وَعْيٌ فَسَعْيٌ ثُمَّ نَهْضَةٌ
تاريخ النشر: 31/05/13 | 12:22يُعتبر تعيين وتحديد نقطة البداية الصحيحة في أي عمل كان وفي شتى ميادين الحياة، شرطا ضروريا للوصول إلى المبتغى والمقصود، ولعل التفاوت في نجاحات التجارب وفشلها يقابله تفاوت آخر في تقدير نقطة البداية الصحيحة، فتكون درجة النجاح أو الفشل مقترنة بدرجة القرب أو البعد عن تلك النقطة.
على ذات المنطق، لا بد للساعين لتحقيق نهضة اقتصادية من تحديد نقطة البداية الصحيحة لتحقيق هذه النهضة.
لقد تحدث المفكر مالك بن نبي – رحمه الله – في كتاباته عن عوالم ثلاث يعيشها الإنسان: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. ويقصد بعالم الأفكار في مجتمع ما، مجموعة المعتقدات والمبادئ والقيم وأنماط التفكير .. أما عالم الأشخاص فيقصد به مجموعة العلاقات والنظم والقوانين التي تنظم حياة الأشخاص في هذا المجتمع. وأما عالم الأشياء فهو ما ينتجه هذا المجتمع من زراعة وصناعة وخدمات.. وناقش رحمه الله مسألة : بأي عالم من العوالم الثلاث علينا أن نبدأ لتحقيق النهضة، هل ستكون البداية من خلال البدء بإصلاح عالم الأشياء أولا ؟ أم من خلال البدء بإصلاح عالم الأفكار؟ أم أنه لا بد من البدء بعالم الأشخاص؟ وللإجابة على هذا السؤال، دعونا نتخيل قبيلة من الأدغال الأفريقية، بعالمهم الفكري المتواضع، وقد تم نقلهم إلى ألمانيا، وفي المقابل تم نقل الشعب الألماني إلى أفريقيا، ماذا سيحدث حينها ؟ النتيجة واضحة، وهي أن الألمان سيعمرون المناطق الأفريقية، بينما ستدمر القبيلة الأفريقية البدائية ألمانيا ببنائها وشوارعها وأشيائها… .
إذن عالم الأفكار هو الذي يخلق عالم الأشياء، والعكس ليس بصحيح. فعالم الأفكار يولّد العقلية الصناعية والروح الإنتاجية وحب المعرفة والعلوم، لتكون النتيجة عالم أشياء متطور. أما البدء بعالم الأشياء فهو كمن يضع المحراث أمام الثور أو كمن يريد أن يصبح صاحب علم من خلال "شراء" شهادة يعلقها على الحائط، فالبدء بعالم الأشياء قبل عالم الأفكار لا يعني سوى "استيراد" هذه الأشياء، فلقد رأينا البعض يريد أن يقيم حضارة من خلال استهلاك الأشياء التي أنتجتها حضارة الغير، فكانت النتيجة مدنيّة مشوّهة لا حضارة حقيقية!
ولكي نصلح عالم الأفكار لا بد من الوعي، فالوعي يمثل نقطة بداية البداية، وللوعي جذور وأسس لا بد من الارتكاز عليها، فلتحقيق نهضة اقتصادية لا بد للإنسان من أن يعي أن له دورا ووظيفة على الأرض وأن الذي كلفه بهذه الوظيفة هو خالقه وخالق هذه الأرض، وأن الالتزام بهذه الوظيفة على النحو الذي أراده الخالق ستحقق له حياة رخاء ونماء وتجنبه حياة ضنك وشقاء. فعلى الإنسان أن يعي أنه مكلف بعمارة الأرض واستثمار مواردها بالعمل والإنتاج، وأنه منهي عن تعطيل ما يملك من عمل ومال وأرض، وأنه منهي كذلك من إهدار الموارد فلا تبذير ولا إسراف، وأنه مكلف بمساعدة أخيه المحتاج ومنهي عن الاستغلال والاحتكار.. بهذا الوعي وبهذه القيم والمعتقدات ستكون النتيجة الحتمية نهضة اقتصادية مبرأة من النواقص التي قدحت بالنهضات الاقتصادية التي شهدتها البشرية في القرون الأخيرة.