المعاني الجديدة للمفاهيم السياسية
تاريخ النشر: 03/10/15 | 10:30حتى أربعة أعوام مضت كانت معاني المفاهيم السياسية مستقرة إلى حد بعيد، وكان علم السياسة قد تحول إلى ما يشبه ما يصنفه العرب على أنه علم ناضج, بل وصل الأمر إلى الاعتقاد في بلوغه من النضج منزلة علم النحو الذي هو علم ناضج إلى حد الاحتراق، وتعبيرهم عن هذا المعنى أن النحو نضج واحترق يقصدون بهذا درجة تتعدى ما يقصده رؤساء المطابخ بقولهم عن الطعام إنه أصبح مستويا تماما!!
بدأ العبث الحاد بالمعاني السياسية الاصطلاحية يصل ذروة عالية من الخيال حين وجه معمر القذافي سؤاله الشهير إلى شعبه قائلا: من أنتم؟ متوّجا بهذا سلوكا مستترا (كان معروفا عنه) من احتقار الشعب، ومتوجا أيضا سلوكا ملازما للأول من خداع الشعب بفكرة الجماهيرية: نظرية وفلسفة وممارسة وبشرى.
“بشار الأسد -آخر عناقيد الاستبداد العرقي- فاجأ التراث الإنساني بنص تمت صياغته بطريقة هيكلية خبيثة المعنى والدلالة، يقول فيه إن الوطن لمن يدافع عنه لا لمن يحمل جنسيته! ”
قبلها بقليل كان نائب رئيس الجمهورية المصري الذي تولى منصبه ليوم واحد فقط قد قال وهو متكئ على أريكة مقعده في حوار التلفزيون المصري: إن الديمقراطية لا تصلح لمصر وإن المصريين لا يصلحون للديمقراطية، مؤكدا بهذا ما تناثر من قبل من رئيسي الوزارة الأحمدين المتعاقبين: نظيف وشفيق!! ومع هذا فإن هذا النائب الذي طال شوقه قرر بعد فوات الأوان أن يخوض انتخابات الرئاسة, وأن يجمع توكيلات, وكذلك فعل رئيس الوزراء الأخير، وهكذا أصبح الرجلان يسعيان إلى العلاج في مستشفى لم يقبلا أبدا بإعطائه الترخيص, ولم يعترفا أبدا بشهادات ولا صلاحيات الأطباء العاملين فيه، وهكذا أصبح مفهوم الديمقراطية الذي استقر منذ “الأفلاطون” بحاجة إلى تعديلات في “الميكروفون”.
على صعيد ثالث فإن بشار الأسد -آخر عناقيد الاستبداد العرقي (ولا نقول العربي حتى لا يظن قارئ أنه خطأ مطبعي)- فاجأ التراث الإنساني بنص تمت صياغته بطريقة هيكلية خبيثة المعنى والدلالة، يقول فيه إن الوطن لمن يدافع عنه لا لمن يحمل جنسيته! وهكذا انتهي عهد المواطنين, وبدأ عهد المرتزقة, وأصبح لزاما على جمال عبد الناصر إذا استأذن من قبره ليخطب في جماهيره أن يبدأ خطابه بقوله: أيها الإخوة المرتزقة، بدلا من استهلالته الشهيرة: أيها الإخوة المواطنون!!
أما طلائع المدرسة البرغماتية والمكيافيلية في السياسة الأميركية المعاصرة فقد تبنت مفاهيم تجريبية جديدة لإعادة تعريف الانقلابات العسكرية، بعيدا عن الواقع والمنطق والقانون والفيزياء، وتبعا للسلوك الإقليمي في الخضوع للتوجهات الصهيونية لا للتركيب التشريحي والفسيولوجي والسياسي. فإذا كان الكائن يسير منذ رأيناه كالبطة ويتصرف كالبطة فليس هناك ما يمنع في الوقت ذاته من أن نوافقه بعد فترة على أن يسمي نفسه “عصفور الكناري” أو الكناري اختصارا وتدليلا، مع مساعدته تقنيا بكل إمكانات الفوتوشوب إلى درجة وضع صورة رأسه على جسد كناري يزقزق ويقضي حاجته سريعا فوق قبة البرلمان إثباتا لوجود برلمان!! ويتم الترويج لذلك العبث كله بناء على مفهوم استثنائي يقول إن أمن وسلامة إسرائيل جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الأميركي، ومن ثم فإن رضاها عن الانقلاب يمثل خطوة واستحقاقا أهم من الالتزام بالقانون الأميركي نفسه.
ومن العجيب أن هذا المفهوم الجديد شق طريقا واسعا وممهدا أمام المرشح الرئاسي ترامب الذي ستؤدي أطروحاته الجريئة على المدى القصير -حتى لو لم يصل- إلى مزيد من الانكشاف المكثف في الديناميات العميقة لأداء السياسة الخارجية الأميركية التي بنت جزءا كبيرا من مقومات نجاحاتها الساحقة فيما مضى على الخباثة والتمويه والتقية.
وبالمواكبة لهذا فإن رئيس وزراء المجر اندفع فأمسك دون استئذان ودون تكليف ودون إذن، بزمام مبادرة خيالية ليورط الاتحاد الأوروبي في عصبية دينية مسيحية مظهرية لا هي مطلوبة، ولا هي مستحبة، ولا هي قابلة للتحقق, بينما الخاصة يعرفون أن الرئيس السابق مباشرة للدولة الأوروبية التي تفاخر بفكرة العلمانية يعود بجيناته -ويا للمفارقة- إلى أصل مجري ويهودي، وكأن المجري الراهن يقف الآن بأثر رجعي ضد أعظم صعود للمجري السابق الذي وصل إلى منصب أفضل بكثير من منصبه في دولة أفضل كثيرا من دولته.
“يعرف العالم كله عن عقيدة الإسلام أنها تحترم اليهودية والمسيحية, لكنها لا تكلف نفسها مظهريات نفاقية تبدو فيها حريصة على بناء معبد هندوسي على حساب مصادرة واستنزاف أموال المسلمين!”
ولم يخل الأمر من سلوكيات متناقضة ظن أصحابها الطيبون المغرورون بالمظاهر الفاقعة أنهم يسابقون بها “العصرنة”, بينما هم في حقيقة الأمر يؤكدون للعالم إصرارهم الدفين على العنصرية، ومن ذلك ما حدث من الصخب المقصود والمبهرج بافتتاح معبد هندوسي في دولة إسلامية لا تظهر صورة السيدة الأولى فيها إلا بالنقاب الكامل الأسود، بينما يعرف العالم كله عن عقيدة الإسلام أنها تحترم اليهودية والمسيحية ومعتنقي هذه وتلك كأهل كتاب، وتستبقي لهم بيعهم وكنائسهم وصوامعهم، لكنها لا تكلف نفسها مظهريات نفاقية تبدو فيها حريصة على بناء المعبد الهندوسي على حساب مصادرة واستنزاف أموال المسلمين.
وهنا بالتحديد فإن أي طالب أوروبي في مدرسة ثانوية غير دينية سيتبادل مع قرينه أو مع صديقته النكات حول ما هو ممكن وما هو خيالي أو وهمي في مجال إعادة تعريف دين معروف ومحدد المعالم منذ 14 قرنا، وستكون هذه السخريات المتعاقبة والمضاعفة من قبيل اقتراح بناء كنيسة حداثية مع وضع محرقة جثث في مكان برج الأجراس، أو وضع نافورة راقصة في ذروة قبة الكاتدرائية، أو تحويل صالة المذبح إلى مرقص أو ملهى ليلي، مع إنتاج الكرتون و”الكويمكس” الموظف لهذه الإبداعات والتصورات، ونحن نعرف أن إبداع الشباب في هذا المضمار ليس له حدود ولا سقف.
ومن الجدير بالإعجاب والتنويه والاحترام أن الذين تباهوا بارتكاب هذا السفه في تلك الدولة العربية لا يزالون حتى الآن حريصين على ارتداء زيهم التقليدي دون أي تفريط، وهو الأمر الذي يقابله العالم السياسي والثقافي والاقتصادي بتقدير واحترام، فكأنهم بتصرفهم الهندوسي الأخير أرادوا تحقيق “المفارقة الفنية بالاحتفظ بملابسهم مع تبديل جلدهم”، مرسخين بهذا مفهوما شاذا وإن كان جديدا جدا للهوية. وقد حرصت -كما رأى القارئ- على أن أؤجل ذكر جوهر التشخيص نظرا لما حدث من الشذود البالغ في الإعلان عن هذا السلوك المستفز للهوية والوطنية معا.
ونأتي إلى الاضطرابات والتهويمات التي لا يزال الخطاب السياسي الانقلابي يصدرها في كل ساعة، فنجد أن مفهوم الدولة الواسع والعريض قد تم اختطافه ليعلق كلافتة منتهبة أو مغتصبة جهارا نهارا على سلوك أو تخرصات أي متحدث باسم الانقلاب، وهو عادة “متوسط المنصب” على أكثر تقدير. كما نجد أن الأرقام الدالة على المؤشرات الاقتصادية وفكرة التنمية قد اختزلت إلى ما لا يزيد عن تصريحات كوميدية مبهجة ترنو في أحسن أحوالها -بحياء وخجل- إلى أن تكون أقوالا وهمية مبالغة في التسفيه والتهوين والقفز السريع على الإحباط الذريع!!
وعلي سبيل المثال فإن الحفر -الموصوف بأنه العمل المعجز المنجز- الذي تكلف 65 مليارا يتمنى المخططون أن تتم استعاضتها أو استعادتها على مدى ثلاثين عاما أو عشرين في أفضل الظروف.. هذا الحفر الذي هو جوهر الإنجاز المسوق والمحتفى به، سرعان ما صور أمام اجتماع معلن لعلية القوم بألفاظ صريحة واضحة -في دقيقة عابرة ولدواعٍ مفهومة من الحماسة العصبية- على أنه لم يتكلف في واقع الأمر إلا عشرين مليارا فقط تم تحصيلها كلها بالفعل في يومين اثنين!!
وقد تواكب صعود عسكريين جدد من مستويات مختلفة -متقاعدة أو صاعدة- إلى بؤرة الشاشات مع نوع جديد من الخلط بين المفاهيم القانونية المرتبطة بالسياسة والسيادة والإدارة العامة بما كان كفيلا بأن يدين تصريحاتهم على نطاق واسع، ومن ثم يدفعهم إلى تقييدها أو التحفظ فيها، لكن الاندفاع المروع كان قادرا بطبعه على أن ينتصر للحماقات، وأن يصحب في انتصاره تغييرات مستحدثة على المعاني السياسية للمفاهيم المستقرة بما يكاد يعصف باستقرارها بل وباستقرار معنى وظائف القوات المسلحة نفسها، وذلك من قبيل الاضطرارات المربكة التي أوقعت فيها المحاكم العسكرية, وإدارات أخرى كبيرة كالهيئة الهندسية التي وجدت نفسها فى لحظة عابرة في مكانة المسؤول الأول والأخير عن تحقيق حلم الشفاء من مرض الكبد المصري بطريقة مختلفة (بالفاء) سرعان ما تبين أنها مختلقة (بالقاف).
“على مستوى التبعات المتوقعة المترتبة على التراخي المحبذ في إيقاف مجرم سوري عند أي حدود ما من المنطق أو المعقولية، قادت المنظمة الدولية شعبا متحضرا متفوقا مبدعا ثريا منتجا بأكمله إلى حالة من حالات الشتات”
وعلى مستوى التبعات المتوقعة المترتبة على التراخي المحبذ في إيقاف مجرم سوري عند أي حدود ما من المنطق أو المعقولية، قادت المنظمة الدولية شعبا متحضرا متفوقا مبدعا ثريا منتجا بأكمله إلى حالة من حالات الشتات, ثم ابتدأ الرؤساء ورؤساء الوزارة المتفلسفون يحاولون على طريقتهم فهم الفرق بين اللجوء والهجرة، ثم نقل هذا التفريق إلى صفحات القانون الدولي بتعسف، مع أن الخبرة السياسية لأي مواطن عادي تجعله يدرك ببساطة أن اللجوء قد يتحول إلى هجرة وقد لا يتحول، وأن الهجرة قد تبدأ بلجوء وقد لا تبدأ به، وأنه إذا كان لا بد من تنسيب الأمرين لبعضهما فإن اللجوء هجرة مؤقتة، والهجرة لجوء دائم, وهكذا فإن مسار الحياة هو ما يحسم الأمر وليس الخانات التي يملؤها ذلك المشرد الذي يعاني حالة من الضياع والموت تدفعه إلى القبول بأي متاح وليس الاختيار بين أمرين كلاهما غير مباح.
ومن المدهش أن نذكر أن الحضارة الإنسانية قامت على مبدأ تيسير القوانين في حالات الأزمات (وربما تسييبها بكل ما تعنيه كلمة التسييب، وهو المعنى الذي يظهر في الإنجليزية والفرنسية أكثر لينا وأبعد عما يرافق المعنى العربي بحكم تاريخه من بعض ظلال الفوضى)، وذلك كي تكون القوانين أكثر استيعابا للإنسانية، لكننا في المقابل أصبحنا نواجه هذا الأسبوع بعدد من الساسة ضيقي الأفق وقساة القلب يريدون تعديل القوانين وتقسيتها لتكون في الطرف الآخر من الطيف الإنساني، أي لتكون أكثر استبعادا بدلا من أن تكون أكثر استيعابا. ومن المدهش مرة أخرى أن يكون تبنيهم لهذا التوجه بناء على إلحاح خفي من اثنين من أباطرة العالم الثالث يطالبان بكل الوسائل والضغوط بألا تعطى الفرصة لرعاياهم (!!) للهروب من سجن الوطن الكبير اللذين قررا أن يحتفظا فيه برعاياهم حتى الموت.
محمد الجوادي