مهرجان النحت القطري في حرفيش
تاريخ النشر: 25/08/15 | 16:02ليس كمثل النحت شيء، انه الفن القادر على خلخلة موازين الخط والنقطة والعمق والمسطح والمركب، والبعد الثالث، انه فن يتأصل من جوانية الفنان / النحات، بحثا عن صيغة جديدة للطبيعة، وهي تشكل الحركة كما تشكل السكونr، من الجماد الى الروح، وهي مسافة تطل من جرح الفن لكي تنسج روابط التأصيل والتحديث لجوهر الانسان، هذا العبد الحر، الذي يجر معه ثق سيزيف، ويسابق مع الريح غبارا يخرج من بين صلب الصخر وترائب الفنان.
فن النحت بهذا المعنى يعبر عن عودة الروح الى ذاته، والانسحاب من الطبيعة اللاعضوية المرتبطة بقوانين الثقل، التي تسعى إلى التعبير من خلالها عن الروح، لهذا يتحرر الشكل النحتي من الكتلة الخام التي هو فيها، الذي يقدم الروح طبيعة ومحيطا خارجيين، لأنه من المستحيل صنع تمثال نحتي دون أن نهتم بالموضع الذي سوف يشغله، وحسب محددات الفيلسوف الألماني – هيجل – فالشكل البشري هو الذي يؤلف مركز النحت، لان الجسم البشري هو التجسيد المادي الكافي للتعبير عن الروح، بمعنى أنه يتجاوز أي شكل حسي خالص، بكل بساطة لأن الروح كامنة هنا في الشكل.
يحقق الفنان / النحات منجزه الفني من خلال المادة / الكتلة التي تعتمد على الأمكنة في انسجامها العام، غير أنه لا يستخدم من خصائصها سوى الأبعاد المكانية العامة، وتتجلى هذه الابعاد في موضوعية الروح الجديدة التي يضفيها على الكتلة، الذي لم يكن قد تمايز مع كنهه، وعن وجوده في الهنا الجسماني، والمهمة التي تقع على كاهل النحت في تمثيل النسبي في بما هو كذلك في سكونه وتساميه اللامتناهيين، خارج نطاق الزمن، أي في المعنى العام الذي يجسده الفنان الاستقرار الأخير لما جسده، وليس له شخصية ذاتية، ولذلك فهو غير ملزم بالمفاضلة بين عدة اختيارات، أو الاختيار بين عدة أوضاع، إن المنجز النحتي الذي يستمد موضوعه من الروح الموضوعي لا يجوز له أن يتخذ من موضوعات له سوى تلك التي يمكن التعبير عنها من خلال الابعاد الثلاثية للمكان، لأنه لو حاول النحت أن يعبر عن الموضوعات غير القابلة للتجسيد عن طريق هذه الابعاد، فإنه سيجد نفسه أمام مضمون يعجز بحكم المادة التي يستخدمها عن تمثيله والتعبير عنه بقوة المطابقة، إن الهيئة البشرية هي تقدم للنحت الأنموذج الأساس لإبداعاته، وتتميز الهيئة البشرية عن الهيئة الحيوانية بكونها ذات طابع روحي، ولذلك نجد أن الجسم البشري ليس موضوعا طبيعيا صرفا، وإنما وظيفته يمثل في بأشكاله وبنيته الحياة الحسية والطبيعية للروح، مع تمايزه في الوقت ذاته، من حيث هو تعبير عن جوانية من نوع أرفع وأسمى من الجسم الحيواني، رغم تشابه الجسم الحيواني مع الجسم الانساني.
وهكذا يتبن لنا أن النحت هو الفن الذي يستطيع أن يقدم التوافق بين البراني والجواني / الداخل والخارج، حيث نجد أن الفيلسوف –هيجل – يكرر باستمرار أن الفن الكامل، يسبقه بالضرورة الفن الناقص، بمعنى أن أي فن من الفنون لا يصل إلى ذروة اكتماله مرة واحدة، وإنما تسبقه دوما محاولات ناقصة تمهد لهذا الفن.
أن تقف أمام صخرة، كتلة، صماء، تفتح نافذة مشرعة لسؤال الوجود، وكيف يمكن لهذه – الكتلة- ان تحاور، ان تكون لها القدرة على الاستفزاز، بصريا ببصيرة نافذة، ليس وانت واقف امام فنان يحاور ويجاور الكتلة ويبعث فيها بعضا من روحه وينفث فيها حركاته المستمدة من الوجود الأعلى، من سماوات الفكر، من علياء البحث والتنكيش، تلك بعض من سمات من انطبع في ذاكرتي وانا أقوم بزيارة الكتلة والفنان في مهرجان النحت القطري على الصخر في قرية حرفيش الجليلية، رفقة زوجتي الفنانة رانية عقل وفلذة كبدنا سلمى، لقاء ينسجم في هدوء بالغ وأنامل رانية تتحرك سرا بحثا عن لغة النحت وهي المشغوفة بهذا الفن المفلق، على طريق قدوتها الفنان جمال حسن، في هذا اللقاء لم يكن الحوار سيد الموقف بقدر ما كشفت لنا الكتل عن انوجادها الجديد وهي تتشكل على ايدي الفنانين المشاركين: جمال حسن \ احمد كنعان \ حكمت خريس \ مارون الياس \ حمودي ملا \ استر هار ليف \ عوني حلبي \ زهير غانم،وتجلي لنا بعدها الأنطولوجي، وتجادل فينا الكتل المتراصة بداخلنا، بغية تحقيق المنجز الفني الذي يسائل فينا جدوى الفن من عدميته في حياة اصبحت أكثر افتراضية منها واقعية، واصبح المرء لا يرى محيطه إلا في عالم أزرق ومحيط افتراضي، لقد تعمق الفكر كما تعمق الازميل في غياهب الصخر ليتفتق عن جوهر خالص، لا يقدم كينونته للزمن الحالي، وإنما يتعداه الى وجود ابعد واستمرارية تشنف بصر الزائر، قبل سمعه، وتؤكد لغة الابداع لكل الفنانين – النحاتين- الذين كانوا رفقة الفنان l جمال حسن، وهو يحاول ان يشرح البعد الزمكاني لهذه الاعمال الفنية وهي تنعتق من عبودية الكتلة الى حرية الفن.
سعيد العفاسي