لا بد ان يطلع النبع ..!!

تاريخ النشر: 27/05/13 | 13:25

" اولاد اولادي يحملوني الى قبري " ….!!

كما اوصيت …!!!

حملوا جدتهم على اكتافهم وخرجوا بها من البيت الى المسجد …. وبعد ان صلوا عليها صلاة الميت , توجهوا بها الى مقبرة القريه , تحيط بها جموع حاشده من اهل القريه , اما هو فلم يشارك اخوته وابناء عمه في حملها ……

" ادفنوني بجانب جدك " هذه اخر كلمات سمعها منها ..!! وبعد ايام لحقت برفيق عمرها والرفيق الاعلى ..!!

بكى عليها دموع , سالت من عينيه , حتى لم تبق ورائها الا قطع حمراء جافه …. شعر بيد تتسلل برفق على كتفه . التفت الى يمينه فالتقت عينيه بعينين صديقه احمد …. كان احمد هو الوحيد الذي يعرف عمق العلاقه التي كانت تربطه بجدته .

فمد يده وهو يهمس " انا معك ..!!".

" زغردت يوم طلع جدك من الدار …!! " رددت هذه الجمله الاف المرات . وكان يطلب المزيد . وغنى الرجال " يا ام الشهيد " اطلعي زغردي على الارض في عنا شهيد ..!!" . " ولم تزعل " لانهم لم يقولوا امرأة الشهيد لانها كانت تتعامل معه كالام ….. كان على الجبال محاربا شجاعا عنيدا , اما عندما كان يتسلل الى الدار , فكان يضع نفسه في حضنها , وتطعمه وتسقيه , وتلاعبه , كانه طفل صغير ..!! "

" ريحوهم يا شباب تعبوا " قطع شريط افكاري صوت رجل من الذين يسيرون في آخر الجنازه .

" تعال يا ستي , وحط حالك بحضني بروح كل التعب !!" , هيك كان يعمل سيدك لما يرجع تعبان " كانت تقول وهي تمد يديها وحنانها اليه عندما يشكوا من تعب الم به …..

"البقيه بحياتك " …" حياتك الباقيه " همس في اذنه احد شباب القريه فرد له التحيه … مرت الجنازه ببيت " رولا " فالتفت باتجاهه فلمح وجهها يطل من الشباك , ولمح دموعها تجري على وجنتيها صانعة خيوطا من الحزن واللوعه .

" العين … العين يا خديجه ….. ديري بالك عليها ان متت ..!!!! كان يسمعها تردد كلمات جده … " من يوم ما مات جدك بدأت ماء العين تقل شوي … شوي حتى ما ظل لها دموع تنزلها ..!!" كانت تطلقها زفرات تشعل النار في جوفه فتحوله الى كتله من المشاعر المحروقه ..!!

" الله اكبر …. الله اكبر … انا لله وانا اليه راجعون " انطلقت حناجر بعض الذين يمشون في الجنازه …..

" بدي افرح فيك قبل ما يأخذني ربنا الى جواره …. مياتي على النار يا ولدي ..!!". كانت تردد هذا القول على مسمعه كلما دخل الى غرفتها واقترب منها وقبلها وهي ممدده على السرير لا تتحرك … منها الا العينين …. وزاد الحاحها بعد ان اعلن خطوبته على " رولا ".

" جدك اخذني وانا بنت ستاش !!" كانت تكمل من بين شفتين ارتسمت عليها ابتسامه ملائكيه تحمل كل معاني حنين الماضي …..

" شافني وانا راجعه من العين …. اعجبه حملي للجره وانا منتصبة الطول ..!!"

كانت تغرق في نبع يسيل في اعماقها , تتلذذ دائما في اسقائه من حواسها , التي كانت دائما تتلهف للمزيد …..

" خذ يا ابني …. هذه هديه مني لخطيبتك ..!!" قالت وهي تناوله سوار من الذهب … تناوله بيدها بعد ان "حفرت " طبفات فوق طبقات من قطع القماش , التي كانت تلف بها السواره ..!!

" هذه السواره هديه من الثوار , رفاق جدك بمناسبة زواجنا ..!!" " خذها خذها هدية الثوار لا ترد ..!!" اكملت بسرعه . بعد ان شعرت ان الدموع ستخنقها وتمنعها من الكلام …. بعد ان لاحظت تردده في مد يده لتناول الهديه , كان يعرف لماذا كانت تهاجمها الدموع عندما تتذكر الثوار ….. فجميعهم اما استشهدوا …..او ماتوا بعد ان داهمهم المرض او الشيخوخه …..

" البقيه بحياتك !! " انتشله صوت مبحوح من غيبوبته ووجد نفسه في حضن رجل متقدم في السن , تبين له بعد ان " خرج " من حضنه , انه جد رولا فتبادلا القبلات وتابع سيره عائدا الى عالمه …!!.

انتبه انه تباطأ في سيره , فاصبح يسير في آخر الركب … فاسرع الخطا ….. اذ ليس من اللائق ان يكون هو في اخر موكب الجنازه ….. بعيدا عن التابوت الذي يحمله الشباب .

" لقد قتلوه على العين ….. نصبوا كمين وراء الزيتونات الروميات … كان راجعا الى الدار ليؤخذ المؤونه التي حضرتها له ولرفاقه … ولقد سمعت طلقات النار , فشعرت وكأنها تخترق جسمي ….. فصحت " ابو القاسم " خرجت من باب الغرفه , فرأيتهم يرمونه في السياره ويسرعون مغادرين نحو خلة عين الزيتونه …!!"

روت حادثة موته , مرات لا تحصى ….. كانت ترويها كانها حدثت امس …. او هذا الصباح .

" بلدنا …. ومن كل بلاد الله الواسعه جاءوا يهنوني ..!!" . كانت تكمل القصه قبل ان تسكت وتغوص في الحنين الحزين ……

" كان وكأنه حاسس" بما سيحدث له ….. ففي المره التي قبلها ,عندما انزل عن الجبل ليتفقد احوالنا قال يوصيني : " مية العين للناس اجمعين " اياك يا خديجه ان تمنعي ميتها عن احد ..!! صحيح هي بأرضنا ولكن ميتها لكل الناس ..!!".

وصلوا الى المقبره جلس على حجر قرب القبر الذين قد انتهو ا من حفره قبل لحظات , وبدأوا بجبل التراب وتحضير حجارته ….. كان الصمت قد حول الاحياء الى اموات , واقفين وجالسين , … قام من مكانه , وتقدم من قبر جده المحاذي لقبر جدته , الذي ما زال مفتوحا وقرأ عليه الفاتحه كما فعل قبل الكثيرون من مرافقي الجنازه قبله .

( محمد سعيد القاسم استشهد سنة 1937) , قرأ على نصب القبر عندما ابتعد عنه راجعا الى مكان جلوسه .

" بدي اياك تتجوز بسرعه مشان اشوف ابنك …. لازم يطلع مثل جدك محمد ..!!!

كانت تقول احيانا بصوت تخطلط فيه احاسيس المداعبه والحنين ولمعات الامل …. ولكنه كان يلتزم الصمت عندما تذكره بالزواج ….. لقد كان يعرف , انهم صادروا جميع اراضي خلة عين الزيتونه , ولم يبق منها بقعه الا ارض العين الجافه …!! وكل من حوله كانوا عاقدي العزم على بناء بيت له على هذه البقعه ….. وكان يعرف ان هذا العمل " سيقتل " جدته ..!!

فكانت تقول دائما " سترجع الميه للعين " ….. سترجع المياه الى مجراها …!! ولكنه كان يعرف انهم " سحبوا " ماءها بأنابيبهم من تحت الارض الى المستوطنه التي بنوها بالقرب من البلد ..!!!

وقف الامام …. ووقفوا …… وقرأ ما اعتاد على قراءته في هذا المقام , ورددوا وراءه . وعندما انتهوا قرأو ا الفاتحه على روح الفقيده …. " واستلم " الطريق التي توصله الى البيت …. حاول رجلان من اهل البلد اجباره على تناول الطعام في احد بيوت الجيران , ولكنه رفض بشده , مدعيا انه يشعر بألالم تمنعه من ذلك , يئسوا اخلوا سبيله واكمل سيره الى البيت …..

" العين …. العين يا خديجه …… ديري بالك عليها من بعدي …!!! العين يا خديجه لكل الناس اياك ان تمنعي عنها احد ..!!".

كانت هذه الكلمات تضرب خلايا تفكيره دون توقف …. كانت وكأنها مدقات تتدق رأسه بلا رحمه ….. وصل الى الدار وتوجه مباشره الى مخزن عدة العمل ….. تناول فأس ومجرفه ,وتوجه ال مكان منبع العين , وبدأ يضرب ارض المنبع به بكل قوته ….. سمعت وقع الصوت , الذي يخرج من جراء اصتدام الفأس في الصخر , " فطلت " من الشباك , فهالها ما رأت : فأسرعت بأتجاهه …. وعندما وصلت نادته مرات كثيره دون ان يسمعها او ينتبه اليها …. وعندما اسند قامته , والتفت اليها صاحت به :

– يا محمد احنا بئيش ولا بئيش !!!؟

بحفر بدي اطلع مية العين …. !!! قال وشرر التصميم والتحدي يقدح من عينيه …

مية العين … هسا وترابات جدك بعدهن "خضر" ..!! قالت تستغيث …" وبيتك الي بدك تبنيه هون ..!!" اكملت من اعماقها …..

" لازم اطلع الميه قبل ما ستي تخبر جدي بأخبار العين ..!! خرج صوته من بين زغاربد البكاء ….

واستمر محمد يحفر …… ويحفر …… ويدق الصخر ويدق الصخر ….. وما زال يحفر ويحفر …!!! وما زال يدق الصخر …!!! حتى تخرج مية النبعه ..!!! يدق …. ويدق …!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة