عن رواية “مثلث توت الأرض” للكاتبة ميسون أسدي
تاريخ النشر: 15/09/15 | 10:13كعادتي، عندما أنتهي من قراءة رواية حتى نهايتها، أكون قد منحتها رضاي الذي أضن به على كثير من الروايات والقصص التي تفقّس كل يوم.. وهذه المرّة كان الأمر يحتاج إلى تدقيق أكبر، فأنا أمام رواية محلية وهي الرواية الأولى لصاحبتها الأديبة ميسون أسدي، بعد خوضها مجال القصة القصيرة والتي قدمت منها العشرات وصدرت في عدّة كتب، إلى جانب قصص الأطفال العديدة.
قبل أن أخوض برؤيتي لرواية “مثلث توت الأرض”، أشير إلى أن الكاتبة عودتنا في كتاباتها البسيطة جدا، والتي لا تستعص على أي قارئ بسلاستها- على الأفكار الذكية، والتقنيات القصصية المتنوعة والمبتكرة في كثير من الأحيان، الأمر الذي افتقده الكثير من كتابنا، وهذا الأمر جعلني أتغاضى عن بعض الأخطاء اللغوية التي جاءت هنا أو هناك، فاللغة الجميلة والمتقنة لا تصنع فكرة وقصة جميلة وممتعة، وهذا ما تتحلى به كاتبتنا ميسون، وهي لا تحتاج إلى قاموس سيبويه حتى تحبك خيوط قصة ذكية ومبتكرة. وكل ما ذكرته، كان المحفز الأكبر لقراءة روايتها الأولى، لعلمي المسبق بأنها ستفاجئني بأمر ما، كما كانت تفعل في قصصها القصيرة، حيث وضعت نهايات لم أتوقعها أبدا، وأنا القارئ النهم الذي “يقفرها وهي طايرة”.
**الملف الشامل
تحكي الرواية قصة “رجاء المصري” التي تدرس المحاماة والتي تقدم لمعيده ملف عن حياتها، بهدف رفع دعوة ضد المجتمع!! (الأمر يراد به الإثارة من قبل الكاتب ليحفز القارئ بمتابعة القراءة حتى النهاية) وهي بداية لا بأس بها.
تستعرض رجاء- من خلال ملفها- سيرة حياتها وتفاصيل أخرى عن أفراد عائلتها وأقاربها وأصدقائها وقصص المعجبين، والأمر المهم في هذا الملف، هو دخولها مستشفى الأمراض العقلية، ولا نفهم هنا بدقة الأسباب التي أدت لذلك، ويبرر ذلك تناقضاتها في سرد تفاصيل حياتها، حسب التركيبة الشخصية التي بنتها لها الكاتبة.. في نفس الوقت، نقلت لنا الكاتبة الحياة داخل مستشفى الأمراض العقلية بتفاصيلها، وهذا أيضا مجهود لا يستهان به من قبل الكاتبة، فأي من كتابنا المحليين عاش مثل هذه الحالة وفي نفس المكان، أما من أين علمت وبدقة كل هذه الأمور، ونقلته على الورق، فهذا هو الإبداع بعينه.
يبرز لنا الملف الكثير من التفاصيل التي تحيط بالأحداث وتدخلنا إلى أجواء غريبة نوعا ما عنا، فهناك عالم العصابات، وعالم الأمراض النفسيين، وعالم زراعة توت الأرض الذي اختص به أهالي منطقة المثلث، وتفاصيل أخرى نعرفها أو سمعنا عنها، لكنها بالمحصلة تضعنا في أجواء تلك المنطقة التي كما قلت سابقا، لم تكن على خارطة القصص المحلية.
**القارئ داخل القصة!
اسم الرواية: “مثلث توت الأرض”، إصدار “أ. دار الهدى ع. زحالقة- كفر قرع” 2014، بكتاب متوسط الحجم 220 صفحة وغلاف جميل.
في هذه الرواية، خلقت الكاتبة شخصية المعيد، وهو حسب رأيي، ينوب مكان القارئ، حيث تسخره الكاتبة لتنتقد ما كتبته بنفسها على لسان بطلة الرواية، فبتعليقاته المتكررة وهو يقرأ ملف البطلة بين صفحة وأخرى، يشعر القارئ كأنه يعبر عن رأيه، فمرة يندهش وأخرى يتذمر وأحيانا يتوقف عن القراءة لشعوره بالملل، وأعتقد أن الكاتبة تتحلى بهذه الجرأة النقدية لذاتها ولكتاباتها، كما عاهدناها في كتابها الأول “كلام غير مباح” والذي ذيلته بمجموعة كبيرة من النقد اللاذع لما كتبته وقد أخذته من مواقع الانترنت. وهذه النقطة تحسب لها.
قبل الشروع بقراءة الرواية، وردة عبارة: “هذه الرواية من وحي الخيال ولا تمت للواقع بصلة، أي تشابه بين أحداث هذه القصة وبين أحداث وشخصيات موجودة في الواقع هو مجرد صدفة”، فقلت في نفسي، أن الكاتبة تريد أن تخفي شيء عن القراء يعرفونه جيدا، لذلك أرادت أن تحمي نفسها من التعرف على بعض الأمور التي ربما تكون حقيقية، وأنا بدوري اعتقدت أنها تريد تحكي نفسها ولذلك قلت في نفسي، لا بد أن تكون بطلة القصة هي نفسها الكاتبة. لكن المفاجأة كانت العكس تماما. فكما أخبرتكم في البداية، أنني كنت دقيقا في كل كلمة، وبحثت جاهدا عن تشابه واحد بين الكاتبة التي أعرفها جيدا وبين البطلة، فلم أجد مرادي. لذلك اعتقدت بأنه لا بد أن تكون شخصية البطلة حقيقية وتريد الكاتبة أن تبعدها عن الشبهات، والأمر الأخير الذي فكرت به، هو أن تكون البطلة مختلقة كليا، وقد سخرت الكاتبة العديد من القصص التي تعرفها جيدا، لتخدم شخصية البطلة، وهذا أمر رائع نسبيا من ناحية قصصية ولأول رواية للكاتبة.
**بين الكاتبة والبطلة
حتى أطلعكم إلى ما توصلت إليه من عدم أي تشابه بين البطلة والكاتبة، سأورد لكم بعض الحقائق التي أعرفها عن الكاتبة والتي تنفي تشابهها مع الكاتبة:
– الكاتبة من الجليل وبطلة القصة من المثلث.
– الكاتبة لم تدرس المحاماة أبدا والبطلة فعلت ذلك.
– الكاتبة لم تدخل ولو مرّة واحدة بحياتها إلى مستشفى الأمراض العقلية، كما فعلت البطلة طوال حياتها.
– الكاتبة لها ستة أشقاء ذكور، والبطلة لها شقيقان فقط.
– لم يدخل أحد من أشقائها إلى السجن أبدا، والبطلة شقيقها ما زال في السجن.
– الكاتبة من عائلة مستورة الحال وطفولتها كانت فقيرة، على عكس البطلة التي كان والدها ميسور الحال.
– لا يملك أحدا من أشقاء الكاتبة ولا والدها الأسلحة، مثل البطلة التي يعج السلاح في بيتها.
– لا توجد في الجليل- منطقة سكن الكاتبة- عائلات تشكل عصابات (مافيا عائلية) على غرار منطقة المثلث، ونرى أن شقيق البطلة على علاقة وطيدة معهم.
– أعرف جميع أخوة الكاتبة ذكورا وإناث، ولا يوجد أي تشابه بينهم وبين أشقاء البطلة، من حالات نفسية وانتحار وعالم سفلي وما إلى ذلك.
– الكاتبة متزوجة منذ أكثر من (20) سنة ولها ولدان، على عكس البطلة التي تعاني من العنوسة.
– من قصص الكاتبة السابقة، عرفنا عنها الوضوح وعدم المواربة، على عكس بطلة القصة المليئة بالتناقضات، وهذا يفسر الحالة النفسية للبطلة التي خلقتها الكاتبة، أو استعارتها من شخصية ما.
وهناك الكثير من الأمور التي تثبت اعتقادي بأن الكاتبة بعيدة كل البعد عن البطلة، وهذا لا ينفي أن تكون هناك شخصية حقيقية تشبه بطلة قصتنا هذه.
**المثلث على الخارطة القصصية
لم اقرأ من قبل رواية محلية، كان مسرحها منطقة المثلث، فربما كان ذلك بسبب تواجد معظم كتابنا المحليين في منطقة الشمال ومنهم أيضا كاتبتنا ميسون، هذا الأمر جعلها تحصل على السبق في وضعها هذه المنطقة على الخارطة القصصية المحلية، مثلما عودتنا في تقاريرها الصحفية التي كانت تنشرها على مدى سنوات في جريدة “الاتحاد”.
وهنا أريد أن أشيد بالعمل الرائع لجمع كل هذه المعلومات الدقيقة عن منطقة المثلث وطريقة عيش أهلها والتاريخ الذي مرّوا به منذ قيام دولة إسرائيل حتى يومنا هذا، وحتى التأثر بالمحيط اليهودي لهذه المنطقة، وكل هذا ورد بتفاصيل لا يشوبها شائبة، وكأن الكاتبة عاشت بنفسها هناك، وإن دل ذلك، يدل على الكم الهائل التي جمعته من المعلومات عن المثلث، وهو مجهود جبار يستحق الإشادة به.
من شدّة ما تأثرت بتلك المعلومات الحقيقية، كنت وأنا أقرا الرواية، أتخيل أبطالها يتكلمون بلهجة أهل المنطقة، حيث يستبدلون حرف الـ “ك” بـ “تشـ”.
**البطلة حقيقية
أصارحكم القول، بأنني بحثت كثيرا عن شخصية حقيقية تشبه البطلة في محيط الكاتبة وحتى أبعد من ذلك، فلم أجد واحدة تشبهها بكل تفاصيلها، رغم أنني كنت على يقين بأن الشخصية هي حقيقية مائة بالمائة، ولكنني في نهاية الأمر توصلت إلى نتيجة واحدة، وهي أن تركيبة شخصية البطلة هي عبارة عن تجميع من عدّة شخصيات حقيقية صهرت وسكبت في قالب بطلة القصة، لذلك كانت حقيقتها مؤكدة بالنسبة لي طوال قراءتي. وصدقت حتى تناقضاتها التي تبرر كونها مريضة بمرض نفسي يجعلها تتقلب من النقيض إلى النقيض في حديثها، وقد تم تفسير حالتها على لسانها عندما تحدثت عن مرضها للمعيد.
ما أزعجني في شخصية البطلة أنها دائمة الدفاع عن ذاتها، وكأنها لا تخطئ أبدا، وربما كان ذلك مقصودا من الكاتبة التي أرادت أن لا تتدخل بما تقوله البطلة، وتركت الأمر للمعيد الذي يحتج على ما دونته في ملفها.
**البساطة الأصلية
كما عودتنا الكاتبة ميسون أسدي، في كتاباتها، لا تتفلسف ولا تعقد الأمور، وقوتها وعمقها يكمنان في بساطتها والمباشرة التي تتناول بها الأمور، وحسب رأيي، أن الأمر الوحيد الذي لا يستطيع أن يصطنعه المبدع، هو البساطة. فلا يمكن أن يقول الشخص لنفسه: أريد أن أكون بسيطا، أو أريد أن أكون متواضعا.. فبمجرد قوله ذلك، يفترض مسبقا بأنه غير بسيط وليس متواضعا. وأنا أعتقد أن هذا الأمر يكون في تركيبة الشخصية الأصلية أو لا يكون. وكم هو جميل أن تكون بسيطا وليس مبهرجا تبهرج الكاذبين والمتفذلكين..
والنتيجة هي رواية ممتعة وصرخة نسائية و”محاولة شجاعة للاحتجاج على الوضع القائم وتغيير النظم السائدة من خلال الفن والكتابة، سواء بالنسبة للبطلة أم بالنسبة لأسدي نفسها”. ما جاء على لسان د. دوريت جوتسفيلد، في مقدمة الكتاب. وهي من الروايات المحلية التي أخذت لها مكان في الصفوف الأولى لأدبنا المحلي، لا بل تخطت حدود المحلية.
سامي شجراوي