بين التنسيق الأمني والتنسيق الفكري
تاريخ النشر: 21/08/15 | 14:23التزامًا بأدب الاختلاف وأدب الحوار الفكري القائم على تشريح الفكرة، وليس تشريح الأشخاص أقول:
إن التنسيق الأمني بين القوي والضعيف هو تنسيق مذموم، لأنه لصالح القوي دائمًا، ولأنه يفرض على الضعيف السهر الدائم على حماية أمن القوي. وإذا كان هذا القوي محتلًا، فإن هذا الضعيف سيسهر على حماية أمن هذا المحتل. وإذا كان هذا القوي مستعمرًا فإن هذا الضعيف سيسهر على حماية أمن هذا المستعمر. لذلك هو تنسيق فاسد يكرس سطوة هذا القوي، وإن بدا لأول وهلة كأنه تنسيق بين طرفين قائم على تبادل المعلومات والمصالح.
وإلى جانب ذلك فإن التنسيق الفكري بين الداعم والمدعوم هو تنسيق مذموم، لأنه لصالح الداعم دائمًا، ولأنه يمكّن الداعم من إملاء شروطه على المدعوم، ما دام يمد يده لتلقي هذا الدعم من هذا الداعم، ولأنه يفرض على المدعوم التقيد بالأجندة التي يفرضها عليه الدائم كيما لا يتوقف عنه هذا الدعم. فإذا كانت الأجندة سياسية فسيعمل هذا المدعوم على تنفيذها دون أن يملك أن يقول “لا”. وإذا كانت الأجندة فكرية فسيعمل هذا المدعوم على تبنيها والعمل على إشاعتها والذود عنها بين الناس. وإذا كانت الأجندة اجتماعية فسيعمل هذا المدعوم على الانقياد لها نصًا وروحًا. وإذا كانت الأجندة قيمية فسيعمل هذا المدعوم على الاعتداد بها والذود عنها وإشاعتها، حتى لو كانت تُصادم أصل قيمه مصادمةً تلغي أية فرصة للجمع بينهما، وحتى لو كانت هويته -بكل أبعادها- في واد وهذه القيم المفروضة من الداعم في واد آخر. ولذلك فإن هذا المدعوم، الذي سمح لنفسه أن يؤدي هذا الدور قد يتلقى ملايين الدولارات، ولكنه سيخسر قيمه وهويته وانتماءه بكل أبعاده الإسلامية والعروبية والفلسطينية. وقد يتحول هذا المدعوم إلى وكيل أفكار لهذا الداعم؛ يعمل على نشرها والدفاع عنها، حتى لو صادمت ثوابته مصادمة منكرة، وحتى لو أحدثت اختراقًا مذمومًا في مسيرة مجتمعه وشعبه وأمته، وحتى لو تضاربت مع ضميره المكنون في صدره. ولذلك فإن التنسيق الأمني قد يقود إلى اختراق أمني في مسيرة الضعيف، يصادر له ما في داخله من إرادة صمود في وجه هذا القوي ومقاومته. وأما التنسيق الفكري فقد يقود إلى اختراق فكري يزري بشخصية هذا المدعوم الفردية والجماعية، ويفرض عليها أن تؤدي دور (حاضر سيدي)، أو كما يُقال (ييس سير)، مع الداعم، خصوصًا إذا كان هذا الداعم يؤدي دور المكمل أو دور الوجه الآخر لأجندة المحتل أو المستعمر، حتى إن أخفى ذلك ولم يظهره وخرج علينا بوجه إنساني اصطناعي مزيف. ولذلك لا أبالغ إذا قلت إنه إذا كان التنسيق الأمني خطيرًا، فإن التنسيق الفكري أخطر، لأن ما يُبنى على التنسيق الأمني هو حفظ أمن القوي مع بقاء شخصية الضعيف، أما ما يُبنى على التنسيق الفكري فهو حفظ أمن الداعم وتنفيذ أجندته والتسبيح باسم قيَمه مع زوال شخصية المدعوم. ولذلك إذا كان رفضنا للتنسيق الأمني شديدًا، فيجب أن يكون رفضنا للتنسيق الفكري أشد وأشد. وعلى سبيل المثال: هذه إحدى المؤسسات في الداخل الفلسطيني (48)، والتي نظن بها خيرًا، رفضت أن تصدر بيانًا تعرب فيه عن دعمها للشواذ والشاذات جنسيًا، فقيل لها: إن لم تصدري هذا البيان فسنرفع الأمر إلى الجهة الداعمة!! وهذا يعني أن الدعم قد يتوقف عنها فورًا، فأسرعت وأصدرت – مكرهة – بيانًا يظهر الدعم لآفة هذا الشذوذ الجنسي. فهل هذا إلا اختراق في صميم قيمنا وثوابتنا في الداخل الفلسطيني في بعدها الإسلامي والعروبي والفلسطيني؟
وسلفًا أقول: نحن لا نعمم هذا التحليل على كل جهة داعمة أو مدعومة، ولكن نلفت الانتباه إلى خطورة هذه الظاهرة، وخطورة امتدادها في الداخل الفلسطيني، تحت مسميات مختلفة لعشرات المؤسسات المدعومة القائمة في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل الفلسطيني (48)، ما يجعل حصوننا مهددة من الداخل، كما قال ذلك -من قبلُ- الكاتب محمد محمد حسين في كتابه المشهور المعروف باسم “حصوننا مهددة من الداخل”. ولا أدري! هل الخلفية التي دفعت تلك المؤسسة، التي نظن بها خيرًا، أن تصدر بيانًا أعربت فيه عن دعمها لآفة الشذوذ الجنسي هي نفس الخلفية التي دفعت مجموعة مؤسسات ذات أسماء مختلفة في الداخل الفلسطيني أن تصدر بيانًا قالت فيه: “القمع الجنسي على أشكاله المختلفة، والذي يُمارس على المثليين والمثليات وأصحاب هويات جنسية وجندرية مختلفة هو غير مقبول أخلاقيًا، ويجب دحضه من قبل مجموعاتنا ومؤسساتنا ومجتمعنا الفلسطيني ككل”!! فإذا لم يكن هذا القول مثالًا صارخًا على التنسيق الفكري بين الداعم والمدعوم فما هو؟! وإذا لم يكن مثالًا صارخًا على الاختراق الفكري لدرجة أنه يدعو كل مجتمعنا الفلسطيني إلى أن ينسلخ عن ذاته، وأن يتماهى معه في دفاعه عن آفة الشذوذ الجنسي، إذا لم يكن اختراقًا فكريًا حتى النخاع فما هو؟!
ومع التأكيد أن خطورة هذا الاختراق الفكري غير محصورة في حدود مجتمعنا الفلسطيني في الداخل الفلسطيني (48)، بل هناك المساعي المتواصلة لإحداث هذا الاختراق على صعيد الساحة الفلسطينية عمومًا، وعلى صعيد الساحة العربية التي تمتد في العالم العربي، بل على صعيد ساحة المسلمين في كل العالم. وعلى سبيل المثال؛ فإن مركز “الدراسات الإسرائيلية”، الذي أقيم في الأردن قبل فترة قصيرة، يرى فيه العديد من المتتبعين أنه يسعى إلى تجميل صورة الكيان الإسرائيلي في العالم العربي، عبر تسويق الكيان أنه دولة ديمقراطية ونموذج للتسامح وللمساواة بين المواطنين العرب واليهود، ونفي كونه قوة احتلال لا تزال تتحكم بحياة ملايين من شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة العزة والقدس المباركة وأكنافها. وهذا ما صرح به القائمون على هذا المركز، حيث قال أحدهم لموقع “تايمز أوف إسرائيل” إنه لا توجد لدى المركز أية مشكلة مبدئية مع التطبيع. وأعلن هذا المتحدث أن هذا المركز مستعد لتلقي المنح المالية من مجموعات إسرائيلية. كما أعلن عن نيته في توسيع فكرة المركز خارج الأردن في دول عربية أخرى!! فإذا لم يكن هذا المركز بمثابة الاختراق الفكري في الصميم فما هو؟! وعلى سبيل المثال استوقفتني فقرة من مقالة بعنوان “الروتاري” بقلم “جريس بولس”، نشرها في صحيفة “كل العرب” في تاريخ 2014/8/29 يقول فيها، وهو يتحدث عن الروتاري كأحد أذرع الماسونية: “عندما وضع جماعة النورانيين عام 1776 خطتهم لإقامة حكومة عالمية واحدة، استخدموا الرشوة بالمال والجنس والسيطرة على وسائل الإعلام، وتجنيد الشخصيات ذات النفوذ، وأخيرًا الاهتمام بالطلبة المتفوقين عقليًا وثقافيًا والمنتمين إلى أسر محترمة، لتدريبهم تدريبًا خاصًا، عن طريق ترشيحهم للمنح الدراسية، ثم استخدامهم كعملاء بعد إحلالهم في المراكز الحساسة من خلف الستار، لدى جميع الحكومات بصفة خبراء، للاستفادة منهم في تنفيذ مخططاتهم السرية، وهذا ما يفعله الروتاري الدولي حاليًا”!! فإذا لم يكن هذا اختراقًا فكريًا، بل واختراقًا سياسيًا وأمنيًا من رأس هرم المجتمع حتى قاعدته، فما هو؟!
وعودة إلى وضعنا المحلي في الداخل الفلسطيني؛ فإني أذكّر الجميع أن كل مجتمعنا الفلسطيني في الداخل الفلسطيني (48) بكل أحزابه وحركاته وقف في وجه (الخدمة المدنية)، وكان ولا يزال يحاربها بلا هوادة، وصدق في ذلك، لماذا؟! لأن (الخدمة المدنية) هي اسم بّراق لمخطط إسرائيلي خبيث يهدف، باسم العمل التطوعي والمساعدات المالية والمنح الدراسية، إلى نقل ولائنا إلى السيد الإسرائيلي والانفصال عن وشائج القيم التي تربطنا بانتمائنا الفلسطيني والعربي والإسلامي. كما يهدف إلى استدراجنا نحو الانخراط في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية باسم تنفيذ مبادرات ذاتية قد يحمل ظاهرها خدمة مجتمعنا، ولكنها تقود صاحبها إلى السقوط الأمني والسقوط الفكري في نهاية المطاف. لذلك وقفنا في وجهها، وبحق، والكل منا يُشكر على ذلك. ولذلك يجب أن يدفعنا هذا الحرص السليم ألا يُستدرج بعضنا إلى متاهة التنسيق الفكري وفق جدلية الداعم والمدعوم، التي تحدثت عنها في بداية هذه المقالة، وإلا ما الفرق بين مخاطر الخدمة المدنية وبين مخاطر التنسيق الفكري إذا كانت كلها تصب في اتجاه استدراجنا لإعلان الولاء لانتماء غير انتمائنا، أو لقيم غير قيمنا؛ سواء وصلتنا مكتوبة باللغة العبرية أو باللغة الإنجليزية؟! وهل هذا الاستدراج إلا سعي ممن يقف من ورائه إلى أسرلتنا أو تغريبنا؛ سواء كان ذلك في بُعد الهوية أو بعد الانتماء أو القيم أو الثوابت أو الولاء؟! ألسنا معذورين عندما نغضب كلما حاولت المؤسسة الإسرائيلية أن تصادر من أرضنا، أو أن تهدم من بيوتنا، أو أن تعتدي على بعض مقدساتنا؟! فلماذا لا نغضب إذا ما كان هناك نداء يحمل في طياته مصادرة قيمنا الإسلامية والعروبية والفلسطينية؟! وما قيمة الأرض والبيت والمقدسات إذا دافعنا عنها ومنعنا عنها خطر المصادرة أو الهدم أو الاعتداء عليها؟ ولكن في غفلة منا صودرت بعض قيمنا وثوابتنا في كل أبعادها الإسلامية والعروبية والفلسطينية تحت أي مبرر كان، مع التأكيد أنه مبرر مرفوض سلفًا قبل أن نتعرف عليه!! ومع ذلك لا زلنا نقول: تعالوا بنا لنتحاور وفق أدب الحوار والاختلاف القائم على مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، بعيدًا عن لغط مرفوض يقوم على تكفير أو تخوين أو إقصاء أو تنابز بالألقاب، أو الاعتماد على أسلوب الإشاعة الرخيص.
الشيخ رائد صلاح