عذراً أيها السوريون!
تاريخ النشر: 30/09/15 | 2:18عندما ترى صور «الشتات السوري»، تمتحن مناعتك ضد البكاء. تبحث في اللغة عن اسم لهم. تعجز المفردات عن وصفهم. لا هم نازحون ولا هم لاجئون ولا هم تائهون. هم أقرب إلى مشهد الصراخ الصامت في لوحة «مونش»، أو إلى فصل من «الهاربون من الجحيم».
عندما يمرون أمامك في زيَّاحات الارتحال، تسأل عن أسباب عجزك وتخليك عن الندم. لا تجد في هذا العالم قلباً يثير شكوكاً في جدوى العواطف. تسأل عن السياسة وأسباب تكلسها في مواقف تستبيح الحياة الآدمية. تسأل عن موت الضمير وحيوية القتل وفقدان الأمكنة الحميمة التي تسمى في اللغة، أوطاناً.
السوريون في حالة عبور من أرضهم إلى أراضٍ مجهولة، لها في بالهم «بهاء المنفى». كل أرض غير بلادهم وطن للحظة أو وطن بلا مراسم استقبال، أو بمراسم الشفقة المذلة، أو بمواقف النكران، تترجمها شرطة الحدود بالطرد والضرب والملاحقة. السوري في ترحاله الشاسع، يسأل ويسأل، ليس بحثاً عن جواب، بل ليجد نفسه في الكلام. لغته آخر ما تبقى له. والسوريون رجال وحيدون، يتلمَّسون الوصول إلى أي مكان، يزدحمون في السراب الأوروبي، بعيداً عن وطن ودَّعوا فيه موتهم وقتلهم ورثاء الأحبة.
تسأل كعربي، ماذا فعلت إزاء هذه الكارثة الإنسانية؟ هل ما زلت قادراً على التنفس بشكل طبيعي؟ ألم تغصّ بالتنهد؟ ليس من عاداتك الحديثة، غير التشبث بالنجاة. أي «من بعدي الطوفان». «تُطنِّش» عن فعل الضمير. تعوِّل على النظام أو على المساعدات الغربية. تستقيل من الإنسانية، مع معرفتك المسبقة أن من حق العطشان أن يشرب ومن حق الجائع أن يأكل ومن حق العربي على العربي، أن يتمتعا معاً بمرارة القهوة، وليس بمرارة الخذلان… تسأل عن «بلاد العرب أوطاني»، فلا تجد حنجرة واحدة تصدح.
تسأل اللبناني، ولا تجد السؤال المناسب؟ لا تسأله، بل تقول له: لقد ارتكبت استقبالاً بشعاً، لأشقاء فتحوا بلادهم وصدورهم لنزوحك. قمت باستقبال انتقائي وانحيازي. السني رحب باللاجئ السوري السني. كذلك ارتكب المسيحي والشيعي… فاض الخطاب اللبناني تصنيفاً وعنصرية بذيئة، وترهيباً معمماً وتشريداً منظماً. «استقبلنا» أكثر من ربع عدد سكان لبنان! «الوطن» اللبناني ضيّق، لا يتسع إلا لمن يشبهنا. ويخلق من الشبه على عدد الطوائف والمذاهب. ثم، يا لبؤس الإقامة. خيام حارقة صيفاً وجليدية شتاءً، وعارية من رعاية وعناية، إلا ما تلطَّفت به مساعدات غربية ودولية شحيحة… البعض الكثير وجد في اللجوء السوري استثماراً سياسياً واقتصادياً، كما فعل من قبل باللاجئ الفلسطيني: الإقامة بشروط القهر، العمل متدني الأجر، التهمة الجاهزة، السبب في الخلل الديموغرافي… اللاجئ هو الخطيئة الأصلية والخطر الأساس على الكيان.
تقتضي الحكمة ألا نسأل الأنظمة العربية عن سعة سياساتها إزاء الهاربين من الرعب السوري. يلزم أن نكتفي بحذف هذه الأنظمة من الحقل الإنساني. هذه أنظمة ترتكب وتحترب، ولا تتجرأ على تحمل «حماقة» استضافة اللاجئين. ليس في دول الخليج مكان لإقامة عابرة للاجئ. أنظمة محصَّنة بالذهب والنفط، لا تصلح لممزقي الثياب. أما سواها، فلم يتعرف بعد إلى طعم الإنسانية بعدما غدر بالروح القومية والوشائج الوطنية.
ولا تسأل الأنظمة في أوروبا. تلك دول فشلت في إقامة الأسوار، وتحويل القارة إلى قلعة محصّنة ضد المهاجرين. تلك دول سيَّرت دوريات بحرية مسلحة لمنع قوارب المهاجرين البؤساء من الاقتراب من البر الأوروبي. حكومات صمّاء تخاف من اليمين المتطرف، وتخشى من «الغزو» البربري والديني…
سقطت حصانة هذه الأنظمة الأوروبية أخلاقياً. أنقذتها أصوات التحدي في المجتمع المدني الذي تربى على ثقافة حقوق الإنسان، وليس حقوق الدول والأنظمة والأديان والأعراق. نهض المجتمع المدني الأوروبي وقال للسلطات السياسية كفى. فانحنت وفتحت أبوابها.
لا تسأل هذه السلطات عن تصلّب شرايينها الإنسانية. إسأل عن رجال ونساء في أوروبا، قالوا لحكوماتهم: افتحوا الأبواب. آخرهم فيليب غلوغن الفرنسي، الذي أصدر دليلاً مصوراً للاجئين يدلهم على كيفية تطبعهم بالبلاد. سألته صحيفة فرنسية عن سبب مبادرته، قال: «كنت أريد أن يقيم لاجئون في منزلي. حوّلت المسألة إلى جواب، كيف يقيم اللاجئون في وطني. إن سياسة فرنسا مخجلة إزاء الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها أناس معرضون للقتل. حكوماتنا كالدجاج، إننا قذرون. لقد استقبلت فرنسا مئة ألف روسي أبيض بعد اندلاع الثورة البولشفية، وكانت فرنسا في حرب. ثم استقبلت عشرات آلاف اللاجئين في الثلاثينيات بعد صعود النازية، والآن تستقبل فقط 24 ألفاً؟ إننا قذرون».
لا تُسأل الحكومات، بل تُسأل الشعوب. والشعب هناك منخرط في ثقافة الحقوق ويعتبر نفسه مؤتمناً على الشرعة الدولية، ويقوم بواجبه الإنساني كواجب عابر للحدود. مَثَلُهم في ذلك مَثَلُ ذلك الصياد البحري العجوز، على شواطئ مدينة «كوس» اليونانية، الذي يطوف بزورقه بعيداً عن الشاطئ لينقذ بعض ضحايا القراصنة، تجار تصدير اللاجئين إلى المنافي.
هل ما زلنا في مرحلة ما قبل التطبيع مع حقوق الإنسان؟
لعلنا تأخرنا كثيراً. فعذراً أيها السوريون.
نصري الصايغ – السفير