رواية “فاطمة” لـ محمد نفاع
تاريخ النشر: 06/09/15 | 10:311
يكشف النقد الأدبي عن مدى وعي الناقد وعن ثقافته، مثلما يُسقط الناقد على نقده من ملامح شخصيته الثقافية والمعرفية. “فاطمة” اسم عربي أصيل، جذوره عريقة موغلة في عمق التاريخ. تنتمي “فاطمة” إلى “الرواية” الفلسطينية المكتوبة في مواجهة “الرواية” الأخرى! هي رواية الأرض بامتياز لأن الصراع أيضًا على التاريخ والذاكرة! يتمحور المتن الحكائي بـ “فاطمة” حول المرأة ودورها الحاسم في صنع الحدث بالمجتمع!
مهاد نظري: كنت ادخرت، مرغمًا، “فاطمة”(1) إلى أن يحين أوانها، فلكل شيء أوانه! أملاً أن يسعفني الوقت بفرصة سانحة تتيح لي التفرَّغ لقراءتها على نحو يليق بها ويفيها بعض حقها، وذلك لأسباب خارجة عن الإرادة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: التزامات العمل وتزاحم مشاغل الحياة وهمومها التي لا ينقطع لها حبل، لكن هي الأيام ما أسرعها! بقي أن أنوِّه بأن غاية ما تسعى إليه الدراسة: الوقوف على أهمية الرواية ودلالاتها، ثُمَّ أن تكون حافزًا للقارئ ولكل مهتم كي يستحضر تلك الأجواء!
بدءًا، فقد أراني ملزمًا بالتذكير أنَّ النقد الأدبي يستوجب الحفر عميقًا، بحثًا عن المثير والمدهش من خلال إجراءات القراءة المنتِجة والتفاعلية للمعطيات النصية، ومن ثَمَّ سبر غور السطور والكشف عما بينها وما تحتها، ناهيك بالفراغات القائمة بين ثناياها، والتي يجب على القارئ ملؤها وصولاً إلى المعنى ومعنى المعنى، على رأي الجرجاني. ففي منظور ما، يعدُّ النقد الأدبي كشفًا عن مدى وعي الناقد وعن ثقافته! الناقد الحق، كما يُفترض، يُسقط من ملامح شخصيته الثقافية والمعرفية، ويطبع نقده الأدبي بطابعه هو، لا بطابع الآخرين فحسب، كما تقتضي ذلك الكتابة النقدية المنهجية. وحريٌّ بنا التنبه على أن يتم ذلك النشاط الإجرائي بأناة وأريحية وعلى نار هادئة، وذلك محاذرة الوقوع في منزلقات النقد الأدبي، أو تفاديًا لأي إجحاف أو تجنٍ قد يقع على الأثر الأدبي المنقود فيسيء له، كتلك التي تعكسها من حين لآخر، بعض القراءات الأفقية أو المجتزئة، التي يغلب عليها التعميم، والكلام جزافًا، ومن ثم المبالغة في الإطراء وحسن المديح والثناء من دون ذكر ولو مسوِّغ واحد على الأقل! وعليه فمن خلال فعل القراءة وإنتاجية الدلالة، تتبدى المعالم الحقيقية لكل ناقد، لأن فهم الناقد للنص منوط بأفقه الثقافي والمعرفي! وفي الحق، فنحن بصدد رواية “فاطمة” التي يمكن أن تعدَّ تجربة إبداعية نوعية أو محطة متقدمة، في مشهد حركتنا الأدبية المحلية وفي مسيرة حياة نفاع الأدبية تحديدًا، وذلك لأسباب عدة سوف نأتي على ذكرها لاحقًا. وأما توظيف المؤلف لـ “فاطمة” ودورها الرئيسي في الرواية، بمعزل عن دلالاتها المتعددة، فيعد تأكيدًا لدور المرأة الحاسم في المجتمع الذي لا يقل عن دور الرجل، من خلال لوحات فنية تصويرية وأخرى تعبيرية، تجسِّد الأنوثة والجمال والعشق، جنبًا إلى جنب حب الأرض، والناس، والعمل، والتماثل الذي يبلغ أوجه في حد التطابق التام ما بين المرأة والأرض وهي الوطن، بعيدًا عن أسلوب الرواية التقليدية أو النمطية. من هنا، تبدو “فاطمة” ذات أهمية خاصة تستحق الدراسة!
2
“فاطمة” رواية محلية بامتياز: لم يكن محمد نفاع أديبًا متمرسًا وحسب إنما كان وما زال أيضًا من السياسيين الأحرار، فالأدب والسياسة متداخلان حكمًا، وكل فصل بينهما يعد فصلاً تعسفيًا أو مفتعلاً لا طائل تحته. هو كاتب متمكِّن أدبيًا وسياسيًا لما حبته الطبيعة به من الحنكة والحكمة والخبرة والتجربة الشيء الكثير. ومعروف أن الأديب ينهل أدبه من مصادر كثيرة منها التجربة الشخصية، والبيئة المحلية التي نشأ بها، وتعد “فاطمة” خير دليل على ذلك. لنذكر ونتذكر بأن أدباء كثر، مثال ذلك: نجيب محفوظ، ومحمود درويش وآخرون، ما كان لأحدهم أن يصل إلى دائرة العالمية لولا أن يكون قد برع وتفوق في دائرة المحلية أولاً، و”فاطمة” رواية محلية وشعبية بامتياز! كانت همًّا يرافق أديبنا أنى حلَّ أو نزل، يصطحبها معه، يحملها على عاتقه من دون أن يتعبه حملها، حتى حين كان يتجول في بعض أقطار الإتحاد السوفياتي سابقًا، بقيت “فاطمة” معه لم يتركها ولا هي تركته، كانا لا يُريان إلا معًا!
صفوة القول: يعرف كاتبنا من أين تؤكل الكتف في غير مجال! لما عرك الحياة وعركته، وهو إلى ذلك، لم يهادن في مواقفه بل كان وما زال منافحًا عن كل القضايا المحقَّة والعادلة أينما كانت، من منظور أممي وفق ما يمليه عليه الفكر التقدمي الاشتراكي والماركسي، من دون أن ينسى الأصل وإن كان من الماضي! جميع تلك المركبات أضفت وأضافت إلى كتابات محمد نفاع أبعادًا متعددة ومتنوعة، كما ساهمت في صقل دوره البنَّاء، كفردٍ واعٍ ومسؤول يؤدي واجبه أمام شعبه والتاريخ معًا، وهو ما يقوم به على أتم وجه، متوسِّلاً حماية أدبنا وثقافتنا وروايتنا وذاكرتنا وعاداتنا وقيمنا الأصيلة والجميلة والمشرقة من الضياع والنسيان، وفي الوقت نفسه، تعميق الفهم والإدراك بذلك الموروث الإنساني وحفظه من الاندثار!
لرواية “فاطمة” مغزاها وهدفها أولاً وأخيرًا، ولم تكن تلك الكتابة لمجرد الكتابة أو من باب الترف! إنما تعد تجربة نوعية وإضافة جديدة بكل المقاييس، لاسيما من حيث الشكل: اللغة الروائية الخاصة بالكاتب تبدو كلغة تراثية قادمة من الماضي، بما تتضمنه في ثنايا النص من حمولات دلالية، ولوحات فنية، وقيم جمالية، وتشكيلات لغوية، هي مرايا تغلب عليها اللهجة الفلسطينية المميزة. كذلك ما تشتمل عليه من مخزون هائل هو مزيج من الألفاظ والتعابير الفصحى والمحكية. وقد أحسن المؤلف صنعًا، وهو يقوم، من حين لآخر، بتفصيح العامي وإخضاعه لأحكام اللغة الفصيحة وذلك للضرورة، علمًا أن تلك المفردات العامية تعد ابنة بيئتها ومجتمعها، لذا فإنها يمكن أن تعبِّر أفضل تعبير عن قصدية الكاتب، مثلما تلقى قبولاً وترحيبًا لدى شريحة خاصة من المتلقين! وقد يكون من الأهمية بمكان، أن ننوه بجرأة الكاتب في اختياره لتلك اللغة كشيفرة خاصة به يقوم بتطويعها خدمةً للرواية بأكملها، لكي تتناغم مع المرحلة الزمنية التي تحكي عنها، ولكي تتناسب مع مستوى الشخصيات الطبقية والفكرية والثقافية والاجتماعية، فكل لغة تشاكل عصرها وناسها! “فاطمة” رواية غنية، رحبة بلغتها، وأفكارها ودلالاتها وشخصياتها وأحداثها، التي تجري بانسيابية مرنة ومتدرجة، كما تكثر فيها اللقطات السردية والومضات المتنوعة والمشاهد الحيَّة! أما المتن الحكائي فيها، فإنه يتمحور حول شخصية واحدة هي “فاطمة”!
وبما أن المؤلف ينتمي إلى مدرسة الشعب والوطن، فهو من بيتها، ولأنه من بيتها فقد برع في رائعته الموسومة بـ “فاطمة” كإحدى تجلياته الإبداعية الخالدة! وقد قال مَن قال: الكتابة هي الكاتب والكاتب هو الكتابة، وكل أثر يدل على صاحبه! ولا عجب أن كثيرين من الفنانين يعيشون حياتهم اليومية بالأسلوب الذي يبدعون به، يقول جان ليسكور “الفنان لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدع به”(2)! وهو ما يمكن أن ينطبق على أديبنا إلى حدٍّ كبير! وانطلاقًا من صلب وجدانه الشخصي، وكيان روحه الذاتي، وبحنين متزايد وشغف لا يعرف حدًا أو قيدًا، يشيِّد نفاع، من قلب الحياة جنبًا إلى جنب خيوطه الذهبية المتخيلة، ذلك البناء المعماري الموسوم بـ “فاطمة”، رواية ليست إلا صدى لروح مبدعها! وعليه فمن غير المستبعد أن تكون “فاطمة” مرآة تعكس الأفكار والمواقف والمبادئ لشخصية مؤلفها! كذلك، تجدر الإشارة إلى الكاتب وجرأته في اقتحامه لمجال الخطاب المحظور أو المنهي عنه(تابو)، الأمر الذي يجسِّد رؤية واقعية حقيقية. وهو حين يوظِّف تلك التعابير والألفاظ الجنسية، فليست مقصودة لذاتها، كما يرى بعضهم، ولا تدخل في قصدية الكاتب أو هدفه، ولكنها كوسيلة رامزة وموحية ذات دلالات خاصة تحيل إلى الأرض والوطن! والجنس منطلق الأشياء وأصل كل فن! وكاتبنا يعبِّر من خلال تلك اللوحات الفنية عن أسئلة وجودية، أو قل أسئلة الحياة!
من خلال “فاطمة” يبدو المؤلف/الراوي راصدًا اجتماعيًا ونفسيًا وسياسيًا للمجتمع وبعض النماذج الشخصية الفاعلة فيه، حيث يعود بنا، إلى تلك الأيام الخوالي وهو يحيل إلى الماضي بزمانه ومكانه، إلى عقود كثيرة قد خلت من قبل، لدرجة أنه يشعرك وكأنه قادم من الزمن الماضي، ولا نقول رهين الماضي لأنه أديب معاصر! فالمؤلف وهو يقوم بفعل الكتابة يأخذنا معه، من خلال فعل القراءة، في رحلة شائقة وممتعة، منفتحًا على الزمن الماضي زمن الكتابة، فالمؤلف وهو الراوي يكتب عن الماضي لا عن الحاضر ولا عن المستقبل، علمًا أن كل منهما يشغلنا أكثر من الماضي، لكنه يحافظ على الصلة فيما بينها! فالمكان والزمان هما اللذان يحددان صناعة النص شكلاً ومضمونًا، حتى قبل أن يرى النور، وقد فرضت زمكانية الرواية حضورها الطاغي وبنجاح على الرواية نفسها، إن لجهة الشكل وإن لجهة المضمون، ولو جاء على غير ذلك لوقع الجفاء بين الكاتب والقراء لاسيما بينه وبين مجايليه تحديدًا، ولكان أسقط بيد الرواية والراوي والكاتب معًا!
3
“فاطمة” صورة بانورامية شاملة: يشكل الزمن أحد أهم عناصر الخطاب السردي، وحين يتداخل مع المكان وهو القرية العربية، فلا بد أن تتجلى صدقية الكاتب بما يعرض له من أحداث ووقائع، الأمر الذي يزيد من تعلق القارئ بـ “فاطمة”! ومع أن الزمن الماضي مختلف كليًا عن الزمن الحاضر ولا وجه للمقارنة إلا أن للماضي وذكرياته الجميلة، كما هو معروف، نكهة ومذاقًا خاصين، كيف لا وفيهما من عبق الآباء وروح الأجداد والوطن، وفي كافة مجالات الحياة تقريبًا لاسيما لدى المؤلف وهو كلي المعرفة! وقد عاش ذلك الماضي الذي لا يُنسى بحلوه ومره، بآلامه وآماله، وليس من سمع عن الشيء كمن عاينه أو شاهده بأم العين! فهو يشعرنا بأنه ما زال ابن عصره لأنه عاش وشاهد وسمع فنقل لنا الصورة طبق الأصل، تمامًا كما هي على حقيقتها، وقد عرض للزمان والمكان بأتم معنى وأدق مبنى! إلا أنه وعلى الرغم من هيمنة الماضي على زمن الرواية نراه يبقي على تواصل مع الزمن الحاضر، ممتزجًا بالهَمِّ السياسي، همنا جميعًا، يقول “والغرب لا يسر القلب”(ص10)! كذلك قوله “واليوم تغيب كلمات تلك الأيام” (ص16)! أيضا “الانكليز مهدوا لليهود”(183)! و “هذا من العراق. إجو من العراق” (185)! وثمة إشارات أخرى رامزة تلمح إلى دلالة خاصة، يقول من المأثورات الشعبية:
“سيجت حولي الدار خوفي من العدا
تاري ما سياج الدار إلا رجالها”(ص13)!
تمتاز الرواية بأنها تقدِّم صورة بانورامية شاملة لواقع الحياة مع الناس من تلك المرحلة مصحوبة بالضحك والفكاهة والسخرية، في بيئة عربية ريفية عامرة بالناس وبالحياة، والجمع بين السخرية والمفارقة والفكاهة التي قد تفرح وقد تحزن، والمتناقضات والمحظورات الاجتماعية والصراعات. مقدمة للقارئ غزارة في الأمثلة، المثال تلو المثال، على وجود حياة زاخرة بكل ما للكلمة من معنى! عن الدين ورجاله والجنس والسلطان والغرب والعام والخاص، من أمثال ومأثورات وأغان شعبية بأدق التفاصيل. عن العادات والتقاليد والأعراف والقيم، في الأفراح والأتراح، وما يمكن أن يثار حولها من الأسئلة الاجتماعية والوجودية. عن أدوات العمل بأجزائها وأسمائها التي قد لا يعرفها بعضنا لاسيما أبناء جيل الشباب، وطيور وحيوانات ونباتات بلادنا على مدار الفصول الأربعة. عن المسكن والمأكل والمشرب والعمل والأرض ونمط الحياة بكل ألوانها وأحوالها، وكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من دلالات نفسية ووجدانية وإيحاءات اجتماعية وسياسية وغيرها وغيرها مما يصعب حصره! أو قد يفوتنا الكثير الكثير من الأحداث وتفاصيلها ما لا نستطيع أن نأتي على ذكره بالكامل! هنا بالذات تكمن عظمة تلك المرحلة التاريخية المهمة التي قطعها شعبنا، على الرغم من صعوبة الظروف القاسية التي مر بها، بإزاء ما نشهده اليوم من التطور التاريخي الطبيعي لكل مجتمع ومجتمع! ولأن الأدب تعبير عن المجتمع بالدرجة الأولى الأمر الذي قد يجعل “فاطمة” ترقى إلى درجة الوثائق الأدبية والاجتماعية والتاريخية! وقد لا يجانب المرء الصواب إذ يقول: إن الكاتب وهو ملمٌ بما يكتب وبالقرية العربية في بلادنا تحديدًا، يستعيد أحداثًا واقعية وحقيقية من صفحات تلك العصور الخوالي، أيام “العز” في بعض جوانبها! وما تشتمل عليه من ظروف وفعاليات ونشاطات حياتية يومية، وأخرى معيشية حقيقية من غير لف أو دوران أو تمويه. وقد تجدر الإشارة إلى حقيقة أن الكاتب خبير ومتمكن لا بل ممسك بناصية القرية العربية إلى درجة الاختصاص، فهو يصول ويجول، يشرق ويغرب بها بإحكام وإتقان لافتين، وحين يكتب عنها فإنه يكتب عن وعي وإدراك تامين. وهذا يقدِّم الدليل تلو الدليل لمن يجهل أو يتجاهل تلك الأيام وتلك الأحوال التي كانت تسود آنذاك! وفي المقابل، لمن أراد أن يدرك الحياة والواقع الذي كان يعيشه شعبنا على الرغم من بساطته وقلة الإمكانيات وضيق ذات اليد، لكنها لا تخلو من بساطة وهدوء وراحة وهناء! فالأديب، كما يفترض، يجب أن يتمثَّل حياة الناس ويعيش التجربة حين يكتب “إن الأدب هو ما صدق في التعبير عن نفس قائله، وما صدق في التعبير عن الموضوعات التي يطرقها الأديب، ويتوجه بها إلى أفراد مجتمعه”(3)! بناء على ذلك، يجب إعطاء تمثيل حقيقي وبمنتهى الموضوعية للواقع كما كان، فالرواية واقعية تمتح من الوجود الإنساني في واقع الحياة. أضف إلى ما تقدم، فإنها تمثِّل تلك المرحلة أصدق وأدق تمثيل، وهذا ما يفعله المؤلف في روايته “فاطمة”! وليس ذلك من باب التقديس بل من باب التذكير، أي قبل أن تضمحل أو تمحي تلك الأحداث وأبعادها ودلالاتها من الذاكرة الفردية والجمعية على حد سواء. وتلك حقيقة راسخة عمقها عمق التاريخ، من الضروري أن نذكرها ونتذكرها ما حيينا! فهي تلامس شغاف الذكريات الجميلة بفيض من المشاعر والوجدان، لدى الكثيرين من بنات شعبنا وأبنائه! ناهيك بأنه بمثل ذلك اللون من الأدب يمكننا تعويض النفس البشرية عن المعاناة الفعلية في الحياة اليومية! الأمر الذي يعني تحقيق غايات الأدب وأهدافه من الفائدة المرجوة والمعرفة والمتعة! وهو ينعكس إيجابًا، بكل تأكيد، علينا جميعًا أفرادًا وجماعة. وبذلك يكون محمد نفاع قد سدَّ نقصًا لاسيما لدى أبنائنا وبناتنا القرَّاء على تعاقب الأجيال! يجب أن يعرف هؤلاء حياة شعبنا على حقيقتها ويتعرفوا عليها عن كثب، قبل أن تذهب للنسيان أو تصبح في طي الكتمان. ويثبت واقع الحال بأنه ليس بدعًا أن تكون لشعبنا حضارة وحياة حافلة، كسائر الشعوب، في حتمية تطورها التاريخي والمستمر، لأن شعبنا كان وما زال شعبًا حيًا في وطنه وطن الآباء والأجداد، وأن بلادنا لم تكن، يومًا من الأيام، خلوًا من أهلها أبدًا، بل كانت تعج بالحياة وبالناس والعمل، ولم تتوقف للحظة أو تنقطع عنها أبدًا، الأمر الذي يدحض تلك الإدعاءات الكاذبة والمزاعم الباطلة التي تنفي وجوده وتلغيه، وكأني بلسان حال المؤلف يقول: عودوا إلى التاريخ! وهل لأحد أن ينكر أو يلغي ذلك التاريخ مهما كان، إلا أن يكون جاحدًا أو معاندًا أو مكابرًا؟! من هنا، يمكن لـ “فاطمة” أن تصنَّف ضمن “الرواية” الفلسطينية المكتوبة، في مقابل “الرواية” الشفوية المسموعة! فالصراع أيضًا على “الرواية” وعلى الذاكرة!
انطلاقًا من تلك الرؤية فإن “فاطمة” تعد مساهمة جليلة في إضاءة وتوضيح الصورة الحقيقية وبأدق التفاصيل لحياة شعبنا في تلك الأيام! لاسيما أمام أجيال اليوم التي لا تكاد تعرف شيئًا عن حياة شعبنا الماضية، هذه الأجيال التي سرعان ما يخطف بصرها وبصيرتها معًا بريق التكنولوجية العصرية من مظاهر مخادعة، وماركات مسجَّلة، وأجهزة التقنيات المستحدثة وملابساتها المستجدة، لاسيما تلك التي لا تغني ولا تسمن من جوع إلا في أقلها!
4
“فاطمة” اسم عربي أصيل: “فاطمة” عنوان الرواية، الذي يعد لافتة المرور أو بوابة العبور الأولى إلى النص. هو اسم عربي أصيل جذوره عريقة موغلة في عمق التاريخ. يشار إلى أن الرواية قد صيغت في تداخل زمني معروف، يقول الراوي: “فاطمة” “عاصرت الأتراك والانكليز واليهود وظل في راسها عقل”(ص32)! ولو قال: عاصرها الأتراك والانكليز واليهود، لجاءت دلالتها أقوى وأبلغ! والفرق بين الدلالتين واضح! ومن صفات حاملة اسم “فاطمة” أنها تحب الارتباط من القريب لها، وتتردد كثيرًا فى القبول بالزوج الغريب! تحمل فى قلبها حبًا كبيرًا للناس ولأهلها. تتحمل كثيرًا مِن إيذاء مَن حولها لكنها تصبر عليهم. مقرَّبة لوالدها ومدللة عنده. تحب “أولادها” وتخشى عليهم كثيرًا. قلقة كثيرًا من كل شيء(4)! من هنا، لم يكن موت زوجها مفاجئًا! موت زوجها كان ضروريًا للإبقاء على تفردها في دور البطولة من دون منافس أو شريك! أو ربما لأنها لم تقبل به زوجًا، ولم تستجب له ولم تتفاعل معه فهو من أبناء “العمومة” كما يبدو! وبالتالي لم يحدث إخصاب ولا إنجاب! وهكذا جاءت “فاطمة” اسمًا على مسمى، ذات دلالات على مدلول! إن رمزية “فاطمة” وحضورها الطاغي في الرواية هما المدخل إلى الرواية، فالكاتب يحاول، من خلال تسليطه الضوء على حضور “فاطمة” ومجموع أحداثها تلك، أن ينبش الماضي لكي ينير الحاضر، ومن ثَمَّ أن يسقطها، في بعض جوانبها، على واقع اليوم! يريد أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، في ما آلت وتؤول إليه بعض الأحداث والوقائع من حولنا. الأمر الذي يشي، ولو من طرف خفي، برغبته في إقامة التواصل بين الماضي والحاضر!
وقد جعل المؤلف من جسد “فاطمة” رمزًا واهبًا للحياة، إذ تمنح الحضن الدافئ والأمان والحنان لكل من يعشقها ويحبها، وفي الوقت نفسه، يجعل منها صنوًا للقرية العربية، لأية قرية عربية! ولا فرق لديه إطلاقًا بين قرية وأخرى، فكل قرانا العربية في بلادنا متشابهة، وكل واحدة تشبه سائر أخواتها من القرى العربية! القرية العربية، بمنظور ما، هي الجزء أو النموذج الذي يحيل على الكل، على القرى العربية كافة، وعلى الأرض كذلك لأنها وحدة واحدة، وإن ذكر مناطق أو أماكن بعينها، هكذا يقول “الأرض كلها موصولة في الجرمق والزابود والبيادر والبيوت والناس وعيون الماء، خلقة متكاملة يد واحدة”(ص280)! “فاطمة” هي الجزء وكنَّى بها عن الكل! “فاطمة” هي الأرض والأرض هي “فاطمة”! فلا غرو أن يصبح وجود “فاطمة” يشكِّل شرطًا أساسيًا بل وجوديًا للعاشقين والمعجبين والمتشبثين بها، أصحابها الأصليين! فبدونها لا وجود لهم ولن يكتمل معنى وجودهم إلا بوجودها! جاعلاً منها أنموذجًا أو مثالاً في مناقبها المتعددة: من جهد ونشاط وأنوثة وحب وجمال وعشق! يقول الراوي في أجمل وصف لـها “فاطمة خلقتها من بياض الثلج ونقائه وعبق الربيع الصافي المزغلل ووهج الصيف وخريف الكمال”(ص13)! كذلك قوله “أشلب مخلوقة في كل بلاد الجيرة.. في البلاد”(ص150)! وعليه فإن رواية “فاطمة” رواية الأرض بامتياز! والدلالة واضحة لا تحتاج إلى بيان!
في كلامه على “فاطمة” يعني استدعاءً للأرض والوطن، ولنا جميعًا، أفرادًا وجماعات! وحب الناس لـ “فاطمة” يعني حبهم لمسقط الرأس، ومن ثَمَّ حبهم للأرض والتشبث بها وبالوطن أيضًا! مقابل أولئك القادمين من بلاد الله الواسعة، يقول “الأغراب هناك معروفون بسحنتهم ولباسهم ومشيتهم ونظراتهم، هم ليسوا كالحصادين والحراثين والمشاحرية. لأول مرة تشاهد الأرض هذه المجموعة الغريبة”(ص205)! فالعلاقة الرمزية بين المرأة “فاطمة” والأرض الوطن، إنما تعني تماثلاً يصل حد التطابق، وذلك بجامع صفات مشتركة متعددة: الأنوثة، والجمال، والحب، والحنان، والأمان، والدفء، والأم الرؤوم الخ… إن هذه المغالاة في تعلق الناس بجسد “فاطمة” قد ارتقت بها إلى مصاف غير طبيعية! هي جسد يفور بالشهوة واللذة، “يدها هي الأخرى تسرح على بدنها، وبدنها ناعم حي يفور قوة وعافية”(ص36)! إلى أن أصبح الجميع يخطبون ودها ويتمنون تملكها أو وصالها أو قربها في أقل تقدير! الصغار والكبار على حد سواء، كل الأجيال يتسابقون في التقرب إليها زلفى، “فاطمة” تخلب عقولهم! ذلك ما فعلته بالناس من حولها، اللاهثين خلفها! فالجميع ينتظرونها تباعًا بفارغ الصبر، وعلى أحر من الجمر، يقول الراوي “وصاحب الحظ قربها يقول بمزح، ومزح الرجال جد: اللي سبق شم الحبق”(ص37)! كذلك قوله “والزعلان أكثر من الراضي”(ص150)! أيضًا “كل واحد ناوي يتحركش”(ص24)! وإن كان في المقابل ثمة من ينعتها بأنها “مرتدة، كافرة، أم صبيّة، قتلك حلال، عرضك سايب على الدروب، داشرة، ممحونة، فالتة، مفضوحة”(ص150)! مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، يبقى للقارئ نصيب في حب “فاطمة” والتعلق بها، فالمؤلف وببراعة لافتة ينقل العدوى أيضًا إلينا، حين يجعلنا نحن القراء نتودد إليها أيضًا ونتعلق بـها ونحبها ونعشقها! من منا لا يعشق “فاطمة” ؟! كلنا من عشاقها!
5
الصنعة الأدبية في الرواية: يوظِّف المؤلف شخصية المرأة “فاطمة” كثيمة مركزية في الرواية من بدايتها إلى نهايتها، حيث يتمحور المتن الحكائي حول شخصيتها! و”فاطمة” شخصية معدَّلة، تتمتع بصفات قوية ولها جوانب متعددة في مختلف مجالات الحياة: الاجتماعية، والعملية في البيت، والأرض، وحتى السياسية وإن جاءت على استحياء، كانت رجالة أيام زمان… يقول “فاطمة لا تستطيع العيش بدون الناس. دبيكة راس، قوَّالة في الأجر، معزبة وطباخة وخبازة وفرَّاكة كبة في الأفراح” (ص22)! “هاي أرجل من كل الزلام”(ص83)! وهي هي على ثباتها، على الرغم من تعاقب الأجيال عليها، من يوم يومها “مع النسوان حرمة، ومع الزلام زلمة”(254)! “فاطمة” صبية جبارة! بقيت صامدة صابرة على الرغم من أنها “عاصرت الأتراك والانكليز واليهود وظل في راسها عقل”(ص32)!
تحتفي الرواية، على نطاق واسع، بالوصف جنبًا إلى جنب لغة السرد والحوار، إذ تبدو لغة سلسة سهلة لكنها لا تخلو، من حين لآخر، من بعض المفردات والألفاظ التي تحتاج إلى جهد مضاعف لمعرفتها وفك معناها. أيضًا، يلحظ القارئ على الرواية، في بعض جوانبها، أنها تقوم على توظيف أسلوب “تيار الوعي” وهو مصطلح ابتدعه وليم جيمس(1840-1910). وهو أسلوب في لغة السرد الروائي، يعتمد على الولوج إلى داخل الشخصية بغية الكشف عن خبايا النفس الإنسانية وما يعتمل فيها من جوانب ذهنية ومشاعر وأفكار، ومن ثم الدوافع التي تحركها في سلوكها. لا يهتم الراوي برسم معالم الشخصية من الخارج، لكن يتغلغل فيها بغية سبر مكنوناتها من الداخل. ويعد التذكر أو استرجاع ما مضى من أحداث وأفكار، من خلال المونولوج (الحوار الذاتي) خاصية بارزة في تيار الوعي(5)! مثال ذلك قوله على لسانها “امسكي حالك يا بنية!! تتوحمين على محرمة ثلج!! لم يحن الأوان بعد، وما أوان يستحي من أوانه. وها هي بوادر الدموع تكاد تفر من عينيها، وقد رغرغت فيها الذكريات”(ص27)! كذلك قوله “ظلت تكلم نفسها وأفكارها سارحة، وهي تستعرض مجريات الليلة، تبتسم وتعبس وتتنهد” (ص73)!
كذلك، يلحظ القارئ على المؤلف استخدامه، من حين لآخر، أسلوب التحوير، مثال ذلك قوله: “العشبة المفرفحة بتطلع على المزابل”(ص87)! وهو تحوير واضح للقول أو الحديث المأثور “إياكم وخضراءُ الدِّمن”! كذلك “زنا العين النظر”(280)! تحوير للحديث النبوي “العين تزني وزناها النظر”! كذلك قوله: “كم وردة خلَّفت عليقة”(ص87)! وهو تحوير للقول المأثور “كم من ورده خلفت زردة”! أيضًا قوله: “ياما بين القمح زيوان”(87)! وهو تحوير للقول “انقلب الزمان وأصبح القمح زوان”! أو “ياما تحت السواهي دواهي”!
في سياق متصل، يمكن الإشارة من الناحية الفنية والصنعة الأدبية إلى أن الرواية تكثر من الوصف، وكان الأجدر أن تترك الشخصيات لكي تتصرف هي مباشرة وتتحرك على سجيتها وهو الأجمل والأفضل. لهذا ظهر أن الاستطراد في الوصف يبدو غالبًا على الرواية. كذلك، يغلب على الرواية الانتقال بتفصيل مسهب من مكان إلى مكان، ومن حدث إلى حدث، ومن شرح إلى شرح! الأمر الذي أوقع الرواية في مطبات السرد الروائي، وقد كانت بغنى عن ذلك كله، وهو ما أساء إلى النص في بعض جوانبه، وكان من الأوْلى أن تبتعد عن ذلك كله حتى لا يمل القارئ! مثال ذلك: الإطالة والتكرار والاستغراق في الشروحات والتعليقات، إلى درجة المبالغة، في محاولة واضحة من جانب المؤلف مط الرواية ما أمكنه ذلك، الأمر الذي أصابها بشيء من الترهل، علمًا أن المؤلف غير ملزم البتة بتقديم شروحات أو تفسيرات، فتلك فجوات يفترض أن يملأها القارئ! كذلك يلحظ القارئ على الرواية أنها قلما تتكئ على عنصر الأسطورة إلا في بعض كتابة سحرية وإيمانات ومعتقدات ليس أكثر!
وقد تجدر الإشارة أيضًا، إلى أن الرواية لم تبلور موقفًا سياسيًا متقدمًا، يستجيب لتطلعات “فاطمة” والأرض والناس، لكن توجد ثمة إشارات رامزة ليس أكثر، مثال ذلك “جاي يا غلمان جاي، الهاجانا قتلوا صالح”(ص161)! أيضًا تهجمها على موظفي تسوية الأراضي بقولها “ضبوا شراشكو وانقلعوا”(ص281)! وهكذا يمكن القول: لم تعمل الرواية على تطوير الموقف السياسي لدى “فاطمة” أو سواها من شخصيات الرواية بالحد الأدنى، ليصل إلى الممارسة النضالية الحقيقية والفعلية، طبعًا باستثناء شذرات هنا وهناك! ولم تتخط “فاطمة” حتى القول من الموقف إلا كرد فعل، وبالتالي لم تتجاوزه أو تبادر إلى الفعل إلا في ما ندر! لمرة يتيمة لم تتكرر، نسمع الراوي وهو يخبرنا بأن أحد الرجال “أعطاها الغرض، وشوية فشك”(ص78)! وفي اعتقادي أن ذلك الموقف لم يكن مفاجئًا أو يأت مصادفة، إذ يشبه، إلى حد كبير، مواقف ومبادئ سياسية موجودة بين ظهرانينا!
وقد يكون من اللافت وهو مما يستوقف القارئ حقًا، التطرق إلى إشكالية موت “فاطمة”! بـ “غبة قلب”(ص214)!! وهي السكتة أو الجلطة القلبية! ثم أردف المؤلف قائلاً “العلم عند الله وين انتقلت روحها، وين طبت أرضها”(ص219)! فقد ذهب بعض القراء إلى أن موت “فاطمة” كان نهاية قاسية أو مفاجأة حقيقية، قد لا تستقيم مع أهمية دورها على مدار الرواية! وفي ذلك ما يتعارض مع كونها المحرك الرئيسي، وتداخلها الحاسم في مجريات أحداث الرواية! وعليه كان يفترض بالمؤلف لو أبقى “فاطمة” على قيد الحياة!
لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: لم يكن موت “فاطمة” من قبيل المصادفة أيضًا! وقد تجدر الإشارة إلى حقيقة أن يكون المؤلف قد هدف عامدًا متعمدًا إلى كسر أفق التوقع لدى القارئ حين أمات “فاطمة”! وهو يعلم يقينًا وعن وعي تام ما لـدى “فاطمة” من مكانة مرموقة وأهمية خاصة! لكنه اختار تقنية أسلوبية موسومة بـ “كسر أفق توقع القارئ”! زيادة في التوتر والإثارة والإدهاش الذي قد يبلغ أحيانًا حدَّ الصدمة! وهذا ما حدث بالفعل، وهي من أهم المفاهيم التي أكدت عليها نظرية التلقي! وفي تأكيد المؤلف بأن “الأرض لا تموت ولا تتقمص”(ص246)! وإن ماتت “فاطمة” ما يدعم الذي ذهبنا إليه! يضاف إلى ذلك أن وتيرة الأحداث في زخمها وتصاعدها لم تتوقف للحظة، بل على العكس تمامًا إذ استمرت في تصاعد ملحوظ! فالحياة كانت أقوى وأبقى ومستمرة، حتى بعد موت “فاطمة”، في جريانها لا تعرف التوقف! يقول المؤلف بعد موت “فاطمة” وقد شارفت الرواية على النهاية “كل الدروب في البلد عامرة، الرايح رايح والجاي جاي. في المواسم تعمر أكثر، وأي وقت في دور السنة بلا موسم”(ص249)؟! وتنتهي الرواية بأجواء مفعمة بالفرح والأمل والحياة، ها هو المؤلف يقول “ظل سماخ القمح يكبر، وورق البرقوق يرتعش، والعصافير تغني وتزغرد في فرح، وشبابة الراعي ترشح مع الحجل
…”(ص285)! فللحياة نبض لا يعرف التوقف أبدًا!
مهما يكن، فرواية “فاطمة” تعد إضافة نوعية بكل المقاييس، رواية مترامية الأطراف متعددة الأبعاد، لذا ما كان لتلك الإشكاليات أو الهنات أن تبخس الرواية قيمتها وأهميتها على مستوى المبنى والمعنى معًا!
د. محمد خليل