ماذا لو كان شكسبير أنثى؟

تاريخ النشر: 14/08/15 | 8:07

تمرُّ الأيام سريعةً كالعادة، وكالعادة أيضا ينتهي اليوم ويحين موعد النّوم قبل إنهاء ما يجب إنجازه من لائحة المهام. كان يوما حافلا افتُتح بمحاضرةٍ عن القوى الكهرومغناطيسية والحقول النّاتجة عنها وانتهى بورديّة عمل طويلة أبت أن تنتهي. لحسن حظّي، لم يتأخّر الباص وقد حرصت هذه المرّة على الصّعود للباص الملائم بدون النّظارات.

منذ البارحة وأنا أفكّر بالمحاضرة الّتي كانت صباح أمس عن الكوميديا الشكسبيريّة وتحديدا عن مسرحية ‘ضجّة فارغة’ (Much Ado About Nothing) والّتي تُعدّ الكوميديا الرّومانسية الرّائعة لشكسبير.
وجدت نفسي مصغية إلى أقصى حدّ مع المحاضِر، ربّما لأن المحاضَرة تمحورت بالأساس حول الخلفيّة التّاريخيّة والسّياق الاجتماعيّ الّذي كتبت فيه المسرحيّة؛ إذ تعمقنا بتفاصيل المجتمع الإليزابيثيّ في عصر النّهضة كوسيلة لتحليل النّص وربط بعض من عناصره مع مميّزات تلك الفترة.
تحدّث ‘نوعَم’ عن إحدى تناقضات عادات المجتمع آنذاك فيما يخصّ الزّواج، والّذي كان يعتبر مقوّما اقتصاديّا سياسيّا لحياة كريمة خاصّة عند الطّبقة الأرستقراطيّة؛ فكلّما عليت رتبتك الاجتماعيّة، زادت الاعتبارات الّتي يجب النّظر فيها عند اختيار الزّوجة المستقبليّة، إذ لم يكن الزّواج المبني على الحبِّ ومعرفة الآخر أمرا مأخوذا بالحسبان. وبالتّالي، كانت العائلات الأرستقراطيّة في سعيٍ دائم لترويجِ بناتها وزيادة جاذبيّتها للخُطّاب ذوي المراتب العالية، بحيث لم يكن الأمر مقتصرا على الاعتناء بالفتاة شكلا فحسب، إنّما أيضا تعليمها القراءة والكتابة، فنّ الخطابة، عزف الموسيقى وتثقيفها فتصبح إنسانة واعية ومدركة للسّياسات الدّائرة وللاعتبارات الاستراتيجيّة الّتي تقتضي بان تجد لنفسها رجلا يليق بمقامها الاجتماعيّ وما إلى ذلك… حتى أصبحن يرفضن الزّواج أساسا(!).

تركتني هذه المعلومة أفكّر إلى الآن بالتّناقض البارز: يتعاملون مع المرأة كسلعة مملوكة، أو كوسيلة لتحقيق غاية سياسيّة-اقتصاديّة-اجتماعيّة معيّنة، يهتمون بتثقيفها ويجعلونها واعية مدركة للألاعيب كلّها ويتوقّعون منها -مع كلّ هذا- الانصياع وإكمال اللّعبة وكأنها لا تزال لا تعرف شيئا.

بالرّغم من وجود تناقضات كثيرة كهذه في المجتمعات المختلفة، إلّا أنّ تلك المتعلقة بشؤون المرأة في المجتمع تكون عادة الأكثر بروزا لِما يتخلّلها من إجحاف بحق المرأة.
لا زلت أحاول أن أفهم حقّا وبصدق، مما تنبع صعوبة استيعاب المرأة وانخراطها في المجتمع كأيّ رجل آخر. إلى الآن، وبالرّغم من التّقدّم الملحوظ في دخول الإناث للجامعات والمعاهد العليا، وانفتاحها لدنى وعوالم كاملة من العلم والمعرفة إلا أنهم وبكلّ عنجهيّة يتوقّعون أن تنهي المرأة دراستها لتدخل بكلّ سرور لبيئتها ‘الطّبيعيّة’: في البيت مع الأولاد، ليكون هذا سقفا لطموحاتها وأحلامها. لا نزال إلى اليوم نصف الأم بالتّضحيّة كنوع من الشّكر والعرفان فنراها ضحّت بالكثير لترى الزّوج والأولاد يحقّقون يتقدّمون وهي مكتفيّة بمشاهدة النّجاحات هذه ومشاركة الفرحة بها، وكأنّ هذا هو الوضع الطّبيعيّ!
أرانا نستخف بذاتنا، لا نعطيها حقّها، لا نسعى لاكتشافها، تنميتها، تطويرها لتكون ذاتا مصقولة جاهزةً لتستفيد أوّلا، متعطشةً لما هو جديد ومن ثم لتفيد – لا لأن تضحي.

تطرح فيرجينيا وولف في مقالها ‘غرفة تخصّ المرء وحده’ (A Room of One’s Own) قصّة خياليّة تدور حول جودِث شكسبير، أخت وليام شكسبير الخياليّة الّتي لم تكن أقل منه موهبةً، بل على العكس، كانت تفوقه فطنةً وذكاءً.

جودث كانت مضطرّةً للبقاء في البيت بينما يذهب هو للتّعلم، وتُمنع هي من ممارسة شغفها في الكتابة؛ فتُلزم بالقيام بأعمال المنزل، إلى أن تُجبر على الزّواج فتقرّر الانتحار… وهكذا تذهب كل مواهبها الدّفينة هباءً فقط لكونها أنثى.

تترككِ هذه القصّة مع تساؤلات عديدة منها: كم من أمثال جودث شكسبير ضاعت مواهبهنّ بين الأواني والصّحون في الحيّز المنزليّ؟ وكم منهنّ اضطررن لطمس ما تمتّعنَ به من ذكاءٍ وموهبة خوفا من الإقصاء من قِبل المجتمع الأبويّ؟ وكم من ‘جودث’ اضطرّت لإخفاء أعمالها الفذّة فلم يصلنا منها شيء؟ وكم منهنّ قوبلنَ بالرّفض والاستهتار؟

هل فعلا لو كان شكسبير أنثى لوصلتنا أعمالها كما هي؟ أكانت ستلقى كلّ التّمجيد الّذي تلقاه أعمال شكسبير حتّى يومنا هذا؟ لا اعتقد أنّ تخمين الإجابة على هذه التّساؤلات أمر صعب، فالتّاريخ يعجّ بأمثلة لحالات لم تلق فيها المرأة الفذّة سوى حنق المجتمع الذّكوريّ وبالتّالي جهودا ومحاولات لا تحصى لتثبيط همّتها، إحباطها وتهميش ما تتمتّع به من قدرات فكريّة تفوق ما يتمتّع به زملائها الرجال.

دُنى محمد حجازي

Untitled-1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة