يوم قرّر أبي التخلّي عن الفرس!

تاريخ النشر: 08/06/13 | 4:14

منذ أن وعيت، وفي سنوات طفولتي المبكّرة، أذكر أن دارنا لم تخلُ من الحيوانات الأليفة؛ فقد كنّا نقتني الدجاج والحمام والأرانب، وفي نفس الوقت كنّا نملك بقرة أو أكثر، وبالطبع كنّا نقتني فرسًا.

ولا يخفى عليكم ما نجنيه من تلك الحيوانات؛ فالدجاج والحمام والأرانب تزوّدنا بالبيض واللحوم، والبقرة تمدّنا بالحليب واللبن والجبنة والزبدة، والفرس نقضي بها حاجاتنا في التنقّل وجلب المياه أو في أعمال الزراعة!

لكن، ما انطبع في ذاكرتي هو امتلاك أبي – طيّب الله ثراه – على الدوام فرسًا تظلّ عندنا سنوات عديدة قبل أن يستبدلها بفرسٍ جديدة!

ولحسن حظّي، فقد "ربحتُ" من اقتنائنا الفرس، رغم ما تحمّلتُ من أعباء في العناية بها؛ فكثيرًا ما كان أبي – رحمه الله – يكلّفني بمهام تتعلّق بالفرس، كأن يطلب منّي أخذ الفرس للمرعى، أو يُلقي عليّ مهمّة إحضار العشب الأخضر (الحشيش) ، فيضع الحِلس/السرج على ظهرها، ويُلقي بالخُرج فوق السرج، ويربطها بالعنان/الرسن، فأعتلي صهوتها، وأمسك بالرسن، وأتوجّه لملء الخُرج بالحشيش من التلال والسهول الواقعة في أطراف بلدتنا مستخدمًا المنجل أو "الكالوشة"!

ولكن، ما عوّضني عن هذه الأعباء هو متعة ركوب الفرس!

في البداية، كان المرحوم والدي يُردفني خلفه على الفرس، فاحتضنه كي لا أقع عن ظهرها، وتدريجيًّا، وبعد الكثير من التدريب والمران، تمكّنتُ من ركوب الفرس وحدي.

في المرّات الأولى كنتُ أركب الفرس جالسًا على السرج، ممسكًا بالرسن وقد وُضِع اللجام في فمها لكي يعينني على كبح جماحها إذا شمست وعَدَت، ثمّ وبعد أن تعوّدتُ على ركوبها وتحكّمتُ بقيادتها، استغنيتُ عن وضع السرج واللجام، وصار بمقدوري امتطاؤها بدونهما!

كنتُ أعتلي ظهر الفرس، وأمسك الرسن وأهزّه لتتحرّك، وما أن أتجاوز بيوت القرية حتّى أهمزها لتنطلق في عدوها تسابق الريح، وأنا أقبض بشعر رقبتها، وأشدّ ساقيّ على بطنها لكي لا أهوي على الأرض!

أيّ متعة، وأيّ فرح طفوليّ، كانا من نصيبي والفرس تعبر بي المسافات كلمح البصر!

وطيلة تلك السنوات التي كنّا نقتني فرسًا، لا أنسى تلك العناية الفائقة التي كرّسها أبي للفرس؛ فقد كان يحرص على توفير العلف الجيّد لها، وماء الشرب الصافي، وحرص على نظافتها، بل أقول وأناقتها، وصحّتها، فهو "يتفقّدها" بشكل دائم، ليطمئنّ على أحوالها وراحتها!

يتفقّد الاسطبل ونظافته، يفحص ما يقدّمه لها من علف وماء، يداوم على غسلها وتنظيفها، يراقب وضع حوافرها وهل هي بحاجة إلى "حذوات" جديدة فيأخذها إلى ابن بلدتنا المرحوم فايز أبو عيشة، يعاين وضع الحِلِس/السرج، ينظر ليرى حالة الرسن، يفحص وضع "الخُرْج" هل لا زال متماسكًا أم اهترأ؟، وغير ذلك ممّا يخصّ الفرس!

وما لاحظته، أنّ الفرس كانت تحسّ بتلك المعاملة الطيّبة، فتبادل أبي معاملة مماثلة، فهي تُحمْحِم وتُبدي علامات الرضا والارتياح، ولا تثور أو تجمح، وتقوم بكلّ المهامّ والأعمال التي يُلقيها عليها أبي؛ تجرّ العربة إلى حقل الزيتون أو تجرّالمحراث لحراثة قسائم الأرض التي نمتلكها!

وتسرّبت السنون من أعمارنا، هرم أبي، وتجاوز عامه الثمانين، وكبرنا نحن الأبناء، فأنا أنهيت دراستي الجامعيّة، وباشرتُ العمل في التدريس، ثم تزوّجتُ وانتقلت للسكن في بيتي الجديد في البلدة بعيدًا، نوعًا ما، عن بيت الأسرة – بيت الوالدين، ولكنّي اعتدتُ زيارة الوالدين بصورة متواصلة في معظم أيّام الاسبوع

للاطمئنان على صحّتهما، ولتبادل أطراف الحديث والذكريّات التي تُنعش القلوب، وترفّه عن النفوس، وتجلب الكثير من المتعة والسلوى!

وكان أبي – له الرحمة – لا يزال يقتني فرسًا بيضاء اللون، معتدلة الطول، متناسقة الأعضاء، قويّة هادئة الطباع، يحرص كعادته على توفير الغذاء والماء لها، ويعكف على نظافتها وراحتها، وبالمقابل يستخدمها لقضاء حاجاته، وأهمّها؛ جرّ العربة للوصول إلى "عمارة"/حقل الزيتون، وهناك يقوم بحراثة الأرض، أو يقوم بتنظيفها من الأعشاب البريّة الضارّة، أو يقوم بتقليم الأشجار وتسميدها، فتجود علينا بأجود الثمار، وتهبنا أصفى الزيوت المباركة!

وفي يوم قاتم، حضرتُ لبيت الاسرة كعادتي، فألفيتُ أبي الذي بلغ من العمر عِتيّا، منقبضًا مهموما، وغمامة من الحزن تخيّم فوق رأسه، فبعد السلام والتحيّة، سألتُه عن حاله، فقال لي:

اسمع يا ولدي الحبيب، قررتُ التخلّي عن الفرس وبيعها، فهي كما تعرفها، تنال أفضل التغذية، وتشرب أعذب الماء، وتحظى بأحسن عناية، لكنّها لا تتعب ولا تبذل جهودًا كبيرة، فأخاف، بسبب قوّتها، أن أعجز عن التحكّم بها، وقد تشدّني بعنف، فتُلحق بي ما لا أرضاه من الأذى والجروح!

وتنهّد أبي، وخرجت من فمه الكلمات متقطّعة كأنّه يرفض لفظها:

"نعم، قررتُ، يا ولدي، التخلّي عن الفرس وبيعها!".

ذُهلتُ، حزنتُ، تألمتُ، وأيقنتُ أنّ أبي يقرّ أنّ الزمنُ هزمَه!

بعد يومين باع أبي الفرس لأحد أبناء بلدتنا الحبيبة،

والغريب العجيب أنّ الفرس، كما روى لنا شاريها، هزلت .. وضعفت .. ثمّ ماتت بعد أقلّ من أسبوعين على بيعها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة