متى تسترجع المرأة العربيّة إنسانيّتها؟
تاريخ النشر: 27/04/13 | 0:26جميلة بن حبيب كاتبة وصحفيّة وناشطة حقوقيّة في المجتمع الكندي، جزائريّة الأصل تعيش في الكبك منذ 1997. تكتب باللّغة الفرنسيّة ومهتمّة بالأصوليّة الإسلاميّة والتي وعت مبكّرا خطرها على مستقبل النّساء وهي مراهقة في مدينة وهران الجزائريّة. تحصّلت سنة 2009 على جائزة الكتاب الفرنكوفونيّين في أمريكا، كما نالت جائزة اللاّئكيّة الدّوليّة سنة 2012. من مؤلّفاتها: "حياتي ضدّ القرآن" سنة 2009 "جنود الله يقتحمون الغرب" سنة 2012. و"خريف النّساء العربيّات"، 2013.
"هي أن أمشي في الشّارع بكلّ حريّة"، هكذا قلت بعفويّة لصحفيّة إحدى القنوات التّلفزيونيّة الكنديّة، جاءت تستقصي عن مفهومي للحريّة "أنا التي غادرت الجزائر منذ 1994 نحو فرنسا ومن ثمّة إلى الكبك سنة 1997. "وماذا أيضا" تلح الشّقراء الفاتنة صاحبة العينين الخضراوين الصّغيرتين وهي تمعن فيّ النّظر. "يا لها من تفاهة" ربّما تمتمت بينها وبين نفسها.
مع أنّني درست الفيزياء الكوانتيّة في جامعة وهران وكنت أتسلّى بالمعادلات التّفاضليّة، ففي سنّ العشرين لم أكن أحلم بالرّقص على سطح القمر ولا اختراق الغلاف الجوّي ولا شيء كان يمكن أن يجعلني سعيدة أكثر من إمكانيّة استنشاق نفحة هواء على شرفة مقهى وأنا وحدي. منفردة بلا وصاية، بلا رجل يحميني من نظرات الرّجال الآخرين؛ التي تعيدني باستمرار إلى وضعي الأنثوي.
وتحت تلك النّظرات المحمومة وذلك اللّيبيدو الهائج وبينما كانت شهوة البحر تنحت جسدي الفتيّ نبتت على صدري ثمرتين متمرّدتين لم أعرهما أدنى اهتمام ولم أتنازل أبدا عن لذّة الاسترخاء العذبة تحت شجيرات النّخيل، إذ بشوارعها ومسرحها العتيق وجبهتها البحريّة… توحي وهران بالعريّ والاستسلام للذّات.
كانت الشّمس دائما لطيفة بما فيه الكفاية فوق سماء وهران، ومواسم الصّيف طويلة وخاملة.
يحدث لي أن أحتلّ طاولة على شرفة مقهى دون "ولي" ذكر يحميني. ولكن كثيرا ما ترعبني الملاحظات المنحطّة لبعض الفضوليّين، نظراتهم الملحاحة، بصاقهم، الحجيرات التي يرمونني بها خلسة. كما تجعلني أشعر بالنّدم على جرأتي. تلك الأيادي المتنقلة السّافلة التي تحاول لمس جسدي.
بيد أنّني في كلّ مرّة أعاهد نفسي على عدم تكرار اللّعب مع الشّيطان ولكنّني في كلّ مرّة أعيد الكرّة. كما يحدث أيضا أنّ بعض التّعاليق المهذّبة من بعض المارّة المؤدّبين تنسيني هذه التّفاهات. في الحقيقة كنت أتمنّى أن أكون شفّافة غير مرئيّة.
مسمّرة على مقعدي، كنت كقطّة متوحّشة في حالة تأهّب دائم منتظرة أيّ هجوم محتمل، مستعدّة كلّ الاستعداد لتفادي أيّ طارئ. ولكنّني كنت أتظاهر أن لا شيء يمكن أن يصيبني. بقيت صامدة لا ريح تزعزعني. هل كان ذلك أسلوبي لتحطيم ذلك الاختناق الذي أرادوا أن يحبسوا فيه جسدي؟ بلا أدنى شكّ. وعلى كلّ حال لا شيء من هذا القبيل يتمّ بغير معاناة.
لم تكن محاولتي سوى مجرّد تجربة فرديّة ساذجة، مجرّدة من كلّ بعد إيديولوجي أو سياسيّ. بكلمات أخرى لم يكن ليخطر على بالي أبدا تنظيم حركة جماعيّة ضدّ التحرّش الجنسيّ الذي كنّا نعاني منه وكنّا كثيرات ولا حتّى طرح هذه المسألة في إطار الحزب اليساري الذي كنت أناضل في صفوفه في ذلك الوقت. لم تكن الحريّات الفرديّة من اهتماماتنا الأوّليّة، كنّا أكثر انشغالا "ببناء الوطن" وإعادة الكرامة للعمّال والفلاّحين والتّغنّي بمحاسن الاشتراكيّة. وأتعجّب اليوم كيف لم نتمكّن آنذاك من التقاط ذلك التّمرّد الكبير الذي كان يزمجر داخل كلّ امرأة.
ماذا باستطاعتي أن أضيف غير الإشارة إلى تلك المسافة الفاصلة بين جسدي النّحيل، المترنّح، المتردّد وعقلي السّاكن في قلب الكوني والرّافض للذلّ والسّجود للغير. قبل أن أتمتّع كليّا بحريّة جسدي تلذّذت بصفحات كاملة من شعر بول إلوار، بابلو نيرودا ناظم حكمت ومحمود درويش. وكثيرا ما أخمدت كلماتهم العذبة وتلك الرّقّة اليائسة السّارية في أشعارهم شعلة الغضب الملتهبة في دواخلي.
وأنا أرتّل أبيات قصائدهم كنت أقترب من صفاء يبهجني ولن أبالغ إن قلت إنّ هؤلاء الشّعراء قد أنقذوني من السّقوط في الجحيم. كانوا نافذتي نحو العالم، خيالي النّزوي، حلمي وفاتحة مشواري نحو الحرّيّة.
يا للهول! هل أتنازل للرّجال عن الشّارع هكذا دون مقاومة؟ أفضّل الموت بدل تقديمه لهم على طبق من ذهب! لي حقّ في هذا الشّارع، جميلات كثيرات دافعن في الماضي عن انعتاقي. الحكايات عن شجاعتهنّ العظيمة وهنّ لم يبلغن العشرين بعد، لا تزال تعجّ في رأسي، نساء ناضلن من أجل الحرّيّة وحكم عليهنّ جميعا بالإعدام إبّان الحرب التّحريريّة الجزائريّة. كلّ هذا يزيد من قوّتي ويجعلني أحسّ بالعزّة والفخر.
وتذكرني انتصارات الإسلاميين الانتخابيّة في كلّ من تونس ومصر بما حدث في الجزائر سنة 1991 ومهما قيل ويقال يحلم الإسلاميّون سواء كانوا من السّلفيّين أو من الإخوان أو غيرهما بإعادة عقارب الساّعة إلى القرن السّابع.
ما هو العيب في امتلاك المرأة لجسدها؟ ما الخطر في احتفائها بالحقيقة الشّهوانيّة لجسدها؟ ما قيمة حياة لا يستطيع فيها الإنسان التّعبير عن وجوده وإثبات أناه. باختيارهما للعري كوسيلة مقاومة تنقل المقاومتين، التّونسيّة أمينة والمصريّة علياء كلمة ألبير كامو إلى قلب الأحداث السّاخنة: "الوسيلة الوحيدة لمواجهة عالم بلا حريّة، يكتب كامو، هو أن نصبح أحرارا بشكل مطلق إلى درجة يصبح فيها وجودنا الخاصّ فعل تمرّد".
لماذا أصابت الشّابّتان كبد الحقيقة حينما جعلتا من جسديهما مقاما للمقاومة؟
لأنّ في العالم الذي تعيشان فيه يبقى جسد المرأة دائما مثار شبهات وهو ليس ملكها في حقيقة الأمر بل هو ملكا للرّجل أوّلا ثم تتقاسمه في وقت لاحق مع ذرّيتها. وليس من الصّدفة أن تبقى العذريّة قيمة القيم في هذا العالم، إذ لتطمح المرأة في الزّواج يطلب منها أن تعيش حرمانا جنسيّا مطلقا، أن تكبت كلّ عواطفها وكلّ مشاعرها التي تجعل منها امرأة: الرّغبة، المتعة الجنسيّة والحبّ.
هذا الاحتلال والتّجريد من الذّات هو عنف يمارس أوّلا على مستوى الحياة الحميميّة ثم ينتقل شيئا فشيئا نحو الفضاء العام. ومن هنا فسرعان ما يترجم هذا الإنكار للذّات الجنسيّة إلى إنكار للذّات المواطنة. في مثل هذه الظّروف، تكون استعادة تملك الجسد والتّصالح معه وإظهاره للعيان خطوة نحو الحريّة. الحريّة التي تدفع التّاريخ نحو الإمام، تعتقه بدل أن تجمّده في تقاليد أو عقائد دينيّة متكلّسة. الجنس مسألة سياسيّة والحبّ الحرّ فعل انشقاقي والجنسانيّة هوس يشغل كلّ العقول في هذه البلدان التي لا زالت فيها جنسانيّة النّساء قضيّة كلّ النّاس و مراقبتها باتولوجيا جماعيّة. الاعتداءات ضدّ النّساء غير المحجّبات في وسط مدينة تونس بالذّات من طرف أعوان أمن وظّفوا حديثا، اغتصاب فتيات في ساحة التّحرير أو التّمادي في طلب شهادة العذريّة من الثّائرات المصريّات من طرف عسكريّين متعبين، تلك بعض أمثلة من بين أخرى كثيرة. وهكذا تجد النّساء أنفسهن بين نارين حارقتين: دولة باتت لا تحميهن ومجتمع يحتقرهنّ.
متى تستعيد الأمّ العازبة كرامتها؟ ومتى تصبح المرأة المطلّقة لا تستحي من وضعها؟
متى يستطيع العاشقان تقبيل بعضهما أمام الملأ دون أن يعرّضهما ذلك للقصف بالحجارة واللّعنات؟
متى يتعايش الزّملاء والزّميلات في نفس الفضاء في وئام وبلا أفكار مسبقة؟
والعاملة لا تهاب من ركوب الحافلة صباحا؟
وهل يأتي ذلك اليوم الذي لا يصبح فيه الأخوة جلاّدين لأخواتهم، والرّجال معنّفين لزوجاتهم من أجل إبراز فحولتهم؟ ومتى لا تصبح المرأة محتاجة لوليّ أمر لتتزوّج؟ وهل سيسمح للمرأة بالزّواج من غير مسلم يوما؟
كلّ هذا يذكّرني بقصيدة بشير حاج عليّ الرّائعة "أحلام مبعثرة":
"أحلم ببشر في اتّزان في حضور المرأة وبنساء مرتاحات بحضور الرّجل".