ما غاب عن خطاب الرئيس أهم مما جاء فيه
تاريخ النشر: 03/10/15 | 14:04سبق خطاب الرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة كلام واضح وكلام مبطن عن انه ينوي إلقاء قنبلة سياسية، لكن المتابعين عن قرب كانوا على علم بأن القنبلة تكبر وتصغر تبعًا للضغوط الدولية التي استدعاها الحديث عن قنبلة سياسية، وبالأخص لقاء كيري- أبو مازن، الذي كان له أن يحسم الحجم النهائي لقنبلة الرئيس.
لا نعرف بالضبط ما جرى في ذلك اللقاء لكننا نعرف ما قاله أبو مازن، ونعرف أهم ما لم يقله. هناك خطابات لا تقيم بما جاء فيها فحسب، بل وأكثر بما غاب عنها. وعوضًا عن سرد وتحليل ما جاء في خطاب فلسطين أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة يجب تسليط الأضواء على ما غاب عنه.
لم يعلن الرئيس عن حل السلطة الفلسطينية وتحميل إسرائيل مسؤوليات “دولة احتلال” وتحمَل مسؤولية مواجهة الاحتلال والنضال لإنهائه، الأمر من شأنه أن يقلب الأوضاع رأسًا على عقب، ومن شأنه أن يعيد قضية فلسطين إلى مكانها الصحيح كقضية تحرر وطني، ونضال من اجل التحرر الوطني.
لم يجزم الرئيس بإلغاء اتفاقيات أوسلو كما أشاع البعض، بل لمح إلى التزامه بها إذا التزمت إسرائيل ملوحًا بتهديد انه لن يلتزم بها إذا لم تلتزم إسرائيل. لا ندري كيف تلتزم إسرائيل باتفاقية كان يجب أن تنتهي عام 1999 بحل دائم. لا مكان لإذا الشرطية هنا، ولا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف، وإسرائيل لم تلتزم ولن تلتزم بالاتفاقية وهذا يعرفه الجميع. كان بالإمكان عرض كل الانتهاكات الإسرائيلية والإعلان عن إلغاء الاتفاق بكل ما يحمله ذلك من تداعيات محلية ودولية، وليس للفلسطيني ما يخسره في هذه الحالة، بل سيؤدي ذلك الى فتح آفاق جديدة مغلقة اليوم.
لم نسمع من الرئيس قولًا واضحًا بشأن التنسيق الأمني، الذي أصبح عاملًا مركزيًا في إطالة عمر الاحتلال، والذي أضحى إلغاؤه شرطًا مسبقًا لتقصير عمر الاحتلال. لا يمكن تفسير ردة الفعل الإسرائيلية الهادئة نسبيًا على الخطاب إلا لأن إسرائيل لا تقيم حسابًا للخطابات والتصريحات ما دام التنسيق الأمني قائمًا، وما دام يحمي الهدوء في ظل الاحتلال.
لم يدع أبو مازن إلى فرض عقوبات على إسرائيل وفرض المقاطعة عليها حتى تنصاع للقرارات والقوانين الدولية. كيف يمكن الضغط على إسرائيل إن هي لم تدفع أي ثمن لعدوانها وتجاوزها الدائم لكل الأعراف والمواثيق الدولية؟ كيف لحركة المقاطعة الدولية أن تتوسع وتقوى إن لم يرد حتى ذكرها في خطاب فلسطين الرسمي في الجمعية العمومية.
لم يهدد أبو مازن باتخاذ خطوات دراماتيكية لإنقاذ المسجد الأقصى واكتفى بوصف الحال وكأنه مراقب، بدلًا عن إنذار إسرائيل بان استمرارها بانتهاك حرمة الأقصى ستكلفها ثمنًا غاليًا مثل وقف التنسيق الأمني وإمكانية زحف مليوني نحو القدس أو دعوة الدول العربية والإسلامية لقطع علاقاتها بإسرائيل وغيرها.
لم يرد في خطاب الرئيس انه ينوي الاستقالة وأخلاء الساحة كما روَج الكثيرون في وسائل الإعلام وفي المجتمع السياسي الفلسطيني. هو لم يصرح بذلك ولم يلمح، رغم كل ما قيل عن ذلك وعن أن ذلك سيخلق أزمة سياسية كبيرة تستدعي تدخل دول العالم للجم إسرائيل إنقاذا للوضع. والحقيقة أن استقالة أو عدم استقالة الرئيس هي الأمر المهم، بل استقالة السلطة كلها والتحول إلى نضال تحرر وطني بدل حالة انتقالية فاشلة طال أمدها وانسدت آفاقها.
ما قاله الرئيس أبو مازن لم يكن خطوة صغيرة إلى الأمام، فكلامه عن إمكانية إلغاء الاتفاقيات مع إسرائيل جاء مشروطًا ومضبوطًا ومطمئنًا بأن الأمر سيكون متدرجًا وقانونيًا وسلميًا. حتى هذا الكلام لم نسمعه في الماضي ولكنه لا يلبي الحد الأدنى من طموح الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.
في الظروف السياسية الحالية وفي الأوضاع المحيطة في المنطقة وفي ظل تهميش القضية الفلسطينية وفي مواجهة التطرف الإسرائيلي المتزايد، لا تنفع الخطوات الصغيرة المدروسة والمحسوبة والمتوجسة، بل هناك حاجة ليس لخطوات في حدود نفس الإطار، بل لتحول في الإستراتيجية وتغيير جذري في التعامل مع الأمور والانتقال من خانة سلطة فاشلة كيانها يساهم موضوعيًا في المحافظة على واقع الاحتلال واللا حل القائم نحو إستراتيجية نضال تحرر وطني وما يلزمها من وحدة وطنية ونضال عنيد ضد الاحتلال ومن اجل تحقيق أهداف التحرر والاستقلال والعودة. لقد خاطب أبو مازن العالم كرئيس سلطة في أزمة وليس كقائد حركة تحرر وطني بلغة يفهمها الناس في كل مكان.
د. جمال زحالقة