
تاريخ النشر: 06/08/15 | 10:48“.. بطلةُ قصص رجاء بكرية في “الباهرة” لم يُعذبها جسَدُها فقط، وإنما فقْدانُ الوطن ومعه فُقدان الحبيب المقاتل زادا عذابَها. فالوطنُ الذي فقدته عام 1948، والحبيبُ الذي كان يزورُها ويَعِدُها بالزّواج حين “يستطيل الزمن ويصيرُ الشّهرُ ثمانيةً وأربعين يوماً” (ص40) شَكّلا الوجودَ المأمولَ بالنسبة لها، وظلّتْ تُعَلّقُ آمالها لتحقيقَ هذا الوعدِ وهذا الحلم، رغم أنّ حبيبَها استشهدَ في عمليّة فدائيّة..”
عن الباهرة:
الكتابة أيّا كانت، هي في البدء تُشكّل قيمة شَكليّة. ولكنّها تتعدّى هذه الشكليّة لتؤدّي قيمة دلاليّة تُشير إلى القَصد الذي يُسْعى إليه.
والقصّة القصيرة كالقصيدة تنوّعتْ تعْريفاتها واختلفت آراءُ النقّاد حولها، وانهارت كلّ القيود التي كبّلتها، وأخذت تتشكّلُ على صوَر مختلفة، فتتوسّع لتُنافسَ الرّواية، وتشفّ وتَرقّ وتُحلّقُ لتُشاطرَ القصيدة مكانتَها، وأخرى تقصرُ لتنحصرَ في كلمات معدودة لتُشكّلَ خاطرة عرفناها في أدبنا العربيّ كثيرا، وأحيانا تتمنطقُ وتتحاورُ وتتقاطعُ لتُشبه المقالةَ الرّصينة الدّاعية إلى اعتناق مَذْهب واتّباع نَهج.
وتتميّزُ القصّة القصيرة من بين الأشكال الأدبيّة المختلفة بأنّها شَكْلٌ مُراوغ، ولكنّه غيرُ مُخادع، تُدخلنا في وَهْمٍ كثيف، ولكنّه وَهْم قائم على مجموعة من التّقاليد التي يعرفها القارئ والكاتبُ معا، كما يقول أوفولين.
قصص متُجَدّدة تنبض حيويّة
تخوض رجاء بكرية في مجموعة “الباهرة” تجربة رائدة شجاعة، فمعظم قصص المجموعة كانت قد نشرتها، وقرأناها في مجموعة “الصندوقة” الصادرة عام 2002. فهي تعيدُ كتابة القصة، تُبَدّلُ بعضَ الكلمات، بل مفقرات كاملة، تحذفُ وتضيف. وحتى أنّها بدّلتْ عنوانَ قصّتين. “فتلك المدينة” أصبحت “أوزّات سعيدة”، و”فلسفة الغبار” حملت عنوان “الباهرة”. وترى رجاء أنّ من حقّ الكاتب أنْ يعيدَ كتابة نصّه الذي نشره، وأن يغيّر ويبدّل ويحذف ويزيد كما يريد.
وكان العديدُ من الشعراء والكتّاب قد سبقوها في تغيير وتبديل وإضافة وحذف بعض الكلمات وحتى العبارات. والبعض تخلّى عن بعض إبداعاته وكتاباته لأنه رآها تسيء إلى تجربته الإبداعية مثل الشاعر محمود درويش الذي حذف مجموعة شعره الأولى “عصافير بلا أجنحة” من قائمة كتاباته، كما أنّه حاول التنكّرَ لقصيدة “عابرون في كلام عابر”، وبدّل وغيّر وحذف الكثير من الكلمات والعبارات من القصائد العديدة.
طبعا لكل مبدع الحريّة فيما يرى ويقول، ولكنني أنا أرفض هذا الموقف، وأرى أن النصّ الإبداعي عندما يُنشر ويكون بين يدي القارئ يُصبح مُلكَه، وليس من حقّ صاحبه استرجاعه أو التّلاعب به بالتّغيير والتّبديل والحذف والإضافة. خاصّة وأنّ مثل هذه الإمكانيّة، إذا سمحنا بها وتهاونّا فيها، يكون بإمكان كلّ كاتب أنْ يُعيدَ كتابة نصوصه الشعرية والنثرية لتلائم الزمان والمكان والناس وحتى نظام الحكم، فلا يبقى عندنا المبدع المتميّز المتفرّد، ولا يُمكننا تَقْييم إبداع وتجربة أحد. فالكل متغيّر متجدد.
ميّزة قصص مجموعة “الباهرة”
قصص مجموعة “الباهرة” لرجاء بكريّة هي النّموذج الأمثلُ لما قُلتُه عن كوْن القصّة القصيرة شكلا مُراوغا يصعبُ ضبطَ حدوده. ولا يُمكنُنا حَصْرَ قصص رجاء هذه في التّعريفات التي عَرفناها للقصّة القصيرة، ولكننا نستطيعُ أنْ نجدَ في كلّ منها ما يُقَرّبُها من بعض التّحْديدات. والخاصيّة الأساسيّة التي تتميّزُ بها قصصُ رجاء بكرية أنّها تمتلكُ القُدرةَ على خَلْق وحْدة الأثَر أو الانطباع الذي اعتَبَره إدجار آلان بو ” الخصّيصة البنائيّة الأساسيّة للأقصوصة والنتاج الطبيعي لوعي الكاتب بحرفته ومهارته في توظيف كل عناصر الأقصوصة لخلق هذا الأثر الحاد”. لقد نجحت رجاء في شَدّ القارئ من اللحظة التي يبدأ فيها قراءة الجملة الأولى ليُتابعَ القراءة وهو مَشدوه بعَزْف اللفظِ وإيقاعيّة الحركة وانسيابِ المُفردة وخَلْقِ الصّورة ورَسْمِ المَشهد الكامل لواقع ساحر يجذبُ القارئَ إليه ليغوصَ فيه، ويتذاوبَ، ولا يُفكّرُ أبدا بتَرْكه أو التنازلِ عنه، خاصّة وأنّ الجسدَ ومَشاغلَه كان مركزَ ومحورَ اهتمامِ وانشغالِ بَطلاتِ قصص رجاء بكرية. فتبدأ قصة ” امرأة جميلة جدا” بشدّ القارئ: ” أسبح في عَرقي. وصوتي يستحيلُ إلى دوّامة شبق. لا أعرفُ كيف يحدثُ أن أبتلع ذاتي أو تبتلعني. لعلّني أهذي، فالفراشُ الساخنُ عادة يلسعُ أوردةَ القلب بقصاصة أولى بلّلها أولُ رجل سبحَ الجسدُ البكرُ في أبخرة عرقه وعشقَ ملوحتَها ” (ص76).
وبداية قصة فراشة صفراء: “منذ شبكتنا الصّدفة بنظرة عفَويّة خاطفة تناسجت بين أمامك وورائي خيوط عنكبوت وعرة أفرزَ جناحُ فراشة صفراء صمغا عجيبا في عينيّ وزجّجهما بظاهر المقعد الذي احتواك”(ص24)
وترى الدكتورة منى فيّاض ” أنّ الجسدَ مُعطى جَوْهريّ، وأنّ دخولنا الى العالم يتحقّقْ في اللحظة التي نظهرُ فيها كجسَد. فوجودُنا هو جسَدُنا، وهويتُنا هي في هذا الجسَد، ومماتُنا ايضًا يحصلُ على مستوى الجسَد نفسِه”. ومع بروز الثورة الجنسيّة وثورة الجسد في الستينيات، بدأ الجنسُ والحبّ، وهما الأكثرُ ارتباطا بالجسد، يظهران كضرورة شِفائيّة تُسهمُ في المحافظة على التّوازن النّفْسيّ.
وبطلة قصص رجاء بكرية يُشغلُها جسَدُها وهمومُه عن كلّ الهموم الأخرى، ويعزلُها عن كلّ العالم المحيطِ بها. فلا مُتطلّباتِ لها غير ما يَطلبُ الجسدُ، ولا مُعاناة إلّا مُعاناة الجسَد، ولا آلامَ وأحزانَ وآمال وأشواق ورَغبات إلّا للجسَد. وجسَدُها حتى يرتاحَ بحاجة للجسَد الآخر، جسَدِ الرّجلِ المفقودِ في الواقع، فيزداد العذابُ والألمُ والتّشوّقُ والإلحاحُ للوصول اليه، فيكون الخيالُ ويكونُ الحلمُ، حلمُ اليقَظة، هو الوسيلة لتحقيق ما تُريد، ولكن حتى في الحُلم الذي تهربُ اليه لا تنجحُ في خَلْقِ الرّجل المتيّم بها، المطيع لها، المنفّذ رغباتها والمطفئ نار جسَدها، وانما تجدُ الرّجلَ الذي يعرفُ كيف يستغلُّ بساطتَها ولهفتَها وشوقَها وثورةَ جسدها، ويتركها لتتعَذّبَ وتُعاني وتشكو الوحدةَ وغيابَ الرّجل الذي به يكتملُ وجودُها، أو بالأحْرى وجودُ جسَدِها. “لقد جعل من أصابع يديه مفاتيحَ للأقفال المغلقة والصندوقة الحديديّة بالذّات التي استجابت شيفرتها لإحدى أصابعه. شعرتُ مع تردّدها أنّ أصابعَ يديه تتحدّثُ، وأنّني مُضطرةٌ للإصغاء إلى حديثها ولو استدعى الأمرُ إرْغامه على السّماح لي بذلك. لكنّ الحديثَ استحالَ همسًا. لَغْطا.. ضَياعًا.. رَغْبَة.. صُراخًا.. مَشى مشى ولم يتوقّفْ حتى مَشتْ فينا سُحبُ العَتْمَة” (قصة الصندوقة) (ص19 ).
ونراها بكلّ الصّراحة والجرأة تذكرُ تضاريس الجسد دون حَرَج، ، ولكنّ الواضح، مشيرة إليه بالأسود والكَمثرى “تورطتُ على غير دراية مني برغبة الأسْود السّابح في تأمّلات، كلما اقترب ازدادت هرَبا إلى القاع. “على غير توقّع أورق حسّ الأنثى فيّ رهِفاً خجلا، وراح يشرب ظمئًا غموضًا لا يشبع، ويلتقي بمواطن انفجاره. تعلّق ريقه بانحراف شفتي واسترخى انشداهي بخطوط كَمثراه”. (قصة فراشة صفراء) (ص25). و “طواني بين ذراعه، اعتصرني سَحقني. تأوّهتُ التذاذًا تَشَهيْتُه طويلا، ورغبة الأسْوَد تتشاهق شجرًا يُرسل مع كلّ تأوّه ثمرة حتى خرّ بثمره الشجر. لكنّ الغريبَ أنّ عينيه ظلّتا تهربان إلى القّاع كلّما اندفعت لقَطف الثمر(قصة فراشة صفراء) (ص26). و ” بعصبيّة متناهية فكّك أزرار الجسد. بتطيّر مزّق بعضَ ملابسها حين خانته يداه. وزّع أزرارَها على زوايا الغرفة وأخذها بقسوة. كانت تعاريجُ الجسد القَشدي تتجمّع اسفنجًا رخوًا بين ساقيه. تتقلّبُ مناخاتُه بين عَصف ومطر، ويُحدث زلازل أوّاهة الألم” (ص29). و “أغار عاصفة حبلى بالشّرر. خيّل إليها أنها بطلة وهميّة في مشهد بانتوميمي عصيّ على الأداء. أطفأ الذهولُ نجوما أضاءت في جسده. انكمش الإسفنج وسَكن. احترق فتيلُ القنديل تحت وهَج الجسَد. لم يستبق الفراشة، خبا وانقتل. اهتزّ زجاجُ النفق وانكسر، إذ سمعَتْ اصطكاكًا تحت أسنانها، وكأنّما صدر عن امرأة سواها. شهقت صرخة باهتة نسيت لونَها، وخبا وهجُ البصر. احتضن القلبُ انكماش الزّهر وغفا تحت نشوة ووميض شرر. مالت على أذنه تعضّها وتهمس: أريد ان أتفتّح مرّة أخرى”. قصة فراشة صفراء (29-30).
لكنّ هذا الرّجلَ المعشوقَ الذي كانت تمنحُه نفسَها وتُعَيّشُ نفسَها معه ساعات الليل الجميلة السّاحرة، سرعان ما كان يملّها ويتركُها هاربا منها ليخونَها مع غيرها، حتى اذا ما ضبطته اثناء خيانته، لا يُكلّفُ نفسَه بالاعتذار لها أو اختلاق الأعذار لفعلته. لكنّ بطلة قصّة “الصندوقة” تُعلنُ لرجلها الذي خانها قرارَها دون رحمة “أنتَ هناك وأنا هناك ويا دار صيري دارين” (ص18). بينما في “فراشة صفراء” استولاها الضّعف، واحتارت ماذا تفعل أمام الرّجل، الذي جاءها ساعات الليل ليَمنحها أجملَ لحظات عمرها، ويُدغدغَ جسدَها بأحلى ما تتمنّى، تركها وهربَ لمجرّد سَماعه صريرَ البوابة الحديدية.. ” انحشر في ملابسه كيفما اتّفق. قبض باليد اليسرى حذاءَه وباليمنى وحشة الصمت. دفع نافذة الغرفة الخشبية المطلة على شارع الليل وتدحرج عبره ككرة مَطاطية، ظلّت تتقافزُ لمسافة بعيدة، وابتلعته العتمة”. (ص30). ومحمد الذي عشقته حتى الوَله، وعشقت حتى حذاءه الذي تركه في غرفتها، محمد هذا الذي سحرها بجملة عابرة قالها لها في لحظة التّواصل، وجعلها تُصدّق أنّه الحبيب المُخلص، ضبطته يُضاجع أخرى في غرفته، ويهمس في أذنها نفسَ الجملة التي قالها لها وسَحرها بها، فعادت أدراجَها وهي في منتهى الألم والحزن، تعترف بأنها “امرأة مُغفّلة جدّا، وأنّ حبيبَها رجل حذاء قمامة” (قصة امرأة جميلة جدا ص92).
هكذا تعيش حوريّة قصص رجاء بكرية مع نفسها تحاور جسدَها، تستثيره ويُثيرها، تُعذّبُه ويُعذّبها، تقضي معه ساعات الليل الطويلة، تعجزُ عن مواجهته بواقعها القاسي، فتهربُ لتُحقّقَ له ما يصبو اليه بحلم جميل لذيذ تَعيشُه وتتماهى معه بكل جُزَيْئات جسدها، حلم متقطّع تتناوبُه السّعادة الغامرة الوهميّة، لكنّه سرعانَ ما يتكسّر ليُعيدَها الى الواقع الظالم الذي لا يرحمُ لتكتشفَ أنّ السّاعاتِ والأيامَ والشهورَ والسنواتِ تهربُ منها، وأنّ جسدَها المرهَقَ أصبح أشبَهَ بخرقة مثقوبة يمطرُ من أطرافها البكاء” (ص44) وتسأل بمنتهى الحرقة والعذاب الذاتي القاتل: “هل تفهمُ معنى أنْ يهجرَ زمنٌ امرأة؟” (ص143)
عذاباتُ الجسَد ورغباتُه الجنسية اللامحدودةُ هي مُرتكزُ اهتمامِ حوريةِ قصصِ رجاء بكرية في مجموعة “الباهرة” واذا نحن التمَسْنا، كما يقول الدكتور عز الدين اسماعيل، “الحلقة التي تربط بين العمل الفني والنَّوازع الجنسيّة وجدناها متمثلةً في الأحلام. فهناك نوازعُ جنسيةٌ مكبوتة لسبب او لآخر، وهي مكبوتة في اللاشعور. فليست تستطيع الظهور إلاَّ في حالات غَفلة من الشعور، فتظهر عندئذ ويفرغ اللاشعور شحنته في شكل رموز، وفي العمل الفني يتحقّق الشيء نفسه. فالعمل الفنيّ إذاً تدفع إليه أسباب هي التي تدفع إلى الحلم، ويُحقّق من الرّغبات المكبوتة في اللاشعور ما يحقّقه الحلم. وهو كذلك يتّخذ من الرموز والصّور ما يُنفّس عن هذه الرّغبات، ويخلق بين هذه الرموز أو الصّور علاقات بعيدة وغريبة في الوقت نفسه. ومن هنا تأتي المتعة التي يجدها الفنان في إخراجه عمله الفني إلى الوجود” (التفسير النفسي للأدب للدكتور عزّ الدين إسماعيل. ص 48).
عذابات الجسد ورغباته وثورته هي محور قصص مجموعة “الباهرة”، وفي ضوء منهج التحليل النفسي حاولتُ سَبر الأغوار وفَكّ الرموز والكشف عن المخفي المُحرّم، وإيصال الصرخة العالية التي يكبتها المجتمع العربي الذكوريّ ويقمعُها بقَسْوة.
لكنّ القارئ المتعمّقَ لقصص رجاء بكرية يستخلصُ أنّ غَضْبتَها ليست مُوجّهة ضدّ الرّجل المستغل القامع، فهو يظلّ عندها المرغوبَ فيه والمغفورَ له عملُه مهما قسا وظلم، والذي به تكتملُ سعادتُها وتبني عالمَها وتضمنُ مستقبلَها. وإنّما غضبتُها فتُوجّهها نحو هذا القَمْع المعمولِ به والمسكوتِ عنه والممارَسِ يوميًا ضدّ المرأة في المجتمع، اذا كان هذا القمعُ يُمارَسُ تحت شعار المحافظة على العادات والتّقاليد، أو محافظة على قُدسيّة الدين وأحْكامه، أو بدافع الخوف من التيّارات والأفكار والسّلوكيّات الغَربيّة المقتَحِمَة مجتمعَنا، خاصّة أجيال الشباب.
فقدان الوطن والحبيب
بطلةُ قصص رجاء بكرية لم يُعذبها جسَدُها فقط، وإنما فقْدانُ الوطن ومعه فُقدان الحبيب المقاتل زادا عذابَها. فالوطنُ الذي فقدته عام 1948، والحبيبُ الذي كان يزورُها ويَعِدُها بالزّواج حين “يستطيلُ الزمن ويصيرُ الشّهرُ ثمانيةً وأربعين يومًا” (ص40) شَكّلا الوجودَ المأمولَ بالنسبة لها، وظلّتْ تُعَلّقُ آمالها لتحقيقَ هذا الوعدِ وهذا الحلم، رغم أنّ حبيبَها استشهدَ في عمليّة فدائيّة، ورغمَ أنّها دفعتْ ثمنَ صمتها على مَعرفَتِها به. حبيبُ بَطَلة قصص رجاء هذا اختلفَ عن العُشّاق الآخرين بأنّه لا يُتقِنُ كلامَ الحبّ الشعريّ الأخّاذ، وإنما ينطقُ كلمات عَفَويّة تأتيه بنتَ ساعتِها يقذفُها في مستودعِ هاتفِ محبوبته “وِلِكْ وينِكْ، لاح أخُنْقِك مش عارف ألقيكي، أنا قريب من ورق الخروبة اللي سَجّلنا عليها اسمينا، الساعة سَبْعة ونص، بسْ وينِك، وينِك إحْكيني ضَروري، حْداعش ونُص قبل ضَرْبة جرَس الكنيسة، واليوم يوم الأحد، وقعَتْ الدنيا بكلساتي وتْحَمّصْ راسي، بَسْ بَلاكي ولا ولا ولا شي ماشي. بدييش أصْحا قبل ما أشوفك، إفْهمي عادْ طَفّرتِ بُسْطاري وسَمايْ، قلبي انخلعْ، اسأليني ليش؟ مشغول على طول بَسّ بفَكّر فيكي زَيْ المهبول” (ص42).
ومثل هذا المحبوب المختلف نجدُ بطلَ قصّةِ “أشواق نازحة” الذي تفصلُه حواجزَ الجُنْد وتُبعدُه عن محبوبته، ولا يجدانِ غيرَ الهاتف ليتبادلا كلامَ الحبّ، لعلّ نيرانَ الكلمات تُشعلُ أفئدةَ الجُنْدِ “سنُجازفُ بقُبْلة ثانية تُجبرهُم على رَفْعِ الحصار لساعة، كي يستبدلوها بأسلاكٍ جديدةٍ يتنصّتون منها على خطّة لقائِنا القادم. قد نستغلّ فوضى حواجزِهم فنتبادلُ من بعيد شَهقةً، ثم نعودُ للاختباء خلفَ الأسْلاكِ الى حين نلتقي خارجَ حلمٍ أبْله حين تحترقُ أسلاكُ المدينة كلّها وتطلبُ السّلطاتُ نجدَةً (ص74)
لكنّ هذا الاختلافَ بين هذين المحبوبَين وباقي أبطالِ قصص رجاء لم يتبلورْ بصورة جَليّة، وإنما انحصرَ في أنّهما ضحيّةُ الاحتلال للوطن، وأنّهما اختارا طريقَ النّضال والتّحدّي للمُحتَل، أمّا فيما عَدا ذلك فلم يختلفا عن باقي العُشاق، فقد ظلّ الجسَدُ وما يُثيرُه من نَزَواتٍ ومُيولٍ ولهفةٍ وأشواقٍ هو الطاغي على المشهد، وهو المحرّك، وهو الفارضُ نفسَه كما في باقي قصص مجموعة رجاء بكرية.
د. نبيه القاسم