“رواية رائحة الزمن العاري” للأديبة هيام قبلان …تجسّد بناء عالم أفلاطوني
تاريخ النشر: 08/10/15 | 6:34إن المتابع الجيد لتاريخ فن الحكي العربي يطالع توجهين من توجهات التأريخ :
الأول : من يرى أن الحكي العربي قديم قدم الشعر العربي ويتجه أصحاب هذا التوجه إلى أن الحكي جزء من نسيج الوجدان العربي ويستندون إلى فطرة العربي في الحكي والسرد منذ الجاهلية وقد تمخض ذلك في الجاهلية عن بداية الحكي الديني حيث كان سدنة الأصنام يقومون بسرد تاريخ كل صنم كنوع من جذب المصلين للصنم وإقناعهم بألوهيته واستمر هذا النوع من القصص الديني حتى جاء الإسلام فتأكد هذا النوع من القصص بنزول القصص القرآني الذي اعتمد نوعا من الحبكة الدرامية الجديدة حيث البداية ثم التنامي الدرامي والشخوص والوقوف على لحظات تنويرية أثناء القص ثم بلوغ منطقة الذروة الدرامية والنزول بالخيط الدرامي والاقتراب من النهاية حتى بلوغ النهاية بنوعيها سواء أكانت معلقة أو مغلقة ولنا في قصة يوسف عليه السلام في القصص القرآني خير مثال على ذلك وغيرها من القصص الجاذب الجميل ولما تصاعد الزمان وبدأ العرب في بناء دلوتهم الحضارية حدث نوع من التقدم في العقلية العربية فبدأت في التأليف القائم على الحكي حيث بدأ في زمان الدولة العباسية الاتجاه أولا إلى القص كنوع من الحكي التعليمي حيث قام بعض العلماء باتخاذ القص وسيلة لنقل العلوم والمعارف قريبا من الأسلوب الذي نسميه اليوم في عمليات التعليم ” مسرحة المناهج ” كما فعل (ابن دريد) مثلا حين وضع فن المقامة العربية في بدايتها ثم جاء بعده ( بديع الزمان الهمذاني ) ووجه المقامة إلى النقد الاجتماعي البناء وإن كان قد اتخذ اتجاه الملهاة اليوناني في عمليات الحكي التي يقوم بها بنوع من السخرية الضاحكة ثم بدأ عصر الفلسفة الإسلامية وبدأ الفلاسفة يتجهون إلى هذا المنحى فيؤلفون نوعا من القصص المعتمد على الحكي وتوجيه أبطال هذا الحكي إلى تحقيق رؤاهم الفلسفية كما فعل ( ابن طفيل ) في قصة ( حي بن يقظان ) وتوجيه البطل إلى تحقيق غايته الفلسفية من أن العقل البشري قادر على الوصول إلى حقيقة وجود الله وحده إذ نجح ( حي بن يقظان ) بطل القصة أن يصل إلى الحقائق الحياتية و الإيمانية خلال رحلة حياة كاملة داخل جزيرة منعزلة لم ير فيها بشرا وحين رحل إليه ( أبسال ) وجده قد تعلم الحقائق الحياتية والإيمانية وحده من خلال المحاولة والتجريب … ثم ظهر لنا ( أبو العلاء المعري ) بنموذجه الفريد ” رسالة الغفران ” الذي اعتبر نوعا من القصص الدرامي الذي يتسم بالنضج الفني مستمدا خيطه الدرامي من ” رحلة الإسراء والمعراج ” لدرجة دفعت المؤرخين إلى التأكيد على أن هذا النموذج هو الذي تأثر به ” دانتي ” في (الكوميديا الإلهية) ثم يرى أصحاب هذا الرأي أن العرب في فترات الضعف والانهيار الفكري الذي صاحب انهيار كل من الدولة العباسية والدولة الأموية في الأندلس حتى الدخول في العصر المملوكي ثم العثماني قد جمَّدا هذا النوع من النشاط الروائي عند العرب في حين بدأت أوربا تمارس نهضتها الحديثة فنشأت فيها النهضة الأدبية مصاحبة للنهوض الحضاري ومن ثم نشأ فن الحكي الأوربي الحديث وحين التفت العرب مع بداية نهضتهم الفكرية الحديثة في عصر محمد علي وما تبعه من عصور إلى أوربا متخذين منها النموذج والمثل أخذوا الحكي الغربي ببنائه الدرامي وتبعوه ببنائه الدرامي الغربي الحديث حتى فاقوا فيه الأوربيين أنفسهم في العصر الحديث حيث توج فن الحكي العربي بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب عن إنتاجه القصصي العالمي إنما فعلوا ذلك من خلال تلك الوراثات العربية الممتدة عبر الزمن القديم لأن القلوب العربية قد أشربت فن الحكي وقد استند أصحاب هذا الرأي إلى ما أكده بعض المستشرقين الغربيين أمثال ” جوستاف لوبون ” في القرن التاسع عشر الذي يحكي عن رحلته إلى الشرق فيروعه ما يشهد من حظوة القصص عند المشارقة فيقول : ” أتيح لي في إحدى الليالي أن أشاهد جمعا عربيا من الحمالين والنواتي والأجراء يستمعون إلى إحدى القصص وإني لأشك في أن يصيب قاصٌّ مثل ذلك النجاح لو أنشد جماعة من فلاحي فرنسا شيئا من أدب ” لامارتين ” أو ” شاتوبريان ” فالجمهور العربي ذو حيوية وتصور يتمثل ما يسمعه كأنما هو يراه ” ثم ينقل ” جوستاف لوبون ” عن أحد السياح قوله : ” لينظر الإنسان إلى أبناء الصحراء حين يستمعون إلى القصص ليرى كيف يضطربون ويهدءون وكيف تلمع عيونهم في وجوههم السمر وكيف تنقلب دعتهم إلى غضب وبكاؤهم إلى ضحك وكيف يقاسمون الأبطال سراءهم وضراءهم وحقا إن الشعراء في أوربا لا يؤثرون في نفوس الغربيين ما يؤثر ذلك القاص في نفوس سامعيه العرب ” وهذا حقيقة ما دفع المفكر والأديب العربي ” محمود تيمور ” إلى القول : ” فإذا كانت قلوبنا وأذواقنا قد أشربت حب القصة الغربية واصطناع مناهجها فلأن الأمة قصصية بالطبع هواها للقصة منجذب وروحها إلى الرواية تهفو ” ويقول في موضع آخر ” أكاد أزعم أن الأمة العربية لا ينافسها غيرها فيما صاغت من قوالب للتعبير عن القَصِّ والإشعار به فنحن الذين قلنا من غابر الدهر ” قال الراوي ” و ” يحكى أن ” و ” زعموا أن ” و ” كان ما كان ” إلى آخر تلك الفواتح التي يمهد بها القصاص العربي في مختلف العصور لما يسرد من أقاصيص ”
الثاني : حيث يرى أصحاب هذا المتجه أن الرواية العربية الحديثة لا علاقة لها بتلك الوراثات العربية وإنما نحن اليوم نمارس ألوان القصة من خلال تأثرنا بالنموذج الغربي والدليل سيرنا على نفس نهجه ومتجهه في البناء الدرامي الروائي …
وأيا كان الأمر فلكل متجه أسسه ودواعمه التي يستند عليها لتأسيس رأيه فقد أردت أن أبدا بهذا العرض التاريخي حتى إذا ما تعرضنا لكاتبتنا العربية الكبيرة ” هيام مصطفى قبلان ” من خلال روايتها ” رائحة الزمن العاري ” نكون على بصيرة واستنارة أين موطئ قدمنا وأين نحن من ساحة الرواية العربية إذ أننا أمام لون وطعم روائي يستمد دعائمه من فن الحكي العربي الأصيل مستلهما قالبه في إطار غربي حديث ليؤكد لنا التركيب النفسي العربي الميال إلى الحكي المشرب بأصوله بفطرة واعية …
ورواية ” رائحة الزمن العاري ” للأديبة ” هيام مصطفى قبلان ” تتجسد أمامي من خلال العنوان المكون من ثلاث كلمات فقط ” رائحة ” وما تحمله من رغبة في الحصول على ما لم يتم الحصول عليه بعد , أي يرمِّز إلى التطلع وما يحمله من حرمان وشهية و ” الزمن ” وما تسقط عليه اللفظة من مساحة ومتسع و ” العاري ” وما توجهه من رغبة في التجرد من كل ما هو مادي ملموس وبلوغ مستوى الخلاص من كل الماديات والسباحة وراء المجردات . إذن رائحة الزمن العاري كعنوان إنما يجسد لنا رغبة في بناء عالم أفلاطوني مثالي يخلو من كل القيود والعوائق التي تقف أمام الحرية الإنسانية المنشودة والمفقودة وهذا الزمن المجرد المثالي ليس موجودا في أرض الواقع وإن كان ليس ببعيد حيث يمكن بلوغه والدليل وصول رائحته والإحساس بها
ثم حين بدأت في مطالعة الأحداث ومع بداية مشاهد الفصل الأول لمست خيط القضية التي تسعى الكاتبة إلى طرحها على صفحات روايتها ثم بعد مضي بعض الأحداث لمست متجها فنيا هو ما ترتديه الرواية … فأما القضية المحورية التي تسعى الرواية إلى طرحها هي قضية الصراع بين الموروث الفكري والاجتماعي والسلوكي للمرأة الشرقية بوجه عام الذي يتسم بالجمود الحركي واتصال المضمون الفكري بحركة التنوير والتحرر المعاصرة ومحاولة ذلك المضمون الفائر بالتحرر كسر قيود السياج الذي يغلفه والذي يتسم بالجمود والتحجر … وأما ما يتصل بالمتجه الفني فقد بدت لي الرمزية التي تغلف الرواية وتكشفت لي من خلال بروز رمزين ” هزار ” و ” نبيل ” وهما رمزان قويا الدلالة فقد سقطا عندي مسقطا مدويا وتساءلت ؛ لماذا اختارت الكاتبة اسم ” هزار ” وما السر الكامن وراء اختيارها لاسم ” نبيل ” وفي البناء الدرامي للرواية يتجه الكاتب الناضج إلى التلميح لأهدافه السلوكية من خلال اختياره لأسماء الشخوص داخل الرواية … فالهزار الطائر المغرد وكما أقول في نقدي للشعر ” الشاعر يمارس الانتصار في القصيدة على ما هو مهزوم فيه في الواقع ” كذلك رأيتني أقول إن الكاتبة تمارس في روايتها ما هي مهزومة فيه في الواقع وما الذي دفعني إلى تطبيق تلك النظرية على مساحة روائية ؟ بعد طول تأمل وجدتني أرى أن الكاتبة تسعى إلى تحرير المرأة الشرقية من هزيمة أفكارها الحضارية المتمردة أمام قيودها الاجتماعية الجامدة وكأن ” الهزار ” رمز لتلك المضامين التحررية التي تسعى إلى الانطلاق انطلاقة الطائر المغرد في فضاء يخلو من القيود الحديدية ثم ” نبيل ” فالرجل الشرقي رجل يمثل قيدا على حرية المرأة مدفوعا بوراثات متراكمة عبر الأزمان والأجيال ومن ثم ومن باب الرغبة في الانتصار داخل المساحة الروائية لروايتنا محل القراءة على الموروث المتمثل في قيد الرجل الشرقي أتى اسم ” نبيل ” ليحقق ذلك الانتصار في تحقيق نموذج الرجل المنشود بما تحلم به المرأة الشرقية في هذا الرجل الذي لم يعد موجودا أو ليس له مساحة من التواجد الفعلي في أرض الواقع الفعلي فسعت الرواية إلى تحقيق هذا النموذج ودليلي على ذلك أول مشهد من الفصل الأول وهو خروج ” هزار ” من عند رجل أقل ما يقال عنه أنه رجل فاقد للحس الإنساني الناعم تجاه ” هزار ” فقد خرجت مفارقة له تتمنى عدم العودة إليه وهي في رحيلها تسبح في خيالاتها إلى أن تفاجأ بوجود ” نبيل ” الذي يمثل الحلم المثالي الضائع منذ الصبوة وظهوره فجأة دون سابق إنذار وهذا الظهور المفاجئ لنبيل يبرز رغبة الحدث الروائي في روايتنا في التدليل على ندرة هذا النموذج الرجولي الحلم العائد وهذا النموذج المثالي الذكوري حين سلم عليها وتركها في المكتبة ورحل على وعد بلقاء لاحتساء القهوة قد أيقظ فيها عشرين عاما من الشقاء تلك العشرون عاما تمثل ما تعانيه المرأة الشرقية من قيود جامدة تقتل فيها ” الهزار ” ذلك المضمون الراغب في الانطلاق والحرية . وفي لحظة من الصراع بين الرمز ” نبيل ” والواقع ” كريم ” وقفت البطلة تؤنب نفسها عن ممارستها اللذة الجسدية مع ” كريم ” وكريم هذا هو الزوج المصروع . فهنا تساءلتُ كيف تتهم البطلة نفسها بأنها تخدع حبيبها القديم ” نبيل ” بممارسة اللذة الجسدية في غيابه مع ” كريم ” وكريم المفترض هو الزوج هنا وقفت على قضية من أشد القضايا الشرقية تعقيدا وهي أن الزواج في جهتنا الشرقية رباط جسدي لا يستند إلى أسس نفسية أو وجدانية – على الأقل في غالبه وعمومه – أي أن هذا هو القاعدة ما شذ عنها هو ما دون ذلك فأدركت على الفور أن الكاتبة تتخذ من شخصيتها المحورية ” هزار ” محطا لكل أهدافها السلوكية والإنسانية التي تحاول تحقيقها من خلال روايتها … إن كل ما حصدته ” هزار ” من علاقتها بـ ” كريم ” أن أنجبت ” سمر ” وسمر هذه هي الصورة التي تحيل البطلة إلى ذاتها وقت النعومة البريئة ؛ وقت الصبا كما تحمل حلم المستقبل المنشود . وهنا المفارقة الكبيرة التي تواجهها المرأة الشرقية حيث تتزوج بمن لا تحب وتستسلم له جسدا دون روح فتنجب منه من تحب يا لمفارقة القدر !!! ” هزار ” تتزوج رغما عنها بكريم من خلال ممارسة أخرى من ممارسات الجمود الذكوري المشرقي المتمثلة في الأب الذي يرى أن حقوق أبوته تتمثل في استعباد ابنته وتوجيهها إلى الزواج ممن هو يحب دون أن ينظر لمن هي تحب . إن كريم المتوفى لو كتب له البقاء وعاش لأصبح نموذجا من أبيها وكأن الرجل الشرقي نسخة واحدة تتكرر فهي الأب والأخ والزوج والابن ذلك الرجل الذي قد توارث قهر الأنوثة كعنوان لتأكيد الذكورة . إن ” هزار ” تؤكد لنا أنها رمز لاغتيال الأنوثة المشرقية على يد الذكورة المريضة فعائلة كاملة وقفت لتتحدى رغبتها في الزواج بــ ” نبيل ” لا لشيء سوى أن ” كريم ” هو ابن العم والنظام القبلي هو العرف الراسخ رسوخ العقيدة التي لا تبدل ولا تحول
ولمن ستباع الأنوثة الممثلة في ” هزار ” ؟ لذكورة خائنة ممثلة في ” كريم ” الذي باع نفسه للمستعمر الدخيل وهنا نقف أمام ” هيام مصطفى قبلان ” الروائية التي تعرف كيف تمسك بمقود الحدث الروائي إنها هنا تعاملت مع (المعادل الموضوعي) في الرواية حيث اتخذت من دائرة الحدث الذاتي مسرحا لعرض حدث غيري عام انتقلت من الذاتية المفرطة في قضية المرأة إلى القضية العربية لتعلن من خلال المشهد أن الخيانة والخيانة فقط هي التي أسقطت الأرض العربية في يد الغزاة ولولا تلك الخيانة ما سقطت تلك الأرض ولننظر إليها وهي تعاتب الأب في سؤال صارخ ” كيف يا أبي تبيع أرضك وتبيع عرضك ؟ ” تلك الصيغة الاستفهامية التي جاءت على لسان هزار حملت دائرة الوجع القومي الذي يؤرقنا من كل نبضة تموج في عروقنا
إن ” الهزار ” ذلك الطائر الذي التفّت حوله القيود قيود الأب وقيود العائلة وقيود الزوج حتى بعد رحيل هؤلاء وسقوطهم كقيود عليها ما زال قيد الوصية الأبوية يحيطها ولكنها الآن تستعيد إحساس المرأة الحقيقي إحساسها بكامل عنفوانه إلى نبيل وهي في مشهد بديع في الفصل الثالث تقف لتعلن أنها قد ارتكبت جريمة حين أسلمت جسدها لذلك الزوج – كريم – الذي لم يكن يربطها به سوى رباط الزوجية الزائفة ثم تستفيق على رغبة أنثوية حقيقية تجاه ” نبيل ” ومن ثم تقرر بنفسها أن تحطم آخر القيود وهي تلك الوصية التي تركها لها الأب لتعلن لتلك الوصية تمردها محيلة ذلك التمرد إلى ما بقي من روح الأب القابع فيها … إنها لن تسلّم رغبتها وأنوثتها سوى لـــ ” نبيل ” إنه النموذج الذكوري الذي يستحق ملامسة أنوثتها وفي ربط درامي عالي السبك تحاول أن تربط ” هزار ” بين بيع الجسد وبيع الأرض ففي الفصل الثالث وفي غمرة وصفها لطريقة بيعها لــ ” كريم ” ذلك المسخ الجامد المتحجر والتنازل عن جسدها له هو في حد ذاته نافذة التنازل عن الأرض للمحتل فكيف يرخص لحم الفتاة ويغلو أديم الأرض ؟ من باع هذا يبيع ذاك … إنه ربط درامي جاء ملتحما على الرغم من غرابة المشهد فهي تقول :
كَمْ كرهت تلك البدلة الّتي تآمرت مع شاربَيْ والدها على جلْدِ أحاسيسها.. تآمرت مع صوت أمّها الصّارخ من غُرفة الضّيوف، تَشُدُّ بضفيرةِ أختها الكُبرى وهي تمسح مصطبة البيت، وتحثّها لتُكمل أعمالَ البيت المُلقاة على كاهلها الغضّ بسرعة أكبر، قبلَ قدوم ٱلضّيوف والوفود “لمضافة” والدها، من أبناء عُمومتهِ “اليهود”، الّذين أخلص لهم ولدولتهم!
لم يكن هؤلاء سوى أصحاب مصالح ومطامع، اشترَوْا أراضي ٱلقرية، واستولَوْا على قسمٍ كبيرٍ منها! هُم المنتفعون من الأرض، ومن ملْءِ بطونهم بالطّعام اللّذيذ من “المناسف بالأرز وَاللَّحمة”، الّتي كانت تُحضّرها أمّها، وتؤازرُها نساء الحارة في الطّبخ وإعداد الولائم، كلّما حَضرت ٱلوفود إلى منزلهم!
“أرضُنا مُهانةٌ يا أبي، كٱلعرض ٱلّذي بعتهُ في ليلةٍ لأصحاب الياقات.. للنّجوم اللاّمعة.. لمن اغتصبوا الأرض جهارًا، واستأصلونا من جذورنا، ومن ثمّ رمَوْا بنا في دوّامة الدّفاع عن الوطن!
يا أبي.. أنتَ كنتَ الشّريكَ ٱلمساهمَ في جريمة ضياع ٱلأرض وسَلْبِ ٱلوطن! أيّ وطن هذا الّذي تحميه الآن؟ وأين ذاك الوطن؟! ]
فهي في المشهد الطبيعي تصف كيف سلم جسدها لـ ” كريم ” ثم تصف الوفود الآتية والولائم المعدة خصيصا ليوم زفافها – أعني ذبحها – ثم فجأة تدخل بالمشهد الذي يصور إهانة أرضها وتقرن بين مشهدي بيع العرض وبيع الأرض ”
وكأنها تخرج لنا بأحد أهم أسباب تخلفنا وضعفنا أمام المحتل الصهيوني … فحين تخلينا عن نخوتنا مع ذواتنا فقدناها مع الآخر فمن هزم نخوته بيده لا يمكن أن ينتصر على الغير وكأن البطلة هنا تتخذ من نفسها بؤرة انطلاق نحو القضية العربية الكبرى والتي من خلالها الكاتبة تحاول أن تبرز أن القضية الكبرى ليست في المحتل وإنما فينا نحن الذين فرطنا في لحمنا فيما بين بعضنا البعض ومن هانت عليه نفسه فهي هينة بطبيعة الحال على الآخر
ولأن الواقع لا يخلو من أمل .. لا يخلو من لحن نشاذ يشذ عن القاعدة فقد نجحت الكاتبة في إدخال خيط في نسيج روايتها العبقرية يحمل لون النشاذ المحمود لون صوت الحرية الذي تمثله ” دلال ” أختها التي ماتت مناضلة من أجل الحرية .. حرية ؟ حرية من ؟ حرية المرأة فهي التي رفضت أن تعيش كالنعاج وعاشت مناضلة من أجل حرية المرأة … ضد من ؟ ضد قيود الأسرة الظالمة التي تهدر حق المرأة … وتعلو بها البطلة إلى مرتبة الشهادة . نعم هي مرتبة الشهادة . كيف ؟ القضية عند البطلة ” هزار ” معادلة بسيطة ؛ إذا كان ضياع الوطن مرهون بضياع قيم الإنسانية لدينا … وإذا كان ضياع القيم الإنسانية لدينا مرهون بسلب حقوق الأنثى إذن من تدافع عن حق المرأة في الحرية هي مدافعة عن قيم الإنسانية وإذا كان الدفاع عن قيم الإنسانية دفاع عن الوطن … وإذا كان من يدافع عن الوطن شهيد إذن ” دلال شهيدة ” وفقا لتلك المعادلة أو تلك الحسبة البسيطة
إن اغتيال ” دلال ” يساوي ” اغتيال الأرض . إن ضياع رمز الحرية يساوي ضياع الحرية ذاتها هكذا تعلن بطلة روايتنا ” هزار ”
وتمضي أحداث فصول الرواية العبقرية التي لا أريد أن أحرق شغف القارئ في التهام مشاهدها التي تسمو وتعلو في بناء درامي محكم النسيج حتى تبلغ نهايتها …
ولكني وبعد إتمام قراءة تلك الرواية العبقرية أتساءل … أين تلك الرواية بين أصناف الرواية العربية ؟ هل هي رومنسية ؟ أم واقعية ؟ هل هي تاريخية ؟ أم نوع من الفنتازيا ؟
إنها رواية تجمع بين الرومانسية والواقعية في مزيج ذي رائحة عبقة رائحة تجذبنا إلى الرواية الرومانسية بما تحمله من تجسيد للمثل الأعلى ورسم مشاهد الطبيعة الخلابة ثم سيطرة مسحة الحزن عليها ثم تحمّل واقعية الحدث ومعيار الصدق الفني في المشهد الواقعي ليس مصداقية حدوثه في الواقع الفعلي وإنما إمكانية دفع القارئ إلى تصديق إمكانية حدوثه في الواقع
هنيئا للمكتبة العربية بانضمام رواية ” رائحة الزمن العاري ” إليها حاملة رؤية كاتبة عملاقة تدخل بروايتها إلى قاطرة ناسجي فن الرواية العربية الأصيلة
بقلم الناقد والشاعر عبد الله جمعة – الإسكندرية – مصر