نتف من الذاكرة ….. "عائد من دمشق 1"
تاريخ النشر: 29/04/13 | 11:44كنت زرت دمشق في آب 2001 في اطار زيارة الأهل والأقارب ، فزرت خالي أمين ساسي حسين في مخيم اليرموك في سوريا ، طاب ذكره ،وزرت بيت خال أمي على غميرد وأبنائه وبنات ابنة عمتي فاطمة غميرد وابني العم محمود ومنصور عمّار والحاجات بنات حسين غميرد وكان بصحبتي شقيقاي علي وزهير وحضرت من بيروت خصيصا الشقيقة كلثوم ومعها ولداها ، أسامة ووليد ، ورافقنا في الزيارة ابنتا عمتي "من عكّا" صبحيّة وفتحيّة ومعهما ابن صبحية ، أ حمد كردي .
لكنّ أحدا" لن يستطيع أن يغيّب من الذاكرة أو أن ينزع من عيوننا صورة الأهل المقيمين هناك في اليرموك أو في حواري دمشق الصابرين على الجرح أملا" في الحلم الذي لا حدود له .
لم تكن زيارتي الى سوريا في اطار لقاء الأهل والأقارب حدثا عاديا .
عرفت مدنا كثيرة في عالمنا الكبير ، طوّفت في عواصم أوروبيّة كثيرة ، زرت الشرق السيبيري البعيد ، قضيت أياما غنية وحافلة بالمشاهد والانطباعات في القفقا س وعلى البحر الأسود في تركيا وبلغاريا ورومانيا واليونان ، زُرْتُ كُلَّ دول شرق أوروبا وأكثر بلدان غربها وحملتني قدماي الى الشرق البعيد ، فزرت كوريا الشمالية واليابان ، وعرفت عاصمتين عربيتين،ألقاهرة وعمّان،لكن لزيارتي الى دمشق،مهد الحضارات والعظمة الانسانية ،طعماآخر ودلالة يصعب إدراكها ،تصوّرها
واستيعابها وسأبقى طويلا" مشدوها بها ، أعيشها بكل تفاصيلها ، حميميّتها وعبقها ولا أستطيعُ الفلات منها ( وَكَم يُحزُنُني ويوجعني ، أشد الوجع ، ما تتعرض له في هذه الأيام مِن تَغَوُّل عُنف وفداحة تدمير " .
وصلنا دمشق في الثامن من آب 2001 في حافلة أقلّتنامن عمّان وحطتبنافي ميدان البرامكة في ساحة الكرنك .
كانت الساعة لما تتجاوز الخامسة بعد الظهر،وشمس دمشق ما زالت عندها وهّاجة ومتألقة في فضاء المدينة .
كانت الرحلة من الناصرة الى عمان ، مرورا بجسر الشيخ حسين ،الذي كما يبدو لم يعد "جسرا خشبيا " ،يحمل العائدين ويتهادى فرحا فوق النهر ،كما أنشد ت فيروز طويلا،وصولا الى الأردن ،كانت رحلة مريحة،لكنها كانت مثقلة بالأسئلة وبالقلق وبمشاعر الخوف من المجهول الذي ينتظرنا، خوف ممزوج بالترقب والأمل بعد سنين طويلةمن الانتظار على أمل اللقاء .
كان يمكن ملاحظة التوتر في العيون ، على الرغم من الصمت الذي كان يلفنا في معظم مقاطع الطريق . ولم تحل عقدة الصمت الاّ بعد أن ادرك المسافرون في الحافلة أنهم اجتازوا الحدود الأردنية ووطئوا الأرض السورية في الموقع الحدوديً " نصيب " وأن الأصدقاءالسوريينً تحرّكوا ، مشكورين ،لاستقبالهم في قاعة الشرف الرحبة ، فعلت البشاشة ، عَلَتِ
الوجوه وانطلقت الألسن وبات الأمل أقرب ، وقصرت المسافة التي تفصل بيننا وبين الأحبة والأهل المنتظرين هناك في دمشق .
تمرّ الطريق الموصلة بين المعبر في نصيب ودمشق في أرض تربتها حمراء ، تكثر فيها الحجارة البركانية ، مختلفة الأحجام ، هِيَ سهل واسع على " مدّ النظر وما بينشبع منها نظر " ، كما يُغنّي وديع الصافي .ينبسط هذا السهل أمامنا وخلفه دمشق ،حيث الأهل والأقارب والأصدقاء ولحظة التلاقي المترقبة ، دمشق الوعد والتاريخ والجمال .
في دمشق كان اللقاء ساخنا ودامعا . كان دفقا من فرح دفين انفجر فجاة" ، حتى لكأنّ سنين طويلة من الانتظار القاتل تختزل الى ثوان ولحظات. كدنا ننسى كل ما مضى وكأننا لم نعانِ الغربة والفراق . فجأة انزاحت مشاعر الغربة وبدأت الوجوه والأسماء ،التي لم تلتق ولم تتعارف من قبل ، بدأتْ تكتسب واقعا وبعدا جديدين مختلفين ، لم تعد الوجوه والأسماء وليدة مخيّلة ، بل وليدة هذا الملموس الذي يضفي على اللقاء الأول حلاوة يصعب وصف مذاقها .كان اللقاء في ذلك المساء من يوم الثامن من آب في شارع الشهيد جلال كعوش في مخيم اليرموك وفي بيت خالي أمين الساسي حسين أشبه بحالة عرس . ما ان نزلنا من السيّارة ، التي حملتنا من ساحة الكرنك الى المخيّم حتى انطلقتِ الزغاريد من فم العمّة أم محمد وابنتيها وكنّتيها ومن الجارات ،زغاريد الفرح الفلسطيني المنطلق في لحظة لقاء بعد غيابٍ قسريٍّ . وانهالت التهاني واشتدَّت حرارة العناق . وبدأت لحظات التعارف وتحديد الأسماء . هذا هو محمّد الابن البكر وهذه هي زوجته وولداهما :أمين وباسل ، وهذا هو علي وها هي زوجته وطفلتهما دعاء وهذا هو أحمد الحلو والرائع،الذي ما زال اعزب ،وهذه هي هالة الابنة الطيبة والوادعة وزوجها ابن يافا الدكتور عزمي فريد وابنتهما ، تسنيم التي تعلقت بي وما زال نداءها يا جدو يتردّد في داخلي وفي سمعي ، وهذه هي عبير ، ألشابة التي تدخل القلب في أسرع من انطلاق السهم ، عبير متفتحة الذهن وطليقة اللسان .
وأخيرا وليس آخرا ها أنا أجلس صامتا في حضرة خالي ،امين ،الذي لم أره منذ العام 1947 ولا أعرف ملامحه الحقيقية الا من خلال الصورة التي رسمتها أمي الحاجة أمينة في ذهني وذاكرتي . ها هو يجلس بيننا، وقداستعادت عيناه بريق الفرح بعد أن كاد يفقد الأمل في أننا سنلتقي . قال هامسا …
" عشت لأسمع من يخاطبني لأول مرة بكلمة خالي . لم أسمع هذه الكلمة من قبل ".
خالي كانت كلمة السرّ التي أعادت اليه الفرح الذي افتقده سنين طويلة. كان في فورة الشباب حين ألمت بنا وبشعبنا النكبة، وتفرّقنا أيدي سبأ. بقينا نحن في الوطن وارتحل هو والأهل الى الحمّةالسورية لتلاحقه النكبة الثانية في الخامس من حزيران 1967 ويعيش محنة الهجيج الثاني، راحلا"من جديد ومبتدئا مشوارا آخر من حياة الخيام وسط البحث الدائم عن بارقة أمل في لقاء ، تأخر كثيرا جدا ، لكنّ جاء وان يكن في الغربة، فذاك نصف العزاء، ان كان ثمة من عزاء. ( والمحزن أن خال أمي علي غميرد وخالي أمين وزوجته فاروقوا الحياة بعد ذلك اللقاء.
فجأة في ذلك البيت المتواضع تكتشف ذاتك، فتعرف أنّك لست من شجرة مقطوعة وأن لك أهلا" كثرا، يلتئم شملهم في بيت خالي وفي بيوت الأقرباء الموزّعة بين أحياء دمشق.
وتأخذ في الاعتياد والارتياح الى الأسماء، زينب بنت قويدر زوجة خالي، وصلاح غميرد أبو صفوان وشقيقه حسين ابو محمد ولدا خال أمّي، علي غميرد، محمود ومنصور عمّار، من أولاد العمومة، والحجات زينب وخد يجة وفاطمة غميرد وبنات ابن الخال صالح غميرد: حنان وسمر وسحر وايمان. وسرعان ما بات التمييز بين سحر وسمر ممكنا ، ولم نعد نخلط بين حنان وايمان ولا بين هالة وعبير أو بين علي ومحمّد و أحمد .
قد تبدو هذه أمور بسيطة وغير ذات قيمة، لكنّها انعكاس لحالة هي جزء من مأساتنا كأفراد ومأساتنا كشعب، فرضها الشتات والفراق القسري عليه، في غفلة من الزمن . فللأسماء قصّتها، وهي تشكل مجتمعة روايتنا عن الغربة القسرية والموجعة وعن التشتت " التشرد " المأساوي.
أي شعور رائع هو هذا ، أن تكتشف ذاتك، وأن تلتقي بالأحبة والأهل بعد كل هذا الفراق.
قال لي أحد الأصدقاء: ستبقى زمنا طويلا مشدودا الى دمشق والأهل هناك.
وهذا ما أحسه الآن. انهُ الحقيقة. فثمّة أحداث في حياة كل واحد منا تظلّ عالقة في الذهن، مستقرة هناك عميقا في عتمات أحاسيسنا، نعيشها وتتملك حواسنا وعقلنا. هكذا كان لقاءنا الأول في دمشق، أي جبال من الجليد، التي كانت تثقل حياتنا، قد أخذت في الذوبان، وأي دفق من الحب انتابنا وغمرنا في ذلك المساء الرائع من الثامن من آب للعام 2001. قد تأخذنا الأيام في دورانها الجنوني وفي تقلّباتها غير المتوقعة بعيدا عن ذلك المساء، وقد يطول موعدنا مع لقاء ثان، لكن أحدا لن يستطيع أن يغيّب من الذاكرة أو أن ينزع من عيوننا صورة الأهل المقيمين هناك في اليرموك وفي حواري دمشق، الصابرين على الجرح والمتشبثين بالأمل الوعد، وعد اللقاء مجدّدا في فلسطين وعلى ثرى الأرض، الوطن الذي ما زالوا يتعلقون به ويحنّون اليه ويموتون عشقا فيه.
نصٌّ رائع مؤثّر!
بوركتَ على هذا الإبداع.
]احببناك كعمر دمشق العتيقة اشتياقنا لك كجبل قاسيون الشامخ كلماتك كنسيم الغوطة العليل فخرنا بك كصمود مخيم اليرموك لن ننساك ودمت سالما
عندما استقبلناكم في ذلك العام ، كنا نسمع في أعماقنا أجمل لحن محمولاً على أجمل ينادينا من بلادنا أن : لا تيأسوا يا أحبتي فإننا عائدون ، الآرض ومن عليها تنتظركم ، والمستقبل ينتظركم ، جلست أصغي صامتاً لحديثك يا عمي أبو مالك ، ولحديث الدكتور علي رحمه الله والأخ الحبيب زهير بشغف وحب عجز لساني عن النطق به ، وتعلمت دروساً عظيمة ، تمثلتها فيما تلا تلك السنة الميمونة من السنوات ، فعملت على أن أعيد صناعة نفسي وتجديد هويتي الوطنية مؤمنا بحتمية زوال الاحتلال اليهودي والعودة للوطن محملين بكل أسباب التطور والنجاح ، يا الله كيف نجح هؤلاء العمالقة في إعادة صناعة الحياة وهم في جفن الردى ، كيف صححوا في زيارتهم القصيرة مفاهيم كثيرة كنا نحملها ونعتقد أنها الحقيقة الناصعة فإذا هي قصر نظر وقلة ثقافة ومعرفة ، إنني ألخص تلك الزيارة التي لم أوفق كثيراً في التعبير عن أثارها في شخصيتي : إذا أردت أن تكون عملاقاً ، تعلم من العمالقة أبناء وطنك الحقيقيين . حماك الله يا عمي أبو مالك
أذكرك عندما حضرت إلى بيتنا في مخيم اليرموك كنت في عمر ١١سنة وذهبت مع عمي صلاح إلى مجلة الهدف في المخيم وكتبت مقال ايضا هناك..
انا من الجزائر من مدينة القل اشكرك على ابداعك . هل لذيك علاقة بالعائلة الجزائرية .