الخيط الرفيع
تاريخ النشر: 18/04/13 | 1:11جلسوا على حافة الطريق , التي كان يرصفونا ببلاط الشوارع …. واحتموا بما تجود عليهم من شجرة كينا ,من نتف من الظلال …. واخرجوا زوادتهم , وبدأوا يسدون صرخات بطونهم , التي كانت تستغيث بهم , كي يخلصوها من ضربات الجوع الموجعه ….. كان الصمت سيد المكان , ولم تعانده لا عبثات تيارات الريح … فتحوا زوادتهم على مساحة من الارض حصورها بينهم , ليتمكن كل واحد منهم ان يتناول , ما يريد من الطعام الذي يتقاسمونه كل يوم معا .
واذا بسياره تقتحم الصمت , الذي صنعوه كي يرتاحون في اكنافه , من عناء العمل , قتمزقه , وتحوله الى قطع من الخوف والترقب , والتأهب , للمجابهه اليوميه مع معلمهم شلومو ….. نزل من السياره , وقبل ان يتوجه ليتفقد ورشة العمل , تقد منهم وبدل ان يحييهم , انفجر ضاحكا , بقهقهات مجلجله وصرخ بسخريه !!!!…..
-
انظروا ….. انظروا ..!!! محمد بوكل اللبن بالمعلقه ..!!!! سقطت اللقم من ايديهم , وتجمدت في افواههم وازوارهم وحلوقهم ….. واغتالت عيونهم , موجات من الحوامات القاتله , وسرت في اجسامهم ريح صرصر , حولت دمائهم الى قنوات , تحمل ينابيعا من حمى بركانيه …..
شعر محمد ان تيارات ثائره , انطلقت من جسمه تدفعه للوقوف , وافراغ كل ما فيها من ثوره ونقمه , في هذا الكيان الذي اقتحمهم …. واذا بتلك العينين الطفوليتين , التي تحملان كل براءة الوجود واحزانه , تطلان عليه …… فيبقى في مكانه متجمدا حابسا ومطفئ كل تيارات الغضب , التي كانت تملا كيانه .
انها عينا ابنه وسيم , الذي تسللت الى جسمه وحوش المرض الخبيثه , مهدده بقصف احلام هذا الطفل البريئ , وبذلك تقصف كل حياة جميع افراد العائله ..!!!
انه يعرف هذا " المعلم " منذ سنوات كثيره , لقد التحق بهم عندما كانوا يعملون عند منافسه , " يستحق " . وقال يومها انه قدم الى البلاد من روسيا , وانه يحمل شهادة مهندس شوارع , وقد اشركهم في" لعناته " على المؤسسه الحاكمه في اسرائيل , وكيف اصتدم بأكاذيبهم عندما اقنعوه بالقدوم الى البلاد , لقد وعدوه بان يعمل بعمل يليق بشهادته , ويوفر له كل اسباب العيش الرغيد , من مسكن وعمل يليق به … ولكن – حسب قوله – تبخرت وعودهم عند نزوله قي المطار , رموه في معترك الحياه الصعب , بدون معين , فأضطر ان يلتحق بأي عمل يصادفه , حتى يلملم , ما يؤمن له المسكن ولقمة العيش …..
فعمل معهم في رصف الشوارع سنوات قليله . ومن ثم ترك العمل , وانقطعت اخباره شهرا عديده , وبعدها بدأ يلتقي بهم في محطة " بيت ليد " التي ينزلهم فيها المعلم , ليستقلوا سياره اخرى توصلهم الى جنين , وبعد محاولات كثيره , استطاع اقناعهم , بالانتقال الى العمل عنده , بعد ان تحول الى مقاول , مستخدما الوعود البراقه , بشروط عمل احسن بكثير مما يحصلون عيله , عند معلمهم الحالي .
واستطاع بواسطة " علاقاته ", ان يحصل لهم على تصاريح عمل , لا يستطيعون ان يشتغلوا الا عنده …
وبعد انتهاء " شهر العسل " , بدأ يكشر عن انيابه الحقيقيه , فتحول من عامل بسيط يطلب الرحمه , الى وحش كاسر فتجبر بهم … سلب معظم حقوقهم الانسانيه , ونسي او تناسى انه كان عامل , يفترش التراب مثلهم , وينتظر يوم استلام المعاش بفارغ الصبر كي " يستر " على حياته . ولم يسلموا من "طول لسانه" وهزئه , فقد بدأ يستعمل معهم , اقذع واقسى الكلام , ويهزأ بهم وبحياتهم وبشعبهم , فأصبحوا يكرهونه كراهية العمى , ويتمنون الخلاص منه , ومن العمل عنده . ولكن "افواه كثيره تنتظرهم على المسطبه " ….. تنتظر اللقيمات التي يتلقفونها منه … فأذا تركوه طارت التصاريح وطار العمل ..!!!!
تركهم , بعد ان هاجموه بالصمت الثائر , وعيونهم التي تقدح شررا , من نار ملتهبه تشتعل في قلوبهم , ومشى ليتفقد سير العمل , فلحق به محمد , لكي يتلقى ضربات لسانه , فناوله اضعاف المعتاد منها …. " العمل لا يسير بالسرعه المطلوبه " وهناك اعوجاج في بعض خطوط الحجاره ……. وانه لم يتلقى منهم سوى الخساره واذا استمروا بالعمل على هذا النحو سوف " يخسر بنطلونه " ..!!!!.
كان محمد على يقين بحكم خبرته الطويله بالعمل ومعرفته بالسوق , بأن معلمه يجني ارباحا طائله , وانه مهما حاول ان يجد عمالا , فلن يجد مثلهم , في اتقانهم للعمل وسرعتهم فيه …. وانه يعرف انه يقول مثل هذه الاقوال , كي يسبب لهم الاهانات , ويشعرهم انهم لا "ينتجون " الكميه المطلوبه , وان عليهم انتاج المزيد والمزيد ..!!
حاول ان يجد "جنبا " من جنباته يستطيع ان ينام عليه ويغفوا , جربها جميعا … فلم تسعفه …. فقام من فراشه متحاشيا ان تشعر به زوجته , وتوجه الى باب غرفتهم , وفتحه بكل ما اوتي من لطف وخفه , كي لا يزعج مضاجع النائمين في البيت , وتسلل الى غرفة الاولاد , ووقف بجانب اسرتهم , وبدأ يقرأ على وجوههم لغة الحنان والرأفه , وعندما اصطدمت عيناه بوجه وسيم , سالت دمعاته من عينيه حتى وصلت الى خدوده ….. فخاف على الاولاد من تنهيده او غصه , او انفجار بالبكاء , او انين توجع , فانسحب مهزوما من حوام لا يعرف ماذا سيكون مصيره …. ولم يدخل الى غرفة البنات , لئلا يصيبه نفس المصير , فمسح دموعه بمحرمه من ورق , اختطفها من علبة محارم كانت على طاوله اولاده ,وانسحب راجعا , الى غرفته , "ودس " نفسه في سريره …. , ولكن النوم " بقي بعيدا عن عينيه" فعادت الافكار والذكريات اللئيمه , تهاجمه بكل شراسه …. , وتذكر " قصته " الملعقه , التي رماه بسهامها السامه " معلمه " امس …. فتذكر , انه هو الذي احضر له الملعقه من بيته , لانه بسبب تربيته في روسيا , فقد تعذر عليه " تغميس " اللبن بالخبز من الكأس مثلهم , فاشفق عليه فأحضر ملعقتين , وصار يجاريه في اخذه بالمعلقه , فوجد في ذلك اكثر راحه له , فاستمر على هذا الحال , حتى بعد فراقه لهم , وبعد رجزعهم للعمل عنده …. والآن جاء ليهزء باستعماله للملعقه ….!! متناسيا الايام , التي لم يجدها في بيته الذي سكن فيه ملعقه , يحضرها ليستعملها , في طعامه في مكان العمل ..!!
" غدا سأتغيب عن العمل لامر ضروري ..!!!" توجه محمد " لشلومو " … لماذا … !!؟" صرخ شلومو " كأن شيئا ضربه على رأسه !!!" سأتوجه انا وعائلتي لاجراء فحوصات لتعرف اذا كان بامكاننا اعطاء ابننا " مخ عظام " !!!؟ رماه محمد باجابه كي يخرسه , ويتخلص من كلامه …..
" ابنك ..!!؟ " ……
سأل شلومو بذهول … " نعم ابني ..!!؟" رد محمد ردا مفهما شلوموا , انه لا يستطيع ان يسمع منه المزيد ..!!!
ورجع الصمت ليسيطر عل كل ما في السياره , التي استمرت بالزحف في طريقها الى"بيت ليد" , لينزلهم هناك , ومن ثم يستقلون سياره اخرى , مدربه على " المخسومات " الكثيره التي تفصل بينهم وبين مخيم جنين …..
تغيب محمد يومين عن العمل , قضاها في مناشدة اكبر عدد من الناس , التوجه الى مستشفى نتانيا , لاعطاء عينات من لعابهم , لعلهم يجدون الشخص الملائم , الذي يستطيع ان يعطي وسيم " مخ العظام " ….. وينقذ حياته ..!!!!
وعندما عاد الى العمل …. فوجئ بشلومو يأتي الى ورشة العمل مبكر جدا , وعلى غير عادته … وعندما تقدم منه ظن انه يريد ان ينكلم معه بشؤون العمل , وأذا به يرمي به سؤالا لم يتوقعه " هل وجدتم المتبرع الملائم لابنكم ..!!؟" " لا… لا … !!؟ " اجاب محمد والدموع تكاد تنفجر من عينيه …
" اين تجرى الفحوص …!!؟" سأل شلومو والجديه تملأ صفحات وجهه " في مستشفى نتانيا ..!!!" ولكن لماذا تسأل ..!!؟ اردف محمد بذهول ….
"لقد عزمت على التوجه الى المستشفى لاجراء الفحوص ..!!"
رمى محمد حجر البلاط من يده , واسرع الى شجرة الكينا , الى تحت ظلالها المتلاعبه , وجلس في المكان الذي يجلس فيه كل يوم , ليتناول اللبن بالملعقه , ورمى نفسه في نحيب محموم … وشلومو واقفا كأنه صخره , وعيناه منصبتان عل وحه محمد , لقد رأى صورة ابنه المصاب بالمرض مرسومه على صفحات وجهه …. محمد ..!!.