عبلين تحتفي بالأديب جاسر داود
تاريخ النشر: 05/10/15 | 21:29احتفاءً بالأديب جاسر داود، في توقيعِهِ كتابِهِ القصصيِّ (خلود جذور الوطن)، والصّادر عن دار الوسط اليوم للنشر والإعلام عام 2015، غصّت الباحة بالحضورِ؛ مِن ضيوفٍ ورجالاتٍ وأدباء وأصدقاء من عبلين والبلاد المجاورة، في رحاب بيت القديسة مريم بواردي/ شارع الكنائس في عبلين، بتاريخ 30-9-2015. وقد استهلّ اللقاءَ بكلمةٍ ترحيبيّةٍ عريفُ الحفل الإعلاميّ الأديب نايف خوري من حيفا، تلتْها صلاة مباركة من الكهنة الحاضرين بمناسبة عيد الصليب، وترتيلة (خلِّصْ يا ربّ شعبَكَ وبارِكْ ميراثَك)، تلتها كلمة الشيخ حسن حيدر إمام مسجد عبلين القديم، ثمّ قدّم الأديب جاسر داود كتابَهُ هديّةً لمُعلّميهِ ومُربّيهِ؛ المربية فاطمه عمر عثمان، والمربّي يوسف مارون، والمُفتش المربّي عدوي من طرعان. ثمّ تمّ سماع قصيدةً للأستاذ جاسر بصوت الكاتبة دينا سليم حننحن المُقيمة في استراليا، تلتها كلمة الأديبة آمال عوّاد رضوان حول المُنجِزَ والمنجَز، ثم قصيدة للشاعر زهدي غاوي من كفر قرع، وقدّم د. محمّد هيبي من كابول قراءةً للكتاب، وألقتْ لميتا كارم عوض زجلية تراثيّة (مديحة مارجريس) من إعداد الأديب جاسر داود بكتابة (سيرة القديس مار جريس)، وقدّم الأديب زهير دعيم كلمة الكاتب والناشر اللبنانيّ أحمد فوّاز، ثمّ كلمة الأستاذ جاسر داود، وقدّم أحفاد الأديب جاسر داود هديّة تذكاريّة لجدّهم، وفي نهاية الحفل تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
مُداخلة آمال عوّاد رضوان: في هذه الآونةِ المكشوفةِ سافِرةِ الرّأسِ، تتفتّحُ السّمواتُ، ونمْضي صوْبَ قمّةِ أفئدةٍ خضراءَ، عسانا نُكحّلَ عُيونَنا بقلعةِ الكرامةِ الشّامخة، حيثُ لا وجعٌ ولا تنَهُّدٌ.
في هذه الآونةِ العاريةِ مِن حيائِها، نحترقُ في حَشا الحُلمِ ونحترفُ الحزنَ، وتُؤرجحُنا جدائلُ الحُروفِ المُحنّاة، ونتماوَجُ مَغمورينَ بضِياءِ سَلامٍ وهْمِيٍّ، وبكلِّ أسفٍ، يقفُ البعضُ على أقدَامِ الابتذالِ الهوْجاء، فينزلقونَ إلى قعرِ الهاوية، ويَتعكّزُ بعضُهم على أقدامِ اعتدالٍ عرجاءَ، تَلكُزُها عُكّازُ استحالةٍ مَطليّةٍ بأكذوبةٍ، ويَمضون!
مَجاعةُ الظُّلمةِ باتتْ تَغشى قلوبَنا، وتُغفِلُ بَصائرَنا عن مُعاينةِ الحّقِّ، فيُساورُ الغرورُ مُعظمَنا، فهل أدْعى لنا مِنَ العودةِ إلى وطنِ الأحلام، حيثُ روابي الحنينِ ومَغارات الماضي، لنَكشِفَ معًا الحجابَ عن مآتي الأيّام، وعن صَدى أسرارِ الحياةِ النّفيسةِ الكريمة؟
أيا أستاذي الغالي جاسر داود! أنتَ المَسكونُ باليَقظةِ، والغارقُ في كينونةِ الإنسانيّةِ، لا زلتَ تحتفظُ بمفتاحِ جنّتِكَ، ولا زلتَ تفتحُ بابَ الكلمةِ دونَ ارتباكٍ.
نحنُ تلامذتُكَ لسنا ننساكَ، حينَ كنتَ لنا صديقا صادقا، فكنتَ تسْكُبُ في كؤوسِنا روحَكَ الفاضلةَ العطوفةَ وبكلِّ الصّدق، وها أنتَ اليومَ صرتَ تصرفُ جُلَّ وقتِكَ مع ذاتِكَ، في سَكينةِ الوَحدةِ، وكراهبٍ تتنسّكُ في خلوتِكَ، وتمضي فيي فضيلةِ التأمُّلِ العذب، بعيدًا عن الانقباضِ والكآبةِ، فما أقعدَكَ مرَضٌ، وما كنتَ رهينَ عجز الحركة، بل تابعتَ دراستَك الأكاديميّة، لتكونَ مثلًا حيّا وثابتًا لا يتزعزعُ أمام وجهَ أعاصيرِ الوجع، ولا أمام رياح الانكسار، فانتصرتَ على عجزكَ الجسديّ الذي ألمَّ بكَ، وما خضعتَ وما انحنيتَ ولا انكسرتَ، وقد اتّكأتَ على إيمان ودعم نصيرتِكَ الزوجة المُحبّة الوفيّة (سيدر أمّ إلياس)، ولم تتوانَ أبدًا في الارتقاءِ بروحِكَ وأرواحِ مُريديكَ الإبداعيّةِ، وما زالَ فمَكَ طافِحًا ببسمةِ المَسرّة، تساعدُ كلَّ من يتوجّهُ إليكَ طالبا الاستشارة والمعونة لغويَّا وإبداعيّا، تمامًا، كما كان طيب الذكر شاعرنا نجيب خليل!
سعدتُ بهاتفك الأول حين دعوتني إلى بيتك، لتستشيرني حول إصداراتك، وكيفية تحقيق مشروعك، وكانت سعادتي عارمة في أوّل فرصة لي في ردّ بعض معروفك عليّ كتلميذة، فساهمت في مراجعةِ وإنجاز إصداراتك في الوسط اليوم للنشر والإعلام، فكان الأوّل بعنوان “ستنا مريم”، والثاني “مارجريس” وهذا هو الثالث “خلود جذور الوطن”.
أستاذي الغالي جاسر، أتمنّاك على الدّوام باذلًا صِدقَكَ أمامكَ، وبأكثر قدرة على التغريد، وإضافة قيمة حقيقية لمحراب الإبداع، ويُسعدني اليوم أن أردَ بعض أفضالك في إنجازاتك وتحقيق أهدافك المتجددة، وتقديم ما يُضيفُ قيمة ذات شفافية وطاقة بناءة، تعمل على تحقيق الحق العادل أساس الحياة الطيبة، لأنّه عندما يغيبُ العدلُ، نفقدُ ثقتنا ببعضِنا وأنفسِنا، لكنّكَ أستاذي غرستَ بأرواحِنا بذور التضحية والمحبّة والوحدة، ليكونَ الوطنُ مُجدِيًا نفخرُ به في مِحراب العِلم وساحةِ العمل.
أستاذي الغالي جاسر داود، قال جبران: (ما العظيم بالمقام/ إنّما المجد لمن يأبى المقام)، وأنتَ لا يليقُ بكَ إلّا المجدُ والكرامة، فلك المجدُ.
مداخلة د. محمد هيبي بعنوان: جاسر داود يُخلّدُ جذورَ الوطن! أسعد الله مساءكم بكل المحبة والخير.
نلتقي اليومَ، أحبّةً وأصدقاء لقاءَ أدبٍ يدعو للمحبة والخير والجمال، لقاء الوطن بأبنائه الأوفياء، ولقاء الثقافة والأدب، الأدب الصادق الملتزم بالوطن وهمومه، يدعو للوفاء له وعدم التفريط بذرة من ترابه. فما جرى لن يتكرر، والمستقبل واعد إن شاء الله، ما دام لدينا هذا الجمع الغفير من أبناء الوطن الأوفياء، وهذا النموذج الخيّر من الكتّاب الحريصين على شعبهم ووحدة أبنائه، وعلى أرضه وتاريخه وتراثه وذاكرته.
أخي وصديقي جاسر داود، صديقي من أيام الصبا، أيام الدراسة الثانوية، يوم كنا نختلف إلى مدارس حيفا التي زودتنا بالوعي الذي كان ينقصنا، بعدما زرع آباؤنا وأمهاتنا في أعماقنا، حبّ الوطن والوفاء لترابه. في حيفا، وقد كنا في سنتنا الدراسية الأولى في المرحلة الثانوية، عرفنا النكبة الثانية، نكسة حزيران 67، تلك الهزيمة التي قصمت ظهورنا جميعا، ولكن، كصِبْية في بداية عهدهم بالوعي، فتّحت تلك الهزيمة عيوننا وعقولنا على أنّ لا معنى للحياة مع اليأس، ولا معنى لليأس مع الحياة، وعلى مسؤوليّات ضخمة تنتظرنا.
جاسر وأنا وأمثالنا من أبناء القرى الجليلية الذين تعلمنا في حيفا، كان بادئ الأمر ينطبق علينا المثل الذي يقول: “فلاح ونزل عَ مدينة”، ولكنّنا بدأنا شيئا فشيئا نصحو. فحيفا ببحرها وكرملها، بشوارعها وأسواقها، بأحيائها الحديثة، وتلك القديمة التي جاء منها إخوة لنا وزملاء، حيفا هذه المرأة الجميلة التي تتسفّع على الشاطئ، صحيح أنّها سحرتنا بمفاتنها وفتحت عيوننا على ملذّات الحياة، ولكنّها فتّحت عروقنا ومسامات جلودنا على مصاعبها أيضا، وخاصة على هموم الوطن وضرورة الحفاظ عليه وعلى وحدة أبنائه.
أخي جاسر، يسعدني أن أقف اليوم لإبارك لك كل إنتاجك الأدبي، فهذا الكتاب ليس الأول، ولن يكون الأخير إن شاء الله، ولكنّي أباركه بشكل خاص، لأنّه يُخلّد جذور الوطن، فالكتابة وطن، و”خلود جذور الوطن”، هو الوطن، الوطن بالوطن وللوطن، وكتابُك هذا، بستان جليليّ يحتضن ثلاثين شجرة زيتون جذورها ضاربة عميقا في أرض الوطن، فالزيتون وطن، وجذوره تُخلّد جذور الوطن. والزيتونة شجرة لا شرقية ولا غربية، فهي معلم فلسطيني جليلى، شجرة لها هيبتها الوطنية والشعبية، ولها نكهتها التي لا يمكن فصلها عن نكهة الزعتر الجليلي المعجون بزيت الزيتون المعصور في موسمه، تغمر بهما ستّي جليلة، طيب الله ثراها، خبز القمح وتحمّصه في طابون الحارة المشاع لكل أهلها، تحمله معها زادًا للكادحين أيام الحصيدة، يأكلونه بين غمر وغمر يحصدونه من القمح أو الشعير، أو وهم يقلعون العدس والكُرسنّة، أو يأكلونه تحت عرق من عروق الزيتون، يكتّونهُ ويجمعون حباته الخضر والسود بعرقهم ودمائهم الحمراء وصفاء قلوبهم البيضاء. حبّات الزيتون تسعدنا بلونها وطعمها وزيتها ونكهة مذاقها. والأهمّ من ذلك أنّها تُسعدنا بجَمْعة قطافها.
ثلاثون قصة قصيرة، هي ثلاثون تعويذة، على أبنائنا أن يعلّقوها أمانة في أعناقهم، ويحفظوها لتحفظهم. فهي تعاويذ مكتوبة بسحر تراب الوطن المجبول بدماء آبائنا وعرق أجدادنا. فمن حقّ هؤلاء علينا أن نحفظ أثرهم وذاكرتهم لننقلها الى أجيال قادمة، لنعيشَ في الوطن، وليعيشَ الوطن فينا إلى الأبد. من سطور المقدّمة بدأت أشعر بالدفء يملأ قلبي، فشممت رائحة الأم/ الأرض، ورائحة الفلسطيني يستعطف الأمّ والأرض، وكلاهما سيّان، يسألهما الرأفة بالأولاد، بنا، فنحن بعد ما اقترفه الأشرار من اغتصاب الأرض، وما اقترفناه بأيدينا من خوف ورحيل، لم يبقَ لنا إلّا حضنها الدافئ ليخلّصنا. فهي كما وصفها جاسر، الأحقّ بحفظ دمائنا بعد رحيلنا. يقول في المقدمة: “أرضي تصرخ لأنّها تأنف من رائحة دَمِ الأشرار، أرضي أصبحت مريضة لأنّ في داخلها نتنة الأوساخ، أرضي تشبع من عَرَقي المتساقط مع الفأس الذي يغسلها من الأقذار. أرضي تفرح عند شربها لِدمي، لأنّها هي التي وهبَتني هذا، وهي الأحقّ بحفظه إلى الأبد”.
أسباب كثيرة تدفع أخي جاسر للكتابة: الروح الوطنية المتّقدة في أعماقه، والتمسّك بالوطن والحفاظ على سلامته ووحدة أبنائه، والحفاظ على التاريخ والتراث من الضياع، والبحث عن مستقبل أفضل يمسح غبن الماضي. كلّها دوافع مشروعة ومقنعة، ولكن، لأصدقكم القول، الدافع المباشر لكتابة هذه المجموعة القصصية بالذات، كما أراه لدى جاسر، هو نفس الدافع لديّ، ولدى الكثيرين من كتّابنا في هذا الجيل، إنّه الخوف من تشتّت الذاكرة الجمعية وضياعها، لأنّ ضياع الذاكرة وعزل أجيالنا الشابّة عنها، هو أكثر ما يسعى إليه أعداء شعبنا وأعداء قضيته العادلة، من الداخل والخارج على حدّ سواء، ولذلك فهو أكثر ما يسعى جاسر وغيره من الشرفاء الأوفياء للوطن، لتثبيته وترسيخه وتخليده.
من هنا، وأنت تقرأ قصص الكتاب، تشعر أن الكاتب لا يجد راحته إلّا في العطاء، وفي تذكير أبناء وطنه أنّ لنا وطنا مسروقا يجب استعادته وفي الوضع الراهن على الأقلّ، يجب علينا الحفاظ عليه في القلب والذاكرة. تَمسّك جاسر في قصصه ببساطة اللغة التي تُعبّر عن بساطة الفلسطيني الصادق؛ استغلّ أعداؤه صدقه وبساطته فخدعوه وجرّدوه من أرضه. والتزم ببساطة السرد ليكون هو الراوي الذي يخاف على أجيالنا، فقد أثقلت ذاكرته تلك الحكايات التي حملها سنين طوال، ليدفقها الآن بين أيدينا، أمانة في أعناقنا ننقلها لأجيالنا القادمة التي يريد لها أن تُحقّق ما عجزنا نحن عن تحقيقه.
وقد التزم وحدة الموضوع ووحدة الموقف وصلابته، بدون تردّد أو تأتأة. أما الشكل فللحقيقة، لم يهتمَّ به كثيرا، ربما لأنّ الأمانة التي يحملها على ظهره، والمفتاح الذي يحمله في عنقه، ونقلَهما إلى أجيالنا، كان همَّه وشغلَه الشاغل. لهذا السبب نراه لا يهتمّ كثيرا بالبناء الفنيّ لقصصه وأحيانا لشخصياتها، بقدر ما يهتمّ بالأفكار التي يُحمّلها لتلك الشخصيّات. ففي قصة “المفتاح” مثلا، يُحمّل الطفل الفلسطيني أكثر من طاقته، فالطفل الذي ما زال لا يعرف شيئا عن المفتاح لصغر سنّه، يسأل جدّته عنه، ويُناقشها أيضا في موضوع اجتماعي، الفرح بالمولود الذكر والحزن للأنثى. وكأنّ “جاسر” فيما يُحمّله لهذا الطفل، لا يُريد له الخروج فقط من ثوب العادات البالية، وإنّما يقول له: “هيّئ نفسك، تنتظرك مسؤوليات جسام، جهّز نفسك لحملها، فبحملها تبني مستقبلك ومستقبل وطنك، مستقبل مجتمعك وشعبك وأرضك”. وعليه، فالمضامين التي رمى إليها جاسر في كتابه، هي ما استحوذ على تفكيري وخطف اهتمامي. “جليليتي” في القصة الأولى، شاهدة على التاريخ، تنتظر، ولا يتغيّر موقفها مهما طال الانتظار، ولن تقترن إلّا بجليلي يستحقّها. ما يعني التمسك بالوطن والإصرار على العودة إليه والاستمرار فيه، فالجذور ما زالت هناك، ولا بدّ لها أن تنمو من جديد.
وقد اهتم بالوحدة الوطنية رغم تعدّد الأديان. المسيحية كانت وما زالت تنادي بالتسامح، والتسامح لا يكون إلّا مع الآخر، الإسلام كان وما زال ينادي بحسن المعاملة والتعامل مع الآخر، إذن أين المشكلة؟ المشكلة ليست في الدين، بل المشكلة في الإنسان، وجاسر يقول ذلك بشكل واضح في أكثر من قصة، ففي قصة “جليليتي”، يقول على لسانها: “لن أبني فوقك كنيسة أو جامعًا، بل ستبقين شاهدة على هذا التاريخ الذي لم يرحم أبناءنا من تشتت وقهر واغتصاب الأرض ولقمة العيش”. وهذا يُؤكّد أمورًا كثيرة تتعلق بحياتنا كأقلية قومية في هذه البلاد، ولكن أهمّ ما يشغل بال جاسر وفكره، هو نبذ التعصّب الديني والحفاظ على وحدة هذه الأقلية والحفاظ على ذاكرتها الجمعية. وللسبب نفسه يحضّ أجيالنا على العلم، “في هذه البلاد ليس لنا حليف إلّا العلم”، كما ورد في قصة “الحكيمة … ولو بَعُدت”. وهذا بالضبط، ما قاله لي أبي ذات يوم!
وشخص مثلي أو مثل كاتبنا- أطال الله عمره- عندما يفكر بالموت وبنهايتنا الشخصية، يدرك أهميّة أن نترك وراءنا ما يضمن الحفاظ على جذورنا وامتداد فروع شجرتنا وغصونها، وما يضمن بُعْدَ نهايتنا الجمعية التي يسعى إليها أعداؤنا. ولهذا فجاسر يريد أن يُرسّخ من خلال كتابه هذا، الذاكرة الجمعية في نفوس أجيالنا القادمة وفي قلوبهم كي لا يضلّوا. وهذا تفكير نبوي، فالسيد المسيح ترك لنا الإنجيل، والرسول الكريم ترك لنا ما إذا تمسّكنا به لن نضلّ أبدا، وهذا ما يريده جاسر. أن يترك في نفوس أحفادنا جذوة التمسّك بالوطن، وأن لا ينسوا هواء وطنهم الذي يتنفّسونه، وماءه الزلال الذي يشربونه من آباره وينابعه، أن يحافظوا على مفاتيح الوطن، وأن لا يُفرّطوا بها مهما جارَ الزمن. يريدهم أن يتذكّروا وأن ينتظروا بفرح عظيم ذلك اليوم الذي يجتمعون فيه في أرضهم التي اغتصبت منهم، وعليهم أن يعملوا من أجل ذلك. لأنّ “أم عمر” في قصة “الحنينُ والشوقُ أقوَى من القهْر”، لم تنمْ تلك الليلة، لأنّها ستلتقي مع أبناء بلدتها الذين سيُشاركونها فرحتها المؤقّتة”. في هذه العبارة، إشارة من جاسر إلى أنّ هذه الفرحة المؤقّتة، يجب ألّا تبقى كذلك، لأنّه يعرف أنّنا بعد النكبة وإلى اليوم نعيش المؤقّتَ، ويقتلنا المؤقّتُ، فكل شيء في حياتنا بعدها، غدا مؤقّتاً، فنحن نعيش في وطننا أو خارجه، كمسافر حزم حقائبه ولزم المحطة، ينتظر قطار العودة إلى الوطن.
ومما يُؤكّد خوف جاسر على الذاكرة وضرورة الحفاظ عليها وترسيخها في عقول أجيالنا وقلوبهم، هو توثيق قصصه لأسماء نباتات الوطن: الزيتون والزعتر والسرّيس واللوز والتين والصبر والرمّان وغيرها الكثير، يريد لرائحتها أن تظل تعبق وتتغلغل في أعماقنا وأعماق أجيالنا. وأن يحنّ أولادنا وأحفادنا لتلك الرائحة كما تحنّ “أم عمر” لرائحة الوطن. وليس عبثا تقول لبكرها عمر: بالله عليك يا إمّي، يا عُمر، لا تنزع منّي هذه الذكريات الجميلة”.
“خلود جذور الوطن”، قصص تحمل وتوثّق قصة شعب اقتلع من أرضه قسرا، وقصة أقلية متجذّرة في أرضها تصارع الوحش الذي يريد أن يفترسها. إنّها قصة شعب نُكِبَ وما زالت النكبة تلاحقه، في الوطن وفي الشتات. وهو يتصدى لها بكل ما أوتي من قوة وعزم، في الداخل وفي الشتات، مستعينا بالذاكرة والعلم والسياسة والوحدة الشعبية والوطنية، الاجتماعية والسياسية، وبرفضه للتشرذم، وللطائفية التي كان وما زال يُغذّيها الحكم العسكري الذي انتهى شكلا وبقي مضمونا وممارسة. وقد ساعده البعض من ذوي النفوس الضعيفة المشوّهة، من أبناء جلدتنا، دأبوا على تخريب بيوت الناس البسطاء لتسهيل إخضاعهم وتدجينهم. ولكنّ الإيمان بالحقّ، جعل “حراثة الأرض أفضل من رتبة الضابط”، كما تقول القصة. وجعل الإصرار على إحقاق الحقّ، والتسلح بالعلم والمعرفة، يشدُّ من عزيمة أهلنا وصمودهم، في البعنة الحمراء وفي غيرها من قرى الوطن الباقية شوكة في حلوق أعدائها.
في قصة “في عمق عمقها حمراء بلون الدم في عروقها”، أو كما طاب لي أن أسميها، “البعنة الحمراء” أو “البعناوية الحمراء”، هناك إشارة واضحة إلى ممارسات السلطة لإضعاف العمل الشيوعي والوطني عن طريق الضغط الاجتماعي والديني، نجد ذلك واضحا في ابتعاد “البعناوية الحمراء” عن العمل السياسي بعد زواجها من عريس غير أحمر، كما تقول القصة.
جاسر داود، يريد أن يغرس الأرض وحبّ الأرض في نفوسنا جميعا، وخاصة في نفوس أجيالنا الشابّة التي يخاف أن تبتعد عن الأرض. ولذلك نراه في قصة “خضَبَتْ كَفّها بدَمِه”، يجعل الأرض وصيته لأجيالنا القادمة، على لسان الشهيد الذي خضّب بدمائه الأرض وكفّي زوجته، أمّ أولاده، عندما استشهد دفاعا عن أرضه. وكانت وصيته الأخيرة لزوجته: “إوْعِك يا أم أولادي تفرطوا بشبر من هاي الأرض الغالية، هاي أمانة من أبوي وأجدادي إلكوا، ديروا بالكواعليها”. وهذه الجملة تُذكّر بوصية الشاعر والقائد المرحوم توفيق زياد، حين رفع يده في الناصرة وصرخ صرخته التي هزّت أعماقنا: “ديروا بالكو على بعض”. وليس عبثا يقول جاسر على لسان الشهيد “يا إمّ أولادي”، فهو يعلم مدى حبّ الأمّ لأولادها، وهو يريد أن تكون الأمّ غالية على أولادها أيضا، لأنّه يُؤمن أنّ الأرض هي أمّنا جميعا، ويجب على أولادنا وأحفادنا من بعدنا أن يُحافظوا عليها ويبادلوها الحبَّ بالحبِّ، والعطاءَ بالعطاء.
بعد النكبة توالت النكبات على الفلسطيني المتجذّر في أرضه، وعلى الأقليّة التي ترفض الخنوع، وتوالت التضحيات، لذلك يبلغ جاسر في قصصه منتهى الأمانة والصدق عندما يكتب عنّا، عن أناس منّا، نعرفهم شخصيا، بعضهم عشنا معه ورافقناه في عمله الوطني، مثل طيّبي الذكر، القائد الشيوعي توفيق طوبي، والشاعر محمود درويش، وبعضهم ما زلنا نتقاسم معهم العلم والعمل والنضال، ولقمة العيش. عشنا مأساتَهم التي هي مأساتنا جميعا، فهبّة الأقصى التي طالت “جميلة” في قصة “المناضلة الجبّارة”، وأفقدتها فلذة كبدها، طالتنا جميعا، لأنّ الذين استشهدوا هم أولادنا، وكلنّا أولاد الأرض التي رووْها بدمائهم الزكية. “جميلة” هي شخصية أخذها جاسر من واقعنا، فهي معروفة لي شخصيًّا وربما للكثيرين منكم أيضا.
وهذا ما يحدث أيضا في قصة “الله لطف” فهو يذكر كابول وميعار وحتى دار الهيبي عمّهم خيره، ذكر علاقتهم بقريته القريبة من كابول، التي شُرّد منها، ولهدف نبيل لا يذكرها بالاسم، ذلك ليحثّ الجدّ في القصة، حفيده على البحث عن جذوره، وعن مسقط رأس أجداده، ليتعرف على قريته من خلال زيارته لمن يعرفونها، ومن خلال قراءة كتابات من كتبوا عنها، وهو ما يُؤكّد أهداف جاسر داود، الاجتماعية والوطنية والإنسانية، ولترسيخ الذاكرة، لكي “لا يموت حق وراه مطالب” كما تقول القصة.
ككاتب فلسطيني، جاسر داود لا يشذّ عن قاعدة الكتّاب الأوفياء للوطن، الذين يَعون ما حدث له وما زال يحدث من اغتصاب للأرض وقهر للإنسان، لذلك يريد للذاكرة الجمعية أن تعيش في عقول أجيالنا وقلوبهم، كي لا يموت الوطن فينا. “أبو حسن”، في قصة “ستُفرج.. وإنْ طالَت”، يرى الأمل لمستقبلٍ أفضل يكمن في أحفاده الذين لا يبخل عليهم، لا بوقته ولا بعرقه وماله. ويرى في القصة نفسها أن القدس التي قهرها الاحتلال، لا بدّ من يوم سيأتي وستدحرُ فيه الاحتلال. وهذا ما يؤكّده أيضا، في قصة “البحرُ.. نعمةٌ ونقمةٌ” عندما يستعيد أبيات محمود درويش، ويذكّر غيره من الوطنيين الشرفاء الذين حفظوا الوطن ولم يتاجروا به. أما كون البحر نقمة في رأي جاسر، فذلك لأنّ البحر احتضن مراكب التشريد، حين أُرغِم أهلنا على ترك الوطن. ويعرف جاسر أنّ مؤامرة التشريد على شرقنا العربي ما زالت مستمرة، ليس فيما يحدث لأبناء شعبنا في الأراضي المحتلة فقط، وإنّما فيما يحدث لإخوتنا في سوريا واليمن والعراق وغيرها من البلدان العربية المنكوبة بالربيع المزيّف المستورد.
لا أستطيع في هذه العجالة أن أقول كل ما يستحقه الكاتب والكتاب، فاللغة مباشرة تتنقّل بين العامية والفصحى، والعامية المفصّحة، لغة بسيطة بساطة شخصيات قصص المجموعة، خاصة الكبار في السنّ، أي بساطة حياة آبائنا وأجدانا في وطننا قبل اغتصابه، وبلغة تضطرب حين يقصّ علينا الكاتب ما تعرضت له تلك الحياة من اضطرابات خلال النكبة وقبلها وبعدها، فهو مثلا لا ينسى ثورة الـ (36)، بسلبها وإيجابها، بمثل تلك اللغة قدّم لنا جاسر داود سردا ممتعا، وسرده لا شكّ سيمتّع أكثر، أولئك الذين يشعرون بانتمائهم لوطنهم وشعبهم، فقد جاءت اللغة عربية فلسطينية، جليلية بلهجتها ونكهتها، مطعّمة بمفردات الجليل وعباراته، وبتراثه. فقد استطاع كاتبنا أن يقدّم لنا وجبة شهيّة دسمة من التراث والأمثال الشعبية التي وظّفها لأنّه يعرف أنّ بعضاً من ناشئتنا، من أولادنا وأحفادنا، لم يسمعوا بها، فيُفصّح العامية عندما يقول في قصة “الله لطف”: مجّ الجدّ مجّة طويلة من السيجارة”، مجّ هو لفظ عامي مناقض تماما لمجّ الفصيح، فهذا الأخير معناه رفض ولفظ وألقى، والكلام الممجوج هو الكلام المرفوض وغير المرغوب فيه، بينما لفظة مجّ العامية معناها سحب وأدخل وأخذ وهكذا. وأعتقد أنّ الكاتب فعل ذلك عن قصد، ليربط بين القديم والحديث، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الحنين إلى القديم واستشراف المستقبل الأفضل والأمل الكامن في الحفيد، لإنّ هذه المجّة الطويلة من السيجارة تُعرّي نفسية الجدّ القلقة، الخائفة من ألّا يفهمنا صغارنا، أملنا ومستقبلنا.
وغير ما تقدّم، أمران بارزان تركا أثّرهما في لغة جاسر وقصصه: الأول، المدينة عامة، وحيفا بشكل خاص، والثاني العمل في التربية والتعليم. حيفا، أو المدينة بشكل عام وإلى جانبها تطوّرات الحياة المدنية منذ تلك الأيام وحتى الآن، أدّت إلى تحوّل في حياة القروي والفلاح الفلسطيني، وقرّبته من الحياة المدنية ومظاهرها بما في ذلك المظاهر اللغوية، ما نجده في لغة جاسر في أكثر من قصة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في قصة “المشردة”: صرخت الابنة: ماما وين بابا؟
ليست هذه لغة أطفال الجليل خاصة إبّان النكبة، ولكنّ الكاتب أراد أن يُعبّر عن خوفه مشيرا إلى المدنية التي غزتنا أكثر بقشورها. وأكثر من ذلك، ليعبّر عن الاضطراب في حياتنا، والاغتراب الذي نعيشه عن ذاتنا. والأمر الثاني، عمل جاسر في التربية والتعليم. فهو لم يبخل علينا بتفسير بعض المفردات أو العبارات، قد يشعر بعض القراء بعدم الحاجة لتفسيرها، ولكنّ جاسر المربّي، لا ينسى أبدا أهدافه التربوية والتعليمية، فهو ينظر إلى قرّائه كتلاميذه، يريدهم أن يفهموا وأن يُذوّتوا كل شيء. ويُؤكّد ذلك في أكثر من قصّة، فلم يكتفِ بالتفسير، فبيّن للقارئ المغزى التعليمي والتربوي والأخلاقي من القصة. رغم انّ هذا لم يعد قائما في القصة الحديثة. ونهاية قصة “أنت أخي”، خير شاهد على ذلك.
لا يسعني في هذه العجالة أن أقول كل شيء عن هذه المجموعة الرائعة التي قد لا يُعجب بعضَ النقّاد حديثي عنها بهذا الإعجاب، وقد يكونوا محقّين إذا التفتنا إلى الشكل الفنّي للقصص، أمّا إذا التفتنا إلى المضامين والأهداف الوطنية والتربوية، فقد قدّم لنا الأستاذ جاسر داود، وجبة فلسطينية وطنية وشعبية، أدبية وثقافية، دسمة، نحتاجها جميعا، وتحتاجها أجيالنا التي يخشى عليها جاسر أن تفقد انتماءها وذاكرتها. فهنيئا لنا هذه الوجبة الدسمة، وهنيئا لك أخي جاسر هذا الجهد المبارك.
كلمة الكاتب والناشر احمد فواز– لبنان: عندما بدأت بقراءة كتاب الأستاذ جاسر داود، كنت أظن أنني سأطالع مجموعة شعريّة كما تعودت، أو أفكارا ومقاطع لأكوّن فكرة عن الكتاب الجديد، علّني أستطيع أن أكتب شيئا ولو متواضعا، عن كاتب عملاق له باع طويلة في الأدب والتربية، لكنني وجدتني أبحر في قصص وصور وحالات، جعلتني أغوص في عمق أمّنا فلسطين أساس الضمير العربي، وأمّ الفكر الإنساني وموئل الحضارات، ووجدتني أقارن بين فئتين من أدب هذا الشعب العملاق: فئة تدعى فلسطين الانتشار، وفئة الداخل، ولكلا الفئتين قصص ومعاناة لا تُعدّ ولا تحصى، وإذا بي أقارن بين أدب الكاتبة الفلسطينية حنان بكير من الانتشار، وجاسر داوود من الداخل، فتلك عانت بسبب حملها راية المطالبة بحرية الإنسان وحق العودة، وتحملت الظلم والجور والقهر والتعذيب، ممّا زادها عنادًا وصلابة، وزرعت أفكارًا ازهرت كالشجر المُعمّر في أصالة هذا الشعب وتاريخه ومعاناته وجمال إنسانيته وصدق انتمائه.
وهنا مع قصص (خلود جذور الوطن) رأيت الصراع بين الإنسان والمسيرة البشرية، سمّيت بالصراع بين الإنسان صاحب الحق وحامل الرسالات، وبين الزمن الذي نحاول أن نسابقه، فأحيانا نشعر بالانتصار إذا ما حققنا شيئا من التعادل مع مسيرته، وأحيانا نتقهقر بفضل أدوات الزمن التي يحاربنا بها، وهي تلك المخلوقات البشرية التي تحاربنا مبتعدة عن نور الحق ونور السماء. فالصّور متفاوتة الألوان، بين معاناة سلالة الأنبياء في الشتات، ومعاناة من تحمل وزر حفظ أمانة الإرث السماوي التي خص الله به الإنسان بكلّ تجلّياته. إنّها قصص تصور التشبث بالأرض كالطفل الذي يتعلق بحضن أمّه، فإمّا أن يكون بارًّا بها ويحفظها من كل سوء، وإمّا أن يكون جاحدًا، فيصبح كالكثير ممّن نراهم ينتشرون حولنا، بكلّ خيلاء الجهل وعنجهيّة الكفر بالإنسان والأصالة.
ما يُميّز هذه المجموعة القصصيّة، أنّها كُتبت بقلم مُبدع ينزفُ حبًّا لأمّهِ الأرض، ويعيش رحيمًا بأخيه الإنسان، ويبقى بارًّا لأهله وبيئته، مُتحمّلًا كلّ أنواع قهر الحبر، ليروي ظمأ القارئ العربيّ المتطلع لإنسانيّة الإنسان، وحرّيّة الأمّ والولد، واستقرار الأوطان في الوجدان، ينزف حسرة على التاريخ والإنسانيّة ولمّة العائلة حول الشجرة المُرضعة للخير، ويُصوّر حالة المجتمع الأصيل لا ليُبرهن عن أصالة أبناء الأرض، بل ليعرّف الجيل الجديد على أهمية التعلق بأرضه التي تعتبر ضميره وأساس مستقبله، لأنّه خير الماضي وزبدة الانتماء، بحيث يُصوّر حالة الأشخاص في قصصه، وكأنّها تعبّر عمّا يَجول في خاطره كإنسان يتنفس أمل الحرّيّة والأصالةfrown emoticon ، آه يا زمن، زمان ما عُدنا نقطف حبّات الزيتونة ونتظلَّل بفيِّتها، أيام كان جدّي يعَتِّب الميجانا والعتابا، ونردّ عليه بأصواتنا المزعجة، فيضحك ويقول: “أنتم جذوري المشرشِة” في هذا الوطن الغالي)، والملفت أنّ المؤلف كان مُصِرًّا على استعمال كلمات مستخدمة شعبيًّا في المجتمع، كنوع اللباس والغطاء والمأكل والاستقبلات والاحتفالات الاجتماعيّة الشعبية، ليغرس الأصالة في نفوس القراء، وهذا جُلّ ما تتجلّى به رسالة هذه المجموعة الإنسانيّة.
إنّ مجموعة (خلود جذور الوطن ) تعتبر من الأدب الوجدانيّ بالدرجة الأولى، إذ لا قيمة للأدب إن لم يكن مقرونًا بكلمة الحقّ، ويرسم الصورة الصحيحة للانتماء، وتتميّز المجموعة القصصية هذه بأسلوب السهل الممتنع، وأنا أقول بالأسلوب السهل الذي يعرف طريقه لقلب القارئ، علّها تصل لوجدانه، فمَن ينظر لحالة الشعب الفلسطيني اليوم في الداخل الصامد وفي الشتات والانتشار، يرى الفارق الكبير في الانتماء،
ففلسطينيو الداخل يفطرون بالأمل ويتغذون بالمواجهة ويتعشون (ان حصل على العشاء ) خلف قضبان الاستهتار الدولي البعيد عن الضمير، بينما فلسطينيو الشتات فقد أقاموا لأنفسهم وطنا مستقلا خاصًّا بهم، يعيشون به نفسيًّا بحلم الرفاهية ومتابعة فصول فرحهم اليومي المُتلوّن بالسعادة الزائفة، لأنّه تمّت برمجتهم على نسيان القضية الأساس، من خلال اندماجهم في مجتمع الإقامة من عمل ودراسة وحياة يومية، والبعض الآخر قابع في مخيمات القهر والفقر، ولا يفكر إلّا بلقمة قوته محاطا ببعض القيادات التي لا تفكرإلّا بالوجاهة والزعامة وحياة الترف .لذلك، على المثقف الفلسطيني أوّلًا والعربيّ مُرافقًا، أن يَنشرَ كلّ هذه القصص والأفكار التي تعمل على مواجهة التغريب والتجهيل لأمّتنا، والتي تسْبَحُ سعيدةً في بحور الجهل والتخلّف، عسى أن يُفرّخ براعمَ جديدة تنبت أمَلًا وحرصا على مستقبل زاهر.
الأستاذ جاسر داود اسمح لي أن أنحني أمام كلماتك، وأقبّل جبين سطورك، وأتلقّف قصصك بحضني الدافئ الذي ينبض محبّة وانتماء لكم ولقضيّتكم الضميريّة. تحية لصمودك وصبرك ونزفك الجميل. تحيّة لكلّ حجر سترشقه هذه الحروف في وجه من يعمل على نسيان أرض الرسالات، وكلّ بيْرَق في قصّة يعمل على تنبيه الذاكرة لِمَا هو أصيل ومفيد. تحيّة لكلّ طفل وامرأة ورجل في أرضكم الطيبة المعطاءة المدرارة رجالا وفِكرًا، ونبوغا تعتز به كلّ الإنسانيّة الحقة. شكرا لكم على هذا الانتشار نحونا، ورسم فرحتنا بالتواجد بينكم. أخوكم اللبناني الساكن في لبنان وتسكنه فلسطين؛ الناشر والكاتب اللبناني أحمد فواز يهديكم كل التقدير.
مداخلة جاسر داود قرأها الأديب زهير دعيم: مساؤكم خيرات ربّانيّة لا تنقطع أبداً آمين، أشكركم جميعكم لحضوركم ومشاركتي فرحتي بهذا المولود الإبداعي الجديد مع حفظ الألقاب، وأهلًا وسهلًا بكم مع بركة الكهنة والشيوخ تشملكم وعائلاتكم آمين. أيّها الحفل الكريم، أنتم جميعكم أهل البيت، وأنا الضيف ببيتكم وعندكم. لم يكن اختيار المكان والزمان صدفةً، بل اختياري كان لقداسة المكان الذي يجمع القلوب المُحبّة للسلام النفسي مع الذات ومع الآخرين. قالوا قدّيسة عبلين، وقدّيسة دار ناصر والقديسة الصغيرة وغيرها من الأسماء، ولكن نحن نقول: القداسة تشمل في زواياها وجنباتها جميع الناس دون تفرقة في الدين والجنس واللون واللغة وغيرها. وهكذا أصبح بيت القدّيسة مريم بواردي يجمع ولا يُفرّق في زمن قلّ فيه التجميع، بل بالعكس كثُرَ وما زال يتزايد مع احتقار وطمس حقوق الانسان في كثير من البلدان. لهذا إنْ أردنا أن نُبدع، علينا التركيز على احترام الانسان وحقوقه الشرعيّة، التي نادَت بها كلّ الكتب السماويّة، فنحن بشرٌ لكلّ واحد منا أحواله وأموره وأحاسيسه، ولكن هذا لا يمنعنا من التغنّي والمُناداة بالمحبّة، التي نادى بها جبران خليل جبران إبن بلدة بْشِرّي في لبنان.
نعم، نكتب مِن وإلى الانسان، نكتب ليقرأ الانسان ويتعلّم من تجارب وأحداث الحياة، كيف يَكِنُّ الخير لِجاره قبل نفسه، كيف يُسامِح ويتسامح دون ضغينة تسكن في أعماق قلبه، يذكر ويفعل ما يذكره أمام نفسه وأمام الله وأمام الناس، من محبّةٍ صادقة وصدوقةٍ لأخيه الإنسان، فنحنُ في فترة عيد الصليب المقدّس وعيد الأضحى المبارك، كلّهم قدّموا الفداء لبني أو عن بني البشر، حملوا صلبانهم المُلقاة فوق أكتافهم النديّة، وساروا بها دون تأوّهٍ وغضبٍ من أجل مَنْ؟! من أجل حياة جديدة لبني البشر دون خطيئةٍ، فقد فدانا الربّ يسوع المسيح، بأن نزل وتجسّد من أجل رفع الخطايا الدنيويّة عن الانسان، فحمل الصليب وتعذّب وأُهينَ من أجلنا كلّنا دون التفرقة بين هذا وذاك. وإبراهيم عليه السلام أراد أيضًا أن يفتدينا بروح ابنه اسحق، فجعل الله لمصداقيّته الحقيقيّة ولِصدق إيمانه كبشًا بدلًا من الروح، فافتدانا بهذا الكبش.
كلُّ واحد منّا في هذه الحياة المليئة بالورود والأشواك يحمل صليبه الخاص به، لهذا لو فكّرنا جليّاً بأمورنا الحياتيّة، وبحثنا عن المنطق في حلّها، لَما ثارَ الانسان غاضباً على أخيه الانسان، ولَما بقيَ شعبنا العربي الفلسطيني في هذه الديار المقدّسة، يحمل صليب الشقاء والتعب والاضطهاد المستمر مع التعذيب النفسي قبل الجسدي، وتدمير كلّ الآمال التي يصبو لها الانسان منذ ولادته ورؤية عينيه لنور الحياة الجديدة. لِنتكاثف كلّنا سويّةً من أجل رفع الصليب عن أكتافنا، دون النظر الى الجنس واللون واللغة والدين، ولنحبّ بعضنا بعضًا، من أجل بناء مستقبل لأبنائنا الآتين إلى هذه الحياة، قبل قتل أحاسيسهم وهم في المهد.
لم تكن الأديان يومًا مناهضةً وظالمة للإنسان أبدًا، بل بالعكس، كلّها تمحورت بتعاليمها حول كرامة وعيْش الإنسان بسلام، ولكن هناك مَن استغلّ ويستغلّ الدين لمآربه الشخصيّة ولمصالحه الآنيّة، التي لن تدوم طويلاً، والبعض منهم يعمل ويرتكب الخطايا ضدّ دينه لِطمعٍ ماديٍّ لن يطول له مدى الحياة. كانت عبلين في فترة من الفترات شعلةً للإبداع والثقافة والكتابة والتعبير، فمنهم شاعرنا ومعلّمنا ومُربّينا المرحوم جورج نجيب خليل، الذي ربّى أجيالًا وآلافًا من تلاميذه على حبّ اللغة العربيّة والوطن الصغير عبلين، لأنّ الانتماء هذا يُعطي الإنسان القدرة على المحافظة على حياة مشتركة بين مواطنيه.
وهكذا أيضًا نادى المرحوم المُربّي سمعان عزيز دعيم وغرسَ في نفوس طلابه محبّة اللغة العربيّة، كي لا ننسى الهويّة. ومنهم مَنْ نادى برفع الظلم عن أبناء شعبنا في الوطن الصغير والكبير أيام اللوائح السوداء في فترة الحكم العسكري في هذه البلاد، فكتب المحامي فرج نور سلمان- أطال الله بعمره- كتابه أبرياء وجلّادون، واستمرّ في نظم القصائد والقصص التي تنادي بنفس الروح، روح التمرّد على الظلم والطغيان. وهكذا فعل أيضًا المرحوم الزجّال والشاعر الشعبي عيد عزيز دعيم في أشعاره وزجليّاته، صرخ وصرخ من أجل تحقيق العدالة والسلام بين الظالم والمظلوم من بني البشر. ورافقهم في هذا الأسلوب أي التغنّي بالإنسان والوطن وجماله الطبيعي والبشري الشاعر زهير عزيز دعيم، الذي اختار في السنوات الأخيرة أشعارًا ممتزجةً بوشاح المحبّة اليسوعيّة والمسيحيّة والإنسانية، متجاهلًا الغرور والعظمة ومُحتقرًا لها، ومُناديًا بتحقيق السلام مع الآخرين قبل الذات في الحياة الإنسانيّة المشتركة.
أمّا تلميذي الدكتور سمير فوز حاج فقد نظم القصيدة وهو في جيل التعليم الثانوي، واستمرّ لفترة غير طويلة، إذ أشغلته هموم الحياة إلى جانب الدراسة الجامعيّة والعمل في التدريس، فجعلته يُكرّس اهتمامه للبحث والتنقيب في اللغة والأدب والأدباء العرب، ومُقللاً بشكل كبير اهتمامه بالقصّة والقصيدة كما بدأها في المرحلة الثانوية. وهناك أيضًا القاصّة والروائية الدكتور سهير داود – أبو عُقصَة المتواجدة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وتعمل في مجال التدريس الجامعي بموضوع العلوم السياسيّة، فقد أصدرت عدّة مؤلفات لدواوين شعر وروايات متغنّيةً بالأرض والبرتقال اليافاوي، وعن الصراع بين بني البشر والفلسطيني- الإسرائيلي ومُطالبةً بالمحافظة على الهويّة.
وتلميذتي الغالية جداً على قلبي الشاعرة والأديبة آمال عوّاد رضوان، المعروفة بإصداراتها الشعرية وكتاباتها النثريّة في البلدان العربيّة وأنحاء البلاد، أكثر من معرفة أهل عبلين لها ولكتاباتها، فهي فعّالة أيضًا في مجلس النساء الأرثوذكسي بالبلدة، وأيضًا فعّالة في ترتيب وبرمجة البرامج الثقافيّة مع المحامي فؤاد نقارة من حيفا وعسفيا وفي أرجاء البلاد، والتي تعقد وتقام في البلاد، وتكتب تقارير مفصلة عن النشاطات والمشهد الثقافي في البلاد، وتنشر كتاباتها وأشعارها في الصحف والمواقع المختلفة في البلاد وخارجها. لهذا أدعوكِ يا تلميذتي آمال باسمي وبالنيابة عن أهل بلدتنا عبلين، بتخصيص بعض من وقتك لفعاليات ثقافيّة تقام في بلدتك عبلين.
وهناك بعض المبدعين الذين لا يكتبون بشكل مستمرّ، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الدكتور سهيل جميل حاج، وتلميذي المربّي حنا نور حاج، وتلميذي يوسف محمّد حيدر ،وتلميذي أسامة جميل غبريس، وابن صفي المحامي عمر محمّد غزاوي وغيرهم. من هنا أدعو الأهالي والمربّين والمعلّمين والجيل الصاعد إلى الاهتمام بالمطالعة للكتب الأدبيّة العربيّة وغير العربيّة، لكي نحافظ على هويّتنا ولغتنا العربّيّة، فالحاسوب والإنترنت والبليفون والفيس بوك وغيرها من وسائل العولمة الحديثة، لا تُغنينا عن لغتنا وكتبنا ومؤلفاتنا، والإلمام بالثقافة العربيّة ومنها الفلسطينيّة في هذه الديار المقدّسة، قبل الإلمام بالثقافة العربيّة الواسعة.
آمَلُ أن أستمرّ في عمليّة الإبداع، من أجل بناء مستقبل مُشرّف للإنسان كإنسان أينما كان وتواجد، فالله مع العبد ما دام العبد مع أخيه الانسان. شكري لكلّ مَنْ وقف إلى جانبي في الإصدار والتحضير لاحتفال توقيع الكتاب الجديد، وشكر لا بدّ منه لأبناء عمي عزات توفيق داود، ولوالدتهم أمّ توفيق ولجارهم زايد راجي يعقوب، على سهرهم واهتمامهم بترميم بيت القدّيسة مريم بواردي والمنطقة المحيطة به. شكري للذين تحملوا مشاق السفر والبُعد الجغرافي وحضروا لمشاركتي فرحتي بهذا الإبداع الجديد، وشكري للذين لم يحضروا لأسبابٍ ويشاركوني فرحتي هذه. ستبقى عبلين مثالًا يُحتذى به للحياة المشتركة الحقيقية بين شرائح مجتمعها المختلفة، وهذه هي قلادة يجب أن نعلّقها في أعناقنا، وإلى لقاء في مناسبات مفرحة للجميع، وكلّ عام والعام والجميع بألف خير، أحبّكم جميعًا، وتصبحون على حفناتٍ من الخيرات الربانيّة آمين.
آمال عوّاد رضوان