هُنا الْبِداية
تاريخ النشر: 06/06/13 | 4:08شعر صْوَيْلح الحسن أن الهاجس التزم الصمتَ الأخرَسَ لا الموحي ، مفاجأةً ، توقَّفَ عن مُصارحة عتمات أحاسيسه وكف عن الهمس الناطق ، وكان صْوَيْلح الحسن على غير عادته بعد الوعكة ، بدأ التململ والتحرُّكَ الجُزْئِيَّ والبَطيء في سريره ، فبات يشعر بالنعاس يتَسَلَّلُ إلى عينيه المتعبتين ، لكثرة ما رأى ، خبرَ وَتَعثَّر في مسار حياته أو الأصح تجربته الحياتية وما عرف من تجارب آخرين .
أدرك الهاجس حاجته للنعاس قليلا ، فأيقظه عندها بهمسه الصارخ :
ما عِنْدَكَ لتقولَهُ لي ، فربَّما أزداد معرفةً وتزْدادُها !
فركَ صْوَيْلح الحسن عينيه بيَدِهِ اليُسرى التي لم تخنه فتكفُّ عن الحراك الجسدي وإنْ كانت الوعكة أصابتها بألم شديد ،
قال يا صاحِبي :
سأسِرُّ لَكَ بحقيقة ما تجمَّع في عقلي القلق من حكايا ، عبرها وما يراد بهذه الحكايا أن تقول ،
يقلقني كثيرًا ما في هذه الحكايا من عبر ،
وما سأقوله لك هو ما توصَّلْتُ إليه ، هو وجهة نظري ،
وكم ساصير سعيدا لو بدأتَ تتطلَّع مثلي إلى ما في تلك الحكايا من عبر ، تتحسَّسُ فهمها كما أتحسَّسه ويتحَسٍّسُه كثيرون من أبْناءِ أمّي .
عاجَلْتُه مُقاطِعًا :
المعذرة !
أمّي هي الحياة
فمنهم من سبقني
ومنهم من جايلني ويُجايلني ومنهم من يرى النور بعد لحظة أو في غدٍ سيجيء لا محالة ما دامت هناك حياة .
قلتُ ، تلك الحكايا ، اثنتان من العراق السومري ومصر الفرعونية وأخرى عبرية قديمة ، لا أعرف أين كتبت وما أصلها .
حَدَّثْتُ الهاجس وكان شديد الإصْغاءِ كما بدا لي :
هذه الحكايا هي في الأصل خرافات قديمة وهي أساطير ، غاية في الاختزال والقصر ، كثيرة الدلالات ، شديدة الإيحاء وشبيهة بالشعر – كما أفهمه ، أوما اصطلح عليه نبيٌّ عظيمٌ عاش بيننا ذات زمن ، إذ قال هي أساطير الأولين ، وهي حكايا شعبية وبدايات قصصٍ قصيرة . وقد بَدَّلَ كتبتها نصوصها وأضاف إليها الرواة أشياء كثيرة ، يصعُبُ حصرها ومعرفتها وما نعرفها عنها هو ما وصل إلينا وحفظته العقول من الضياع .
قلت يا هاجسي وأخي :
لا أكتمك سر رأيي
الذي هو رأيُ آخرين كثيرين ممن جاؤا قبلي وتعلَّمْتُ منهم الكثير ولا زلت أحلم بزيادة ما أعرف
يوجهني قولٌ أعظم :
قل وما أوتيت من المعرفة إلاّ قليلا .
وأحسب أن من كتب معظم تلك الأساطير كتبة قصر وَكهنته ، فكانت في غالبيتها قصص آلهة أو ملوك هم شبه آلهة .
وقد كشف أكثر ما كُتِبَ أنَّ الكتبة كانوا رِجالا ذكورا أو نساء ذكورا ، فهذه الأساطير ظهرت مع تعزُّزِ هيمنة الرجال في مجتمعاتهم وبعد ان باتَ أكثر النسوة شبه نعجات ، يتحكم بهن راع ، فانتشر المثل القائل لكل راعٍ رعية وانتشر القول الرجال قوّامون على النساء .
وكان أكثر ما يهم معظم أولئك الكتبة هو الترويج لفكرة الراعي والنعاج وأن المملكة أنزلتها آلهة ، تجلس على عروش فوق النجوم وتبقي للملوك ومن هو على شاكلتهم أن يبقوا رعاة كل النعاج وحق التصرف بهم كيفَ ، متى وأينما شاؤوا .
الحكاية العراقية الأولى أشغلت عقلي كثيرا وقرأتها بأكثر من ذهن ونظرت إلى ما تخفيه طي سطورها بأكثر من عين فاحصة
هذه الحكاية الأسطورة المكتوبة على لوحات حفظها الزمن طويلا فغالبت ريحه ، برده وجفافه ، وإن كان هشَّمَ بعضها ، تتحدَّثُ عن حلم ملك كان من ملوك العراق ذات يوم قديمٍ قديم ، رحل منذ زمنٍ بعيد . وقد قيل عن الملك ، هذا ما رواه كتبته ، أنه كان يجمعُ بين ذاتين ، ابن آلهة وابن حياة أرضية وكان كل مرامه في هذه الحياة أن يصبح خالدا كالآلِهة ، فلا يموت ويبقى في عرشه ما بقي حيًّا يحكم الناس ويعبدون صولجانه . لكن الكتبة لم يستطيعوا منحه فرصة تحقيق حلم ما كان ممكنا أن يتحقق ولن يتحقَّق ، فالحياة عجلة مسار ، لا يُعْرَفُ متى ابتدأتْ أو متى ستنتهي وكيف ! هذا المسار هو وليد موت وولادة ، يتجدَّدُ دائما .
فالموت ، هذا السر المجهول المرعب والجميل ، هو شرط حياة .
هذا ما علمت تجربة الحياة بعض ناسنا القدماء ، خاصة في العراق القديم ، فكان العراقيون قديمًا وطويلاً منشغلين كثيرا بتداول الفصول . فشُبِّهَ لهم أن دوموزي ، من حسبوه إلهًا فكان أحد آلِهَتهم القديمة ، أيْ تموز، يتجدَّدُ كلَّ عام كمن يقوم من بين الأموات ، فيولد في كانون الثاني مع بدء سقوط المطر وبدء إطلالات ربيع ويموت في نهاية الشهر السادس مع بدء الجفاف وانتهاء الحصاد ، أي في خاتمة كل سنة ، فالسنة السومرية العراقية القديمة كان طولها ستة أشهر فقط ، لا غير .
وما لفت انتباهي في هذه الأسطورة القديمة أن ملوك زمان هم في الحقيقة كحكام اليوم الأشبه بالملوك الآلهة أو أكثر قليلا ، وإن تبدَّلت أسماؤهم ، اختلفت مخارج الحروف في نطقهم الآمر وتغيرت أمكنة عروشهم الذهبية . والأمر الثاني الذي لفت انتباهي في هذه الأسطورة أنَّ الحياة بدأت تفقد جمالياتها البدئية ، كالعيش الجماعي واللغة المشتركة وانعدام الخوف ، حين سقط أنكيدو في شبكة الشهوانية المغرية وقبل بالإنتقال إلى الحياة حيثُ يعيش ملوك ، كهنة معابد ، كتبة ملك وجُنده حراس قصره ، أي في المدينة ، التي هي في نظري أوَّل سطو على الأرض وأوَّلُ قفص حدودي يسكنه حَمامٌ غير قادر على تجاوز حدوده الحديدية .
وكان سقوط أنكيدو ، ابن الغابة البكر ، سقوطه في شباك امرأة بعث الملك بها إليه ليسقط في شباك شهوانيتها الجسدية الخادعة ، فيأمن شره وينجو من احتمالات نصرته لكل من يعاني من عسف الملك وطغيانه ، امرأة تمارس البغاء ، إرضاءً للآلهة والملك ، في معبد ربانيٍّ وكان كهنة ذاك المعبد يرون فيها واحدة من مليحاتٍ قدَّمتهن لهن إلهة الخصب والعطاء .
وحين سقط أنكيدو وابتعد عن صحبه في الحياة ، أبناء الغابة كالغزلان ، الأرانب والذئاب والماء والعشب والشجر ، بدأ جسده يفوح برائحة الشهوة الجسدية المثيرة ، ففزع صحبه وكل من عاش معه في الغابة ، فعاد وحيدا ومهمومًا إلى المدينة ، حيث سرعان ما بات من ناس القصر ، ففقد حريته الحقيقية وفقد كل أمل في العودة إلى ما كان وسرعان ما فقد الحياة ومات .
أما ما يُحزنني كثيرا ، يوجِعُني أشدَّ وجع ، فهو سؤال من أعطى الملك الحق في أن يقتُلَ خامبابا ، الثور الوحشي وحارس الغابة ، ليسهل أمْرُ وصوله إلى جنة عدن القديمة ، فيجد فيها عبق الخلود ليهنأ به .
من يومها باتت الغاية تبرر الواسطة وقد طغى هذا العمل ، الذي بات من تعاليم الأمير ميكيافيلي ، وانتشر في مراحات عالمنا منذ مذبحة طروادة اليونانية التي كان الحصان الخشبي الوسيلة التي مكنت الغزاة اختراق أسوارها وحرق بيوتها وتدمير شوارعها وقتل أكثر ناسها وسبيَ شُبّانها.
حينها توقّفْتُ عن الكلام إذ داهم عقلي شعور حزين ، فتذكرت ما أصاب طبيعة عالمي الكبير والصغير ، من تشويه وتدمير .