الأديبة العربية المعاصرة لما عبد الله كربجها
تاريخ النشر: 15/09/15 | 17:52قاصَّةٌ يتضوع بين ثنايا حروفها أريجُ الياسمين الشامي الأخاذ، تنساب كلماتها بسلاسة راقية رقراقة الى القلب، وتنثر شذاها بين الضلوع. كاتبة متألقة متمكنة مخلصة، صاحبة رسالة إنسانية سامية، هدفها نشر السلام والمحبة، كي تعيش البشرية بحب وانسجام، بعيداً عن الحروب والفتن. إنها ابنة ” حماه”، بلد النواعير والخصب والخضرة، ومياه الحياة التي ما فتئت تسكب محبة في الجوف الآدمي، قبل السهول والأودية ومزارع الأمل والسعادة.
“لما عبدالله كربجها”، قاصة عربية سورية يسكب يراعها المحبة والحبور والتفاؤل دائما بيوم جميل يطوق أعناق الانسانية جمعاء. لا تعترف بالحدود المصطنعة ،ليس بين الدول العربية فقط، بل على المستوى العالمي؛ رسالتها موجهة إلى كل مخلوق آدمي قَدَّرَ الله له العيش على هذه البسيطة الرحبة. فإن كانت الأهرامات في الدنيا ثلاثة، فهي الهرم الرابع: تواضعاً ومعرفةً وأداءً وتميزاً. كتبت القصة الإجتماعية وأجادت، وسبرت غور المجتمعات والنفوس، لترسي من هناك اشعاع الاصلاح والفضيلة ومكارم الاخلاق، كما كتبت القصة الساخرة الهادفة، وما تخلفه في نفس القارئ من فهم وادراك لما بين السطور من عبر ودروس، كتبت لابناء العالم الرحب؛ رجال المستقبل ورواده: الأطفال. تماهت مع الطفولة وزرعت فيها بذور الحياة والأمل، وشحذتها بالاخلاق وحب التميز خُلُقاً وأداءً. “لما كربجها” مُصْلِحةٌ اجتماعية من الطراز الاول، أو رسولة سلام ومحبة، حطت ركابُها بين ظهرانينا، لتذيب التعصب والانغلاق والتقوقع والكره المقيت، ساكبة ترياق الحياة، وبلسم التسامي عاليا ليشعر الانسان،أيا كان عرقه أو دينه أو مذهبه، بحياة تستحق أن تسمى “حياة” كريمة.
تعتبر الطفولة هي الأمل والحياة لكل شعوب العالم. كتبت لهم القصص التعليمية والتثقيفية، ونذرت قلمها لخدمتهم واعلاء شأنهم، فالطفولة هي البراءة وهي القلوب النظيفة والمخلصة التي يجب ان تُرعى وتُربى على المحبة والعطف، والأخذ بايديها نحو العلا.
الله اعلم حيث يجعل رسالته، فجهود طيبة مباركة لا يمكن أن تذهب طي النسيان، أو في متاهات اللامكان واللازمان: بدأت الأديبة القاصة ” لما كربجها” في جني ما زرعته وبثته في القلوب من فضيلة واخلاص ومعرفة، فها هي اليوم تحصد الجائزة تلو الجائزة؛ تكريما وتقديرا لدورها المجتمعي والاصلاحي بالكلمة القلبية الصادقة. فقد حصلت على المركز الأول في مجال القصة على مستوى الجمهورية العربية السورية للأعوام 2003، 2005، 2013، وفي مجال المقال في عام 2004. وضمن مسابقات اتحاد الكتّاب العرب عام 2009، حصلت على المركز الاول. وأخيرا، حصلت القاصة”كربجها” على المركز الثاني في مسابقة مجلة “الثقافة العربية الكبرى”. ليس وراء هذا التكريم الا التميز والاخلاص في المهنة؛ تلك الرسالة التي نذرت نفسها لها للسمو بالبشرية واعلائها، ونبذ التفرقة وما يعكر صفو سيرها.
فالبلاد التي انجبت نزار قباني، غادة السمان، عمر ابي ريشة، حنا مينة، العقاد، على سبيل السرد لا الحصر، لم تعقم، وما زالت تلد الرموز العلمية والادبية الرائعة، والتي يشار اليها بالبنان، ليس على الصعيد المحلي او العربي فحسب؛ بل العالمي. ليست قاصة فحسب؛ بل صحفية متألقة تصدرت قائمة الصحفيين الناجحين. اجرت لقاءات مع قامات وقيم رفيعة في المجتمع، طرحت اسئلتها بكل ثقة وتمكن، فأثلجت صدور جمهورها، ونالت إعجابهم لفن ادارتها دفة الحوار. صحفية إن تكلمت أسمعت، وان سمعت أنصتت وتمثلت ما يقال، وقرأت ما بين السطور. كتاباتها وحواراتها وتعليقاتها رزينة بعيدة عن الاسفاف وعن لهو الحديث أو التهور. تحرص على تنمية وتطوير ذاتها وتسليحها بالمعرفة، وتتبادل الافكار مع اهل الفكر. فلئن كان ل”مي زيادة” صالونها الادبي الخاص لتبادل الافكار مع جهابذة المعرفة آنذاك امثال طه حسين والعقاد وغيرهم، فأديبتنا القاصة”كربجها” تحرص على شبيه بالصالون الادبي-الاصبوحات الفكرية، التي قلما فاتتها واحدة منها، لايمانها بأهمية لقاء اساطين المعرفة، وعمالقة الشعر والقصص هناك.
حاليا تعمل على مجموعة قصصية لها روح الرواية تنطلق من أزمة الوطن بعنوان” أميرة البلاد النائمة”. لا تدخر جهدا في التواصل مع مجلات راقية لنشر ما يهدله يراعها النضاخ بالكلم الطيب: فهي عضو فعال في مجلة”كفربو” الالكترونية التي تضم نخبة مميزة من اصحاب الاقلام النظيفة البيضاء والفكر النير. مما يؤثر عنها:
-الإنسان عندما يتسامى برسالته، ويقترب من هموم الناس ويعبر عنها بما يرضي الله ويرضيهم، حينها يصل إلى الجميع.
-أعتز بانتمائي إلى الدم العربي.
-لا افرق بين طائفة واخرى، وكثيرا ما يستعصى على الكثيرين انتمائي فاجيب:” انني سورية المذهب والانتماء”.
-الروح والدين لا يحق لنا التدخل فيهما، فهما من الامور الخاصة بالله سبحانه وتعالى.
-جميع الاديان السماوية، وحتى الوضعية، قامت على اساس الإنسانية ونادت بالمحبة والتسامح.
-للنجاح في حياة المبدع ضريبة كبيرة وعظيمة، لكنه ايضا يفرض عليه سطوة رائعة، ونشوة تلُفُّ كل ما يعتريه من مدارك وأحاسيس، نشوة تحلق به في سماء العبقرية وفي لجة مفعمة بالتوازن النفسي والعقلي”.
القاصة “كربجها” منفتحة على أصحاب الفكر ممن يشاطرونها الهمَّ الانساني والعمل الفكري. تتواصل معهم، تأخذ بنصائحهم وثمرة تجاربهم، وتثري الحوار بتعقيب هنا او هناك للوقوف على أمر يقض مضاجع البعض، وفي كثير من الاحيان يكون ردها تثقيفيا تناصحيا. ففي رد لها على الاستاذ عبد المنعم الجبوري قالت:” الكلمة أمانة ومسؤولية أمام الله وأمام الانسان، والقلم سلاح لحمل هذه الامانة..لذلك يدي بيدك وبيد كل شريف لصنع قادم أجمل تخلفه الكلمة بنواياها الحسنة والعمل الصالح دون غاية سوى ارضاء الله سبحانه وتعالى”. في أحيان كثيرة وُجِّهت اليها بعض الاسئلة الخاصة بسعيها نحو العالمية، ولكن اجابتها كانت قاطعة وملجمة:” أنا لم افكر بهذا ابدا، ولا تهمني العالمية اطلاقا، ما يهمني هو ايصال رسالة المحبة والعيش بسلام وود لكل انسان”. هذا كلام رائع وخاصة الجزئية المتعلقة بقادم الأيام، ولا إخالني اجانب الحقيقة لو قلت أنها وما نادى به الشاعر التركي”ناظم حكمت” سواء، إذ يقول:
إن أجمل الأيام يوم لم نعشه بعد / وأجمل البحار بحر لم ترتده أشرعتنا بعد.
تحسن انتقاء الكلمات ذات المعنى والمدلول المحددين ليطمئن قلبها من وصول الفكرة الى جميع الاطياف في المجتمع أيا كان: محليا، اقليميا أم دوليا. فكر ينم عن ثقافة موسوعية عميقة، همها المخاطَبُ، ونكران الذات، والعمل القومي والفكر العربي هما ديدنها. ففي واقعة تشهد انتمائها للعروبة على المستوى العربي، ردت على الاستاذ فواز الملحم:”الحياة لا تقف عند احد، بل تلف وتدور، ولكل دوره، والله ليس بغافل عن أحد، لكننا في ذلك الوقت لن نتخلى عن أي شقيق عربي، ولن نسمح لاحد بالتكالب عليه، هذا هو ديننا وهكذا تربينا وعشنا في سورية..حينها سننسى آلامنا وجراحنا، وسنذكر فقط أن جميع العرب اخوة، وأن جميع الثيران تم اكلهم يوم اكل الثور الابيض”. حقا هذه رسالة في منتهى الحكمة، والتصرف الايجابي تجاه من يخطئ، فلا مجال لديمومة اذكاء الفتن والحروب بين الاشقاء، فالتسامي فوق الجراح، ولم الشمل وتقوية اواصر الاخوة واللحمة هو ما تنادي به الاديبة” لما كربجها”.
الكتاب هو عشقها وسميرها المخلص، لا تتركه الا حال الإنتهاء منه، أما الشعر فلا يروقها أو يثير اهتمامها الا اذا حلّقَ بها عاليا وبقيت آثارة عالقة في النفس والروح. من هنا تبرز نوعية القراءة-وليس الكمية- التي تتعامل معها الاديبة” لما”. فقد سئل أديب مرة عن أعذب بيت من الشعر يروقه فقال هو البيت الذي اذا قرأته تمنيت لو كنتُ قائله. فثقافة أديبتنا لا تتوقف عند الموروث العربي فحسب، بل تتخطاها الى الاداب العالمية. لقد اطلعت على الاداب الغربية والشرقية، فهي تقرأ كل ما تقع عليه يدها من انتاج عربي او عالمي، وقد لاحظتُ مدى اطلاع الاديبة”لما” على الادب الروسي وتأثرها به وذلك من خلال استشهادها بآراء وأفكار عظماء كتّابه. في روايته”الاخوة الاعداء” ل” ديستوفسكي”، تتطرق اديبتنا الى حوار ذاتي بين “زوسيما” ونفسه إذ يقول:”الجحيم هو عذاب الانسان من أنه اصبح لا يستطيع أن يحب”. وفي حادثة مشابهة، فاهت احدى صديقات الاديبة”كربجها” باننا لم نعد نحب بعضنا بعضا.وهنا تظهر سعة الصدر، وجرعة الايمان التي تسيطر على شخصية الاديبة حيث ردت:” الله يحبنا جميعا، وعندما نرفع ايدينا اليه وندعوه على اختلاف انتماءاتنا واتجاهاتنا ومذاهبنا لا يردنا خائبين، وانما يختار لنا الخير.
تعيش القاصة” لما” حياة توحُّد مع الوطن الذي تعشق، وهو في اعلى مراتب اولوياتها. كيف لا وهي سليلة اسرة وطنية مخلصة لتراب هذا الوطن المعطاء، وحكاية جدها تجسد ذلك في ذكرى عيد الجلاء. تتحف قراءها بجمل زاهية في الوطن وعنه، وتقدمها على طبق من ارقى الياسمين الشامي:”الزمن يمر والايام تمضي والناس تتغير، لكن الاشياء الثابتة تبقى على حالها مهما طال الزمن وتبدل، فالوطن يبقى انتماؤنا الاول والاخير، يبقى عزتنا وكرامتنا التي يستحيل ان نتنازل عنها، يبقى نبضا حارا متأصلا في روحنا ودمنا وحياتنا وعمرنا باكمله، يرفض أن يبقى مجرد كلمات تتخفى وراء الشعارات الرنانة”. كلام الاديبة “لما” لا يخلو من تأثرها بما تمتلكه من ثقافة عالمية موسوعية، ويكأن ما حل بالعاصمة البريطانية-لندن- في 2/9/1666 من حريق لبعض الاحياء، ثم عودتها اشد عودا واصلب قامة، هو ما يعطيها القناعة بأن الوطن سيتعافى قريبا وبعون الله، ويعود اكثر قوة وصلابة وتالقا.
تنظر الاديبة “لما” الى شخصية ابيها بكل تقدير واحترام وإعجاب. كالطود العظيم يقف شامخا متحديا فلول المعتد الأثيم. يشاء الله تعالى أن يقيض على يديه ضربة موجعة في خاصرة اعداء الوطن والامة في “حرب تشرين التحررية”. ضربة ملؤها الإيمان والعزم اطلقها صاعقة تجاه طائرة اسرائيلية، فهوت من علياء الكبرياء الى اسفل سافلين، تلثم الثرى لتتحول الى كتلة لهب ثم كومة فحم. لم يكن أباً فحسب؛ بل كان الأب والبطل والشجاع والقاص الذي ما فتئ يقصص على عائلته اروع القصص والبطولات التي خاضها هو شخصيا واترابه دفاعا عن ثرى الوطن.منحه الرئيس الراحل حافظ الاسد وسام البطولة، تقديرا لاخلاصه وتضحيته في سبيل الوطن. تمشي بجانبه ويكأنها تمتلك الدنيا بما رحبت؛ انها في ظل رجل عملاق ليس ككل الرجال، فطالما نفث في روعها وافراد العائلة كلاما ساحرا عن الوطن:” الوطن فخر واعتزاز، إن ضاع لن نجد له بديلاً سوى الذل والهوان، أحبوا بعضكم بعضاً، كونوا يداً واحدة، انطلقوا في الحياة من مخافة الله وﻻ تبنوا علاقاتكم الإنسانية على أساسات مادية”. ما فاهت به اديبتنا القاصة” لما” في حق والدها لا يثمن، ولكنها توجز ذلك في كلمات قليلة، لكنها توزن بميزان الذهب:” لأجلك يا أبي.. يا وطني الأول سنكون الأفضل..أبي رجل كبير يشبه الأرض حنانا وصلابة، كنت عندما أمشي بجانبه اشعر بالأمان والثقة، بالقدرة على الحياة دون خوف”.
الحروب مدمرة، تقتل، تسحق، تمحق، لا تبقي ولا تذر. تكرهها وتمقتها وتمج من يذكي جذوتها. في المقابل، تمد يدها للمصالحة مع الجميع من افراد وجيران واخوة، وربما تفشل في تحقيق المصالحة، الا أنها تصر على ترسيخها بدل العداوات المفتعلة. فالحروب تسببت في ازهاق ارواح الابرياء وتشريد الكثيرين الذين طرقوا ابواب الهجرة القسرية وما بها من عذاب جسدي ونفسي، وهذا ما يدمي قلب الاديبة”لما كربجها”. ترأف بحالهم وتحنو اليهم وتتحسر على من أصبحوا لقمة مستساغة للحيتان في عرض البحر. تتنهد، وبقلب موجوع وتختم:”ولكننا لا نريد الرحيل عنك يا وطني”.
وتختم اديبتنا بسؤال فلسفي قل نظيره:” الى اين نحن ذاهبون؟”. ثم تستدرك، فتسيل الكلمات على لسانها رطبة مستساغة ندية، داعية الجميع الى التكاتف، وخاصة الاصدقاء المخلصين، مطالبة اياهم بالوقوف الى الي جانبها والترفع عن الصغائر والنظر لما هو اعظم: الوطن برمته، شماله وجنوبه، شرقه وغربه، ابناؤنا الذين يحتاجون منا نظرة جديدة للحياة.
يونس عودة/ الاردن
مقصرون مهما كتبنا عن قيمة وقامة عربية كقامة القاصة”لما كربجها”. الى مزيد من التالق، استاذتنا الفاضلة.