من الذاكرة: براغ هَذَّبَتْ عقلي "القسم الثاني والأخير"
تاريخ النشر: 11/05/13 | 8:50وكلما ذكرت براغ وجدتها تنغرز عميقا في الذاكرة .
وصلتها أول مرة في عام 1964في اكتوبرمن ذلك العام . وكنت في طريقي للدراسة الجامعية في برلين . قال لي ، يوْمها ، رفيق مسؤول في الحزب : ستجد تذكرتك من براغ الى برلين في سفارة ألمانيا الشرقية ، لكن حين وصلت براغ كانت السفارة لا تعرف شيئا من أمري ، كان علي الانتظار ثلاثة أيام في المدينة ، فألمانيا الديموقراطية تحتفل في تلك الأيّام بعيدها الوطني ، وكانت جيبي شبه فارغة من النقود ، فكلّ ما كان يسمح بأخذه في ذلك الوقت ، عبر المطار ولأغراض شخصية ، لا يزيد عن ثمانية عشر دولارا ، أنفقت ثلاثة منها في أثينا ، محطتي الأولى في الطريق الى برلين . وحين ذهبت سدى محاولات العثور على ممثل الشبيبة الأردنية ( الفلسطيني مازن حسيني ) في اتحاد الشباب العالمي ، وقد أُعطيت ُ اسمُهُ ، تحسبا ، ليساعدني عند الضرورة ، نُقلتُ الى فندق" انترناشينال" الفخم في المدينة . وهناك بقيت ثلاثة أيام ، آكل الساندويشات الباردة ،مدّخرا آخر قروشي . وكنت أقضي يومي وأمسياتي في حديقة " لتنا" الجميلة والرحبة المطلة على نهر فولتافا الجميل والواقعة في منتصف الطريق بين مدينة براغ القديمة وبين الفندق . قضيت الأيّام الثلاثة متسكعا ، كصعلوك معدم وفقير ، لايجد في جيبه ما يكفي لدخول مطعم شعبيّ بسيط ، أوالتمتّع بجمال المدينة الغافية في حضن واد جميل ، بخضرة شجره وعذب مائه وهوائه المنعش ، والشهيرة بخمرتها المنعشة وسحر صباياها الحلوات.
وفي اليوم الثالث كان الفرج ، ظهر من كان رفيقي من حيفا ، وجيه سمعان ، فلم يكن غادر براغ ،كما أخبرتُ في حينه . شعرت به منقذا مما أنا فيه ، كان قشّة الانقاذ ، فكنت غريقا وضائعا في تلك المدينة . يومها وفي تلك الأيّام القصيرة ، بدأت أعي معنى الضياع والغربة في مدينة لا تعرف ناسها ولا لغتها .
اطمأن قلبي كثيرا ، حين رأيت وجيه سمعان ، فكان سألني ،أول ما رآني ، عما ارغب ، قلت بلا حرج : أريد أن آكل .
وفي منتصف تلك الليلة ، التي وجدت فيها وجيه ، شعرت بسعادة بالغة ، فكان القطار الليلي يحملني الى مبتغاي–برلين .
وان كنت أنسى ، فالنسيان صفة انسانية ، فلا يمكن أن أنسى ما حدث لي شخصيا ولزوجتي في صيف 1968 . كنت طالبا يومها في برلين ، وكانت تربطني بداية صداقة شخصية مع القائد الشيوعي والكاتب صليبا خميس ، طيّب الذكر ( أبعد عن الحزب أيضا بمختلف التهم الجائرة ) وكان يعمل في براغ ممثّلا للحزب فيها . قرّرنا ، زوجتي وأنا، زيارته في تلك السنة في براغ ، حدّدنا موعد السفر واشترينا تذاكر القطار وفي صبيحة اليوم المحدّد حزمنا حقائب السفر وكان فرح شديد يغمر زوجتي ،فكانت تلك أول مرة تغادر فيها برلين في رحلة عبر الحدود المسموح بها للألمان الشرقيين يومها . ومثل عادتي ، آنذاك ، استيقظت مبكرا ، حلقت ذقني وفركت أسناني وغسلت وجهي بالماء البارد . وجلست أصغي لنشرة الأخبار الصباحية ، فكانت أخبارا مقلقة . ذلك الصباح ، تحرّكت قوّات من حلف وارسو واحتلت المدينة العاصمة ، براغ ، وفرضت حالة من الطوارىء فيها وبدأت في تصفية ما عرف لاحقا بربيع براغ . فعدت الى النوم . وحين عرفت زوجتي حقيقة ما كان ، بكت طويلا .
وللحقيقة ، التي أعترف بها بألم وخجل ، أنّني وخلافا لصليبا خميس ،الّذي أيّد ، هو وزوجته ، آرنا خميس وأولاده بحرارة وحماس ، الاصلاحيين في براغ ، أيَّدْتُ يومها الغزو السوفييتي وقادة حلف وارسو لبراغ ، فكنت مقتنعا وملتزما برأي الحزب يومها و "منضبطا" ، وقد اختلفت ،حينها ،كثيرا مع صليبا ، سمحت ذلك لنفسي، رغم فارق السنّ بيننا وفارق المكانة الحزبية ، وكنت من ضمن كثيرين قبلوا ، في حينه ، التأثّر بحملة غسل الدماغ القوية في جامعات برلين وغيرها والتي استهدفت النيل من اصلاحيي براغ . وبعد وصولي الى براغ واحتكاكي بناسها ، بدأت سرا وبالخفاء مع ذاتي وعقلي أكتشف حقيقة ما كان ، وليس فقط في براغ .
ومن يومها كبر شخص صليبا في عيني ولم أكتم مرة أمر صداقتنا واحترامي لعقله وشخصه. ويحزنني أنّه سقط في عام 1948 وبعده في الوهم الذي سقط فيه الحزب ، آنذاك وخاصة في السنوات الأولى لقيام اسرائيل ، فلم يكتشف ( لا هو ولا قيادة الحزب – باستثناء اميل توما ) حقيقة الدولة الجديدة ، التي قامت على خرائب ومآسي الشعب الفلسطيني .
وشاءت الصدف أن قرأت قبل فترة قريبة رواية الكاتب التشيكي كونديرا المترجمة الى العربية واسمها "المزحة" ، فانفتحت أمامي آفاق جديدة واسعة لمعرفة حقيقة ما كان في براغ ، قبل وبعد 1968 ، وكم هو مرير عامل الشك والاتهام في بلدان تحكمها قيادات وعقليات تتنكّر لأبسط ما علّمته الحياة : لا أحد يستطيع احتكار الحقيقة . ولا يمكن التوصل اليها إلاَّ بالاجتهاد الفكري وحق البحث للكشف عنها أو عمَّا يقاربها .
وازددت قناعة أنّ الفكرة ، مهما تكن عظيمة في نبلها الانساني وحرارة استهدافها الصدق ، تتقزّم في أعين المعنيين بها حقا ، اذا ما اعتمدت الترهيب الاستخباراتي والاحتكام لمنطق القوة العنيف ، وسيلة لبقائها .
حين أتأمل حقيقة ما كان في براغ ،يومها ، وعرفت مثيله قبلها مدينتا برلين وبودابست ، أدرك بعمق أنّ الحلم الانساني الجميل ، الذي كناه ،الحلم بعالم ينعم بالعدالة الاجتماعية والانسانية وتحرّرالانسان الحقيقي ، داسته بكل فظاظة دبابات القيادات المتغطرسة والمشوّهة الحاكمة باسم هذا الحلم والتي أثبت الواقع المرير أنّها قيادات فاشلة . ولن تنجح حركة ، مهما يكن اسمها ، ما لم تحدث قطيعة جريئة ، ناقدة بصدق وواعية ، قطيعة مع هذه التجارب وما كانته .
لا أعني التنكر لكلّ ما كانته هذه التجارب بقياداتها ، بل الاستفادة ممّا كان ، لا الترقيع الفكري والتحايل بواسطة الشكليات، بل النقد الجدّي لمعرفة حقيقة ما كان ، إحداث قطيعة جريئة ، واعية وناقدة .
وأنا حين أقول ذلك، أدرك عميقا وبالتجربة المعاشة أنّ ما كان لم يكن عقلانيّا في ممارساته ، أقول ذلك مع ادراكي العميق لحقيقة أنّ ما خلفه يفوقه لا عقلانيّة . فالرأسمالية المتستّرة بأزياء اللبرالية الملوّنة ليست البديل ولم تكن كذلك ولن توصل يوما الى حياة انسانيّة عادلة . فالانسانية ،هذا أملي ، ستخلص ذات يوم ممّا هو حاصل الآن وستجد طريقها الى عالم خال من كل أورام المجتمعات الراهنة والسابقة .
ولكن ، أعترف وان يكن متأخرا قليلا، أنّ من المؤسف في حينه ، أنني لم أكتشف أنّ مَن يجعل الديموقراطية ممركزة (المركزية الديموقراطية) ولا يتحمّل بين صفوفه التنظيميّة وبين مجتمعه رأيا مغايرا ومخالفا ، لا يختلف في نهاية المطاف عن أحزاب البرجوازية متعددة الأسماء والتجليات ، ولا يكون اليوم بعيدا عن تحوله الى أصولية بشعة ومنغلقة ، ونقيض ما كان يحلم به ماركس ولينين حقيقة ويحلم به ناس متنوّعون ، متنوّرون وشيوعيون كثيرون ، مخلصون لحلمهم ، غدهم وانسانيتهم .
ولكن بعيدا عن كل هذه الهموم ، والتي اختلط فيها الهمّ المحلّي بالهمّ الأكبر والأوسع ، الأساس ، كان الشاعر العراقي الكبير الذي ارتحل في دمشق ، محمّد مهدي الجواهري ، يعيش في براغ ، وكان من سعادتي ، أن التقيته ، اكثر من مرة، في جلسات ضيقة وخاصة برفقة أصدقاء عراقيين وغيرهم ، لا أزال أحمل لهم حبا لا ينال منه الزمن . وكان معروفا أن الجواهري يؤثر الجلوس ، وحده ، تحيط به صبايا براغ الجميلات ، فلا يقربه أحد من معارفه ومحبِّيه . وقد كتب في براغ كثيرا من روائع شعره في هذه المدينة الجميلة بكل ما فيها ، ومن بينها رائعتاه الجميلتان "يا دجلة الخير" و"بائعة السمك" . وقد روى للجالسين اليه ، في واحد من تلك اللقاءات الجميلة بثرائها الانساني والثقافي ،أنه استوحى هذه القصيدة " بائعة السمك " من فتاة تشيكية جميلة ، أدهشته بالصورة المتناقضة التي ظهرت له ساعتها : فتاة جميلة تبيع السمك ، في سوق من أسواق براغ ، وشاهدها تقطع السمك ، فتمتلىء يدها شديدة البياض والفتنة الأنثوية ، الآخذة بالعقول ، برشق الدم ، فدهش من هذه المفارقة وودّ لو أنّها تريق دمه بجمالها الذي يسلب العقول . وبعد برهة صمت ، قال: حقا ، فتيات براغ جميلات ، وقد هذّبنه، هذّبن مشاعره ، وانفجر ضاحكا على طريقته العراقية، وهو يضبط قبعته ،التي اشتهر بها ، ويعدّل قعدتها فوق رأسه ، وأضاف يأتي واحدنا الى براغ جلفا وخشن الطباع، لكن براغ بوداعة جميلاتها ومذاق خمرها ودماثة خلق ناسها وفرادة عمرانها وسعة ثقافتها ، تُهَذِّبُ مَنْ يجيئها ويسكنها، فيصير غير ما كان.
كان من عادتي المشاركة في الحديث ، لكنني لحظتها هربت الى الصمت ، فكنت أفتى الجالسين سنا، وخفت أن يخونني لساني.
ولا يزال لسان عقلي يهمس : حقا هذّبتني براغ .
اقرأ المزيد:حقا هذّبت براغ عقلي