عندما يلتقي شاعران من باقتنـــا
تاريخ النشر: 02/06/13 | 13:22هما الشاعر المرحوم يوسف صالح قعدان والشاعر بروفيسور فاروق مواسي أطال الله في عمره.
بادئ ذي بدء، لا بد من كلمة شكر وتقدير للصديق الشاعر الأديب بروفيسور فاروق مواسي، على مداخلته اللطيفة، وتطرقه إلى المقابلة التي أجريت مع والدي الحاج يوسف صالح قعدان "الأصمعي" رحمه الله، في سنة 1983، وقد التقطها المصور محمد مفلح قعدان، حيث أجرى المقابلة الأستاذ سميح زامل أبو مخ.
في أعقابها نشر البروفيسور فاروق مع المداخلة التي قدمها ومع تعليقه قصيدته الرائعة "هاك القلم" التي رثى فيها والدي حين وفاته في سنة 1989، حيث أن هذه الجملة كانت آخر ما تفوه به المرحوم قبيل وفاته، إذ خاطب بها أخي جمالاً، معتبرًا أن حياة القراءة والكتابة انتهت- الأمر الذي ترك أثرًا عميقًا في نفس الشاعر مواسي فكتب قصيدته المعبرة.
كان مواسي صديقاً حميماً لأخي جمال (أبو رفعت) رحمه الله، وكانت تربط البروفيسور فاروق علاقة "أدبٍ ولغة" مع والدي المكنى بالـ "الأصمعي"، فلطالما تجالسا وتجاذبا أطراف الحديث من أدبيات وشعر ولغة، وكانا يخوضان في بحر من الجدل الشائق الممتع، من شرح لبيت شعر معيّن، أو اختلاف على بلاغة في بيت آخر، وكثيراً ما كانوا – مع أخي جمال- يجتمعون على الوفاق بالمعنى أو الفكرة للشاعر المتناول بين أيديهم، فجزاك الله خيرا أبا السيد حيث أعدتني إلى الماضي استذكر فيه تلك الأيام التي كنا نتبارز فيها بالشعر أنا ووالدي وأخوتي.
يتميّز الشاعر بروفيسور فاروق بالتواضع، ويحب أن يشارك الآخرين بعلمه، فلا يبخل بتلبية من يطلب المساعدة منه أيضاً لغوياً، ففي كلية القاسمي التي يحاضر فيها تجد معظم الطلبة ينهلون من بحر علمه دون تهيب منه أو منَّةً، ويومياً يصل إلى موقعه استفسارات وأجوبة على أسئلة لغوية وغير لغوية، وله زوايا في أكثر من موقع يكتب فيها عن اللغة، وهو حريص على ترجمة الألفاظ العبرية المهيمنة، وتصحيح أخطاء لغوية شائعة بين الناس، فهو حقاً كما وصفه أحد أصدقائه، إذ قال له: "أنت كريم كالشجرة تطعم دون مقابل"، وأنا أوافقه الرأي، فأقول:
أنت حقاً معطاء أيها البروفيسور، فكل كتاب تصدره "وهم كثر" تهديني منه نسخة دون مقابل، فجزاك الله خيراً، ودمت لنا وللغة العربية ذخراً، تُحَبِّبنا فيها وتُجملها في نظرنا لتبقى "لغتنا الجميلة".
كان والد البروفيسور الحاج إبراهيم محمود مواسي (أبو فاروق) يحظى بالسمعة الحسنة بين أهله وبني قريته وكان اجتماعياً معروفًا، كان يكسب رزقه من عرق جبينه من حرفة "الحياكة"، إذ كان محترفاً لهذه الصنعة، يرتزق منها. وكان يرتاده الكثير من الزبائن من باقة وغيرها. وكان أن علَّم معظم أبنائه وبناته من كسب عيشه بيده، ويشهد الله أنه تفانى في تربية أبنائه، فكان من أوائل من علم بناته في القرية، فحظي أفراد العائلة منه بتربية حسنة يشهد لها الداني والقاصي، فرحم الله الحاج إبراهيم- أبو فاروق، وطيب ثراه، وحين وفاته في 6 آذار 1984 نظم والدي الحاج يوسف صالح قعدان قصيدة رثاه فيها، أُثْبِِتها هنا ليشهد الجيل الجديد على هذه المحبة والأواصر التي تربط بين أهل الأدب والثقافة:
في رثاء أبي فاروق
شعر الشيخ يوسف صالح قعدان "الأصمعي":
فاروقُ عنوانَ البيان بذاته
تدري الزمانَ بِحالِه وصِفاتِه
جُبْتَ الدُّهورَ قراءةً وكتابة
وعَرَفْتَ بالعقل السليم جِهاتِه
وعرفْتَ أنَّ الدَّهرّ حالُ مصائِبٍ
ومن المُحالِ يدومُ في حالاته
هذي هي الأقدار في طيّاتِها
حمَلَتْ من المقدور في طيّاتِه
بوفاة والدكم وتلكَ مشيئَةٌ
ما شاء ربُّك كان في أوقاتِـه
لبَّى نداء إِلهِه من بعدِ ما
قد حجَّ بيت الله ِقبل مماتـــه
وسعى ولبّى داعياً مُستغفِراً
للهِ حتى بات في عرفاتِــــــه
أنهى مناسِكَهُ بكل عزيمةٍ
مستبشِراً بصِلاتِه وصَلاتِــه
جُعِلتْ منيَّتُه بمسقطِ رأسِه
هي حِكمَةٌ للّه، من آياتِـــــه
حُسْنُ العزاءِ بِه إلى أولادِه
والصَّبْرُ والسُّلوانُ في مَشْكاتِه
واللهُ يرحَمُهُ بجنَّةِ جودِهِ
وينيلُه من فضلِهِ جنّاتِــــــه
ومن الجدير ذكره أن الفاروق رثى والده على نفس القافية والبحر في قصيدة أبي، فيقول فيها:
في رثاء والدي
شعر: فاروق مواسي
اللَّهُ يَرْحَمُ والِدي لِثَباتِهِ
في وَقْفَةٍ للدَّهْرِ في عَدَواتِهِ
عاشَ الحياةَ بِطيبَةٍ وبَشاشَةٍ
وبَساطَةٍ راقَتْ لِكُلِّ شُداتِهِ
مَرَحٌ تَجَلَّى في ذَكاءِ بَصيرَةِ
وصفاءُ نَفْسٍ كان بعضَ صِفاتِهِ
كَمْ مِن صَديقٍ كان يَأتي بَيْتَهُ
يَلْقَى المَكارِمَ في نُهى أبياتِهِ
مُتواضِعٌ لِلَّهِ مَرْفوعُ اللِّقا
مُتَفَقِّةٌ متدارِسٌ آياتِهِ
داعٍ إلى التَّعليمِ يَسْقي نَهْلةً
مِنْهُ البنينَ بِهِمَّةٍ وَبَناتِهِ
وبِكُلِّ فعْلٍ صالِحٍ مِنْ نَجْلِهِ
مُتَفاخِرٌ وَيَدِلُّ في مَرْضاتِهِ
يَرْنو إلى مَعْنى الجمالِ مُسائِلاً
عنْ دَربِهِ؟ عن لونِهِ؟ عن ذاتِهِ
ومُسافِر في الأرْضِ يَبْغي رِزْقَهُ
يتكاثَرُ الأصحابُ في سَفَراتِهِ؟
والطِّفْلُ يَسْألُ عَنْ مُحِبٍّ حامِلٍ
حَلْوى بِجَيْبٍ أو على أَصْواتِهِ
يَبْكيكَ قلبي يا أبي في لَوْعَةٍ
والدَّمْعُ غطى صَمْتُهُ غَصَّاتِهِ
وَأقاربٌ باتوا بحَسْرَةِ والِهٍ
فَعَميدُهُمْ لَبَّى قَضاءَ وفاتِهِ
قَد أكْرَموهُ وَعَزَّزوهُ بِدَوْرِهِمْ
لِلّه دَرُّهُـمُ وَدَرُّ ثِقاتِهِ
والأصْمَعيُّ أتَى لنا بِعَزائِهِ
دُرَرًا مِنَ الأشْعارِ في مَرْثاتِهِ
قَدْ كانَ مِنْ أوْفى الصِّحابِ بِعَهْدِهِ
ولِذا اقتضى بصَلاتِهِ وصِلاتِهِ
فرحم الله الشيخين، وأطال الله في عمر البروفيسور فاروق مواسي.
زهير يوسف قعدان
رجم الله الشيخين ودام ابداع الشاعر اللبق فاروق مواسي