قداسة البابا ولجان الأهالي
تاريخ النشر: 03/10/15 | 17:55خلال الأسابيع الأخيرة أثبت أهالي طلابّنا في المدارس المسيحيّة في قرانا ومدننا المختلفة – يافا والرّينة والرّملة والرّامة والنّاصرة ويافة النّاصرة وشفاعمرو والجشّ وعبلين وعكّا وكفركنّا وعيلبون وكفرياسيف ومعليا وحيفا – أنّهم شبكة الأمان الأهمّ لهذه المدارس، لا بل إنّهم يشكّلون، هم وأولادهم، الأعمدة الأساسيّة التي تقوم عليها هذه المدارس. كما أثبتت قيادات بعض هذه المدارس أنّ تداخلها مع الأهالي ومع المجتمع، بأهله وبمؤسّساته وبشبابه، يُحولّها إلى مدارس أهليّة بكلّ ما للكلمة من معنى.
تابعتُ خلال الأسابيع الأخيرة نموذجًا لافتًا للانتباه في مدينتي حيفا (ليس لديّ أدنى شكّ بوجود نماذج مُشرّفة في بلداتنا الأخرى)، تمثَّل في بناء مجموعة كبيرة من النّاشطات والنّاشطين من مديري ومعلّمي بعض المدارس، أهالي طلاّب من كافة المدارس، ممثّلي منظّمات مجتمع مدنيّ، مهنيّين في مجالات الإعلام والنّضال الجَماهيريّ، وشباب وصبايا غيورين على مصلحة طلابّنا ومجتمعنا. نجحتْ هذه المجموعة، بسرعة كبيرة، في بناء الـ”نحن” المُجتمعيّ الحيفاويّ من خلال وضع المصلحة العليا فوق كلّ المصالح ومن خلال الاحترام المتبادل والاعتراف بقدرات كلّ من عضواتها وأعضائها ومن خلال العمل الدّؤوب – كانت نشاطاتها تبدأ في الصّباح الباكر وتنتهي “على وِجِي الصُّبِح” التّالي، وهكذا دواليك.. هذا التّنوّع في المجموعة سمح لها بتجميع المعلومات والمعارف والقدرات والمهارات من مجالات مختلفة ليصبح الاختلاف في التوجّهات رَحْمًا لولادة أفكار جديدة إبداعيّة أغنتْ نضال المدارس المسيحيّة محليًّا وقطريًّا وعالميًّا. بدأتْ هذه المجموعة كمجموعة إعلاميّة محليّة في حيفا، وسرعان ما أخذت دورًا مركزيًّا في تحريك الإعلام القُطريّ والعالميّ. هذا من ناحية. أمّا من النّاحية الأخرى فأضحت هذه المجموعة حجرًا أساسيًّا في تعبئة النّاس وتنظيمهم في حيفا وفي التّنسيق مع أخواتها من المجموعات في بلداتنا الأخرى.
شدّني نجاحُ هذه المجموعة في بناء الثّقة والوَحدة بين عضواتها وأعضائها، كما شدّتني الرّوح الإيجابيّة داخل صفوفها، ففي معارك كهذه هناك “طلعات” و”نزلات”. كانت “الطّلعات” هي الوجه الغالب على عمل هذه المجموعة، وفي حالات شعور أحد أفرادها بالإحباط هبّ كثيرون لرفع معنويّاته والأهمّ من ذلك لطرح الأفكار العمليّة للخروج من الإحباط.
أعتقد أنّ وجود مديرين ومسؤولين آخرين من بعض المدارس في هذه المجموعة وأخذهم دورًا فاعلاً وقياديًّا (مع غيرهم) ونجاحهم في بناء شراكة حقيقيّة مع الآخرين، تُشكّل أحد أهمّ الأسباب في نجاح المجموعة. أعجبتني العلاقة والدّيناميكيّات بين أحد المديرين وسائر أعضاء المجموعة. رأيتُ كيف كان ذلك المدير يقترح ويشجّع ويتعلّم ويتبنّى أفكار الخبراء من داخل المجموعة (في مجال الإعلام، مثلاً). رأيتُه، أيضًا، يُطري عليهم/نّ، وكم كان كريمًا هذا المدير، وكم كانت كريمةً هذه المجموعة، في الإطراءات. أظنّ أنّ تواضع هذا المدير ونجاحه في بناء الشّراكة الحقيقيّة مع عضوات وأعضاء المجموعة أثمرا ثمرًا طيّبًا تمثّل في بناء ثقتهم به وبأفكاره وبمعلوماته. لمستُ الاحترام الذي يُلاقيه مديرنا هذا من أعضاء المجموعة من خلال طريقة توجّههم إليه، فأعضاء المجموعة ينادون بعضهم بعضًا بأسمائهم “حاف” دون ألقاب، لكن عند توجّههم إليه (وإلى ممثّل إحدى الجمعيّات الفاعلة في هذا النّضال) تجدهم يستخدمون كلمة “أستاذ…”، وهل هناك أجمل وأرقى من كلمة “أستاذ” في مخاطبة إنسان يحظى بالتّقدير.
في اعتقادي، ساهمت هذه المجموعة، كما المجموعات الأخرى في حيفا وفي غيرها من بلداتنا، في بناء كنز اجتماعيّ أعطى الأهالي والمجتمع شعورًا بأنّنا “قادرون” على الصّمود وإحقاق الحقوق، وفي دعم الأمانة العامّة للمدارس المسيحيّة في نضالها. هذا الحراك الأهليّ بدا ككرات من الثّلج المُتدحرج الآخذ بالكبر يومًا بعد يوم. في تقديري، لو استمرّ الإضراب لكانت شاركتْ في مظاهرة تل أبيب (التي كان من المفروض أن تكون يوم الاثنين الماضي) آلافٌ مؤلّفةٌ من الأهالي والطّلاّب ومن جماهير شعبنا ومن المتعاضدين من اليهود وغيرهم.
لم ينتهِ نضال المدارس المسيحيّة؛ إنّها بداية الطّريق فحسب، وهذه الطّريق طويلة جدًّا. وهنا يُطرَح السّؤال: كيف يمكن لمدارسنا هذه ولمجتمعنا الاستفادة من التّجربة الجبّارة الموصوفة أعلاه ومن التّجارب العديدة في منطقتي المركز (الرّملة ويافا واللد) والشّمال؟ كيف يستطيع المسؤولون في هذه المدارس على المستويات المحليّة (المدرسة والبلدة الواحدة)، وعلى مستوى الأمانة العامّة، أن يجنوا فائدةً من هذه التّجارب؟ كيف يمكن لهذه التّجارب أن تُستثمَر في المفاوضات القريبة مع الحكومة وفي تركيبة اللجان التي ستقام وتعمل خلال الأشهر القليلة القادمة لغرض إيجاد حلولٍ لأوضاع المدارس المسيحيّة؟ وكيف وكيف وكيف…؟
تخيّلوا معي عزيزاتي وأعزّائي جَلسةً في الكنيست و/أو في لجنة المعارف البرلمانيّة و/أو في إحدى اللجان التي ستقام قريبًا. يقف في هذه الجلسة ممثّلٌ عن الأمانة العامّة ويؤكّد “أنا أمثّل 47 مدرسة مسيحيّة … وصلتُ اليوم مع شركائنا الّذين سيعرّفون عن أنفسهم”، لتقف بعده إحدى طالباتنا وتخاطب الموجودين بقولها “أنا أمثّل 47 مجلس طلاّب و33,000 طالبٍ…”، لتقف بعدها إحدى الأمّهات وتقول “أنا أمثّل 47 لجنة أهالٍ تمثّل 52,000 وليّ أمر لهؤلاء الـ33,000 طالبٍ…”، ليقف بعدها أحد الإخوة معرّفًا بنفسه “أنا ممثّلٌ عن الحراك التّربويّ-التّعليميّ في حيفا (المنبثق عن اللجنة الإعلاميّة) وممثلٌ عن الحراك التّربويّ-التّعليميّ في 15 بلدة، ونحن نمثّل مئات الآلاف من المواطنين”، وليقف ممثّل عن القائمة المشتركة ويقول … ثمّ يتابع ممثّل الأمانة العامّة بقوله “الآلاف ممن نمثّلهم أنا وشركائي يقفون في هذه اللحظات خارج هذا المبنى دعمًا لمطالبنا/مطالبهم، وهم في انتظار ما سيتمخّض عن هذا الاجتماع”. من يستطيع في الوزارة أو الدّولة الاستخفاف بهكذا شراكة وبهكذا تنظيم وبهذه الجماهير؟! ستكون لهذا التّنظيم ولهذه الشّراكة تأثيراتها الكبيرة على الحكومة وعلى الرّأي العام. هذا من ناحية. أمّا من النّاحية الأخرى، فيمكن أن تساهم هذه الشّراكة في بناء إجماع حول المطالب بين جميع الشّركاء ووضع الخطوط الحمراء التي لا يمكن تخطّيها في المفاوضات. بذلك، ستساهم الشّراكة في اتّخاذ مسؤوليّة جماعيّة عن المفاوضات وعن نتائجها.
لكي ينجح النّضال هناك حاجة ماسّة إلى مأسَسة هذه المبادرات الظّرفيّة. وهنا يُُطرَح السّؤال الذي يرافق المدارس المسيحيّة خلال العقود الأخيرة: ماذا عن دور الأهالي المنظّم في حياة هذه المدارس وفي حياة أبنائهم- طلاّب هذه المدارس؟ جرت العادة في إسرائيل أنْ ينتظم الأهالي من خلال “لجان الأهالي”. هل حان الوقت لتأسيس مثل هذه اللجان في المدارس المسيحيّة؟ في الإمكان تبنّي عدّة توجّهات (مقاربات) عند الإجابة عن هذا السّؤال. سأعدّد أربعة منها وأركّز على الأخيرة فيها: التّوجّه القانونيّ، التّوجّه التّكتيكيّ، التّوجّه الإستراتيجيّ والتّوجّه البابويّ.
1. التّوجّه القانونيّ: تُعتبر لجان الأهالي حقًّا في إسرائيل ولا يستطيع أحدٌ مصادرةَ هذا الحقّ. هذا الأمر يسري على المدارس “المعترف بها الرّسميّة” كما على “المدارس المعترف بها غير الرّسميّة” ومن ضمنها المدارس المسيحيّة. تستطيع المدرسة، مُمثَّلةً بمديرها وبطاقمها، أن تبادر إلى إنشاء لجنة أهالٍ من خلال سيرورة انتخابيّة ديمقراطيّة واضحة المعالم. في حال عارضت المدرسة إقامة لجنة أهالٍ، يستطيع الأهالي أنفسهم أخذ زمام المبادرة. هذه الحالة الثّانية محتملة، ولكنها قد تكون سيفًا ذا حدّين، لأنّها قد تُدخل المدرسة والأهالي في صراع يكون كلا الطّرفين خاسرًا فيه. من المحبّذ طبعًا تبنّي الطّريقة الأولى، كونها تبني شراكة حقيقيّة بين الأهالي والمدرسة، أمّا الطّريقة الثّانية فتبقى واردةً كحقٍّ أساسيٍّ للأهالي.
2. التّوجّه التكتيكيّ: الأشهر القادمة هي أشهر حاسمة بالنّسبة إلى المدارس المسيحيّة، وهي بحاجة إلى الدّعم المنظّم لغرض التّأثير على الوزارات المختلفة وعلى الحكومة ولغرض مواجهة الضّغوط التي ستُمارس عليها من طرف وزارة المعارف والحكومة. تستطيع لجان الأهالي المُنتَخَبَة لعب دور الشّريك الفاعل في النّضال و”الظّهر” القويّ للمدارس. كما يمكنها اتّخاذ خطوات نضاليّة قد لا تكون متاحة للمدارس وإداراتها.
3. التّوجّه الإستراتيجيّ: هذا التّوجّه يعتمد على فلسفة مفادُها أنّ الشّراكة الحقيقيّة المتواصلة بين المدرسة والأهالي والطّلاّب والمجتمع وبين الأجسام المُمثلّة لكلٍّ من هذه الأطراف الشّريكة تُشكّل أرضيّة خصبة لبناء المجتمع والمجتمع المدرسيّ السّليم. الكلّ سيربح من هذه العلاقة، وخصوصًا طلابّنا – “محور العمليّة التّربويّة-التّعليميّة”. يرى هذا التّوجّه في أوجه الاختلاف بين الأطراف أمرًا صحِّيًّا، لكنّه يتعامل معها بحكمة ورويّة آخذًا بالمبدأ القائل: “الاختلاف في الرّأي لا يُفسد للودّ قضيّة”. يُعتبر “وَجَع الرّاس” النّابع من الاختلافات في وجهات النّظر صحِّيًّا، كما في أيّ علاقة.
4. التّوجّه البابويّ: هذا التّوجّه منسوب من ناحيتي لقداسة البابا فرنسيس ولفكره ولممارسته كما أفهمها. بما أنّنا نتعامل هنا مع مدارس مسيحيّة، فقد يكون هذا التّوجّه هو الأهمّ للإجابة عن سؤالنا حول لجان الأهالي، وذلك باعتبار قداسة البابا حبرًا أعظم وقدوة للكنائس (الكاثوليكيّة على الأقلّ). أتابعُ أخبار البابا فرنسيس وبعض ما يُكتب عنه من باب اهتمامي بمجالات القيادة والتّغيير في المنظّمات والتّغيير الاجتماعيّ. منذ لحظة انتخابه لهذا المنصب فاجأ قداسة البابا، ولا يزال، الجميع بأقواله وبأفعاله. لا يُسلّم هذا الرّجل بالتقاليد أو بالموجود والمتّبع، كما لا يستسلم أمامها. إنّه رجل التّغيير. يبدأ التّغيير بمكان وبنمط معيشته الشّخصيّة وحتّى بالسّيّارة التي يركبها؛ هل رأيتم بابا يركب سيّارة فيات 500؟ بتواضعه، اختار هذا الرّجل العظيم سيّارة الفيات 500، بدل الليموزين، ليطلّ منها مبتسمًا في أوجه بنات وأبناء رعيّته (والنّاس جميعًا)، فيبادله هؤلاء البسمات والمحبّة والتّقدير. ويستمرّ التّغيير لدى البابا في نمط قيادته وإدارته الفاتيكان والكنيسة، وفي طريقة اتّخاذه القرارات، وفي علاقاته وتعامله مع النّاس، كلّ الناسّ، من مسيحيّين وغير مسيحيّين، وبشكل خاصّ المستضعفين. قام هذا البابا، على سبيل المثال، بغسل أرجل النّاس على اختلاف هُويّاتهم وجنسيّاتهم ودياناتهم، فغسل أرجل النّساء كما أرجل الرّجال، وأرجل المسلمين (ومن بينهم حامد الليبيّ) كما أرجل المسيحيّين، وأرجل أصحاب الاحتياجات الخاصّة وأصحاب الإعاقات المختلفة والمساجين وغيرهم. يكشف لنا جيفري كريمس في كتابه “القيادة بتواضع: 12 درسًا في القيادة من البابا فرنسيس” فلسفة وممارسة قداسته وأركانها، تبدأ هذه الأركان بالتّواضع، وتمرّ بالتّوجّه الإيجابيّ نحو الآخرين، وبجماعيّة اتّخاذ القرارات وبالمشاركة وبتمكين النّاس وغيرها. لفلسفة ونمط قيادة البابا علاقة وثيقة بموضوعنا حول لجان الأهالي. تخيّلوا أيّها الأعزّاء والعزيزات ماذا سيكون ردّ قداسته لو سألناه عن رأيه بموضوع انتخاب لجان الأهالي في المدارس المسيحيّة. أخال ذلك الإنسان بعظمته المتواضعة سيطلّ علينا من خلال نافذة سيّارة الفيات 500، وبابتسامته المعهودة، ليعطينا إجابته اللبقة والواضحة في هذا الشّأن: هذه الخطوة “الكبيرة في إقامة لجان الأهالي” هي خطوة “صغيرة على الكنيسة التي أحلم بها وأسعى جاهدًا مع آخرين كثيرين لتحقيقها”. هكذا أتخيّلُ شخصيًّا أن يكون ردّ قداسته. كيف تتخيّلونه أنتم، وماذا ستفعلون بهذا الشّأن؟
د. إلياس زيدان