نظرات في سورة الشمس
تاريخ النشر: 22/10/15 | 3:57بسم الله الرحمن الرحيم
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا{1} وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا{2} وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا{3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا{4} وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا{5} وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا{6} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10} كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا{11} إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا{12} فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا{13} فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا{14} وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا{15} .
شَرْحُ الغَرِيْبِ :
( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) : قسم شريف من الله تعالى بالشمس وضوئها.أو بالشمس ووقت الضحى.
قال الطبري: والصواب أن يقال : أقسم الله بالشمس ونهارها ؛ لأنّ ضوء الشمس الظاهر هو النهار .
( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ) : أي : تبعها ، لأنّه بغياب الشمس يخرج القمر فيتلو الشمس .
( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ) : أي : والنّهار إذا جلَى الأرض بنوره ,أي:أظهر الكائنات والمخلوقات بعد ان اختفت في ظلمة الليل.
( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) : أي والليل إذا غشي الأرض بظلامه .
( وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ) : يحتمل أن تكون (مَا ) مصدرية بمعنى: والسماء و(بنائها) ، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى: والسماء و(من) بناها.
(وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) : وهكذا هنا فإنّ (مَا ) إما مصدرية أو موصولة و(طَحَاهَا) أي بسطها .
قال ابن كثير : وعليه الأكثر من المفسرين وهو: المعروف عند أهل اللغة .
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) : أي خلق النفس البشرية سوية مستقيمة على الفطرة القويمة,فطرة التوحيد .
( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) : أي : فأرشدها إلى فجورها وتقواها أي : بيّن لها طريق الخير وطريق الشر.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) : أي:قد نجح وسعد وفاز من طهّرها من الأخلاق الدنيئة ، والرذائل الخسيسة, والأعمال الفاسدة .
(وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) : أي خسر وشقي من تلطخ بالمعاصي وأقحم نفسه بالموبقات .
( كذَّبت ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ) : ثمود هي: القبيلة المعروفة التي أرسل الله إليها صالح عليه السلام , فكذبت رسولها بالطغيان والبغي والعناد .
( إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ) أي قام أشقى القبيلة وهو: قدار بن سالف, عازماً على عقر الناقة! .
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) : أي قال لهم صالح عليه السلام: دعوا ناقة الله ولا تمسوها بسوء ولا تعتدوا عليها في وقت سقيها فإنّ لها شِربٌ, ولكم شربٌ يوم معلوم.
( فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) : أي كذبوا صالحاً وخالفوا أمره, وعقروا الناقة!
( فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا) : أي غضب عليهم ربهم ؛فأنزل عليهم العذاب الرهيب ,والأخذ الشديد, فسواها أي : فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء فلم يفلت منهم أحد.
( وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ) أي لا يخافُ اللهُ من أحد تبعةَ قضائه, ونكاله بالظالمين والمعتدين!
هدايةُ الآيات :
يقسم الله تعالى بالشمس هذا المخلوق العظيم الذي يفيض على البشرية بنوره الوهاج ويملأ أرجاء الكون بضيائه العريض ، وحرارته الغزيرة !
هذا الشمس العظيمة ذات الشأن العجيب, والنظام الغريب!
فهي تشرق بتدبير العليم الحكيم أول النهار, ثم تسير سيراً حثيثاً حتى تتوسط كبد السماء ومن ثم تزول باتجاه الغرب ، حتى تختفي تماماً عند الغروب في حركة يومية منظمة منسقة تدل على اللطيف الخبير, والخالق القدير, والمدبر العظيم, العزيز العليم !
( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يس : (38) .
( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) فصلت ( 37) .
إنّ الناس لو تأملوا هذه الشمس شروقها وغروبها ، سيرها وحركتها ، حرّها ودفئها؛ لأدركوا أنّ لها رباً مدبراً عليماً حكيماً يستحق أن يُعرف فلا يُجحد ، ويُعبد فلا يُكفر ، ويُوحد فلا يُشرك ، ويُطاع فلا يُعصى !
لو تدبروا ذلك لانحسرت موجة الإلحاد العالمية التي عمّت وطمت !
ولوتأمل العصاة والجناة حرارة الشمس وسمومها لربما تذكروا جهنم ولهيبها فكفوا عن عصيانهم وتابوا من جناياتهم, وندموا عن تفريطهم!
( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) وهذا قسم بالقمر ذي المنظر الجميل ، والنور اللطيف والمنازل المتنوعة والأحوال المتعددة ..
يبدو القمر أول الشهر هلالاً رفيعاً فبالكاد يُرى, ثم يأخذ كلّ ليلة منزلاً جديداً ويُكبر حجمه قليلاً قليلاً, حتى يستدير بدراً بديعاً منتصف الشهر, ثم يعود بالانحسار حتى يعود هلالاً رفيعاً كما بدا, ثم يختفي ليعود مرة أخرى في مستهل شهر جديد في حركة منظمة لا أجمل ولا أروع منها !
( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يس : (39)
وكم في القمر من الأسرار والحكم والفوائد والنعم ومن أجلِّها:
قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) البقرة (189)
حيث بالقمر تعرف مواقيت العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج, ومعاملات الناس من حلول مواعيد السداد, وقضاء الديون, وعِدَد النساء من حِدَادٍ أو طلاق أو نفاس وغير ذلك.
( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ) : النَّهار هذا الزمان المُهم من حياة الإنسان جعله الله وقتاً لطلب المعاش ( وجعلنا النهار معاشاً ) ووقتاً لعمارة الأرض وإحيائها كما هو وقت السعي في طلب العلم وتحصيله ، وعقد رايات الجهاد ، وغزو أهل الكفر والإلحاد ، والنظر في مصالح الأمة ، وفصل النزاع وإحقاق الحق، وإبطال الباطل عبر مجالس القضاء ، وغير ذلك من المصالح العظيمة والمهام الجسيمة .
فما أجلّ النهار من نعمة ، وما أعظمه من منّة وما أحرى خالقه أن يُوحد ويُعبد ، ويُعظم ويُقدس ، ويُحمد ويُحب !
( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) : الليل هو: الزمان الآخر المُهم من حياة الإنسان جعله الله وقتاً للراحة والسكون ، والاسترخاء والنوم ، كما جعل منه وقتاً للتهجد والقيام ، والابتهال والدعاء ، والخلوة والمناجاة لاسيما وقت النزول الإلهي آخر الليل .
فما أجلُّه من نعمة, وما أعظمه من منة, وما أحرى خالقه أن يفرد بالعبودية ، ويعظم بالربوبية !
بيد أنّ العباد جعلوا من الليل وقت السهر والسمر على المنكر والمحرم ، والخبيث والخليع من فيلم داعر ، ومشهد ماجن ، ومسرح هابط ، ومرقص فاحش ، فدونك دور السينما ، وخشبات المسرح ، وبيوت الخنا لا تفتح أبوابها إلا في أواسط الليل ولا تقفله إلا بعد حلول الفجر وظهور النهار فإلى الله المشتكى .
( وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا* وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا* وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) :
وهي آية أخرى تدل على عظمة الخالق المدبر حيث خلق هذه السماء العالية الفسيحة بأرجائها المترامية الأطراف!
وقد تقدم الكلام على السماء في مواضع أخرى ، وفيه الكفاية كما تقدم الكلام أيضاً عن الأرض بإسهاب ، في مواضع عدة!
وهنا أتكلم عن بانيها وفاطرها سبحانه باعتبار ” ما ” موصولة فعلى هذا الاعتبار يكون الله تعالى قد أقسم بأعظم مقسم به وهو نفسه الشريفة في ثلاثة مواضع من السورة كما في هذه الآيات الثلاث .
وملخص القول أنّ الله تعالى أقسم بنفسه الشريفة الكريمة على فلاح من زكى نفسه وخيبة من دساها؛ ليدل على فضل الفلاح وأهميته ، وخطورة ضده وشناعته !
فما أحرى العبد بالسعي الدؤوب ، والحرص الأكيد على تعاهد نفسه بالإيمان وحسن المعتقد ، وجمال العمل وإتقانه وسلامة القول وصلاحه ، ومبادرة التوبة والصدق فيها .
( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا* فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا* وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا )
وهنا يذكر الله تعالى أنموذجاً من القوم الذين لم يزكوا أنفسهم بل دسّوها بالشرك والكفر والفسوق ، والعناد والمكابرة والتحدي !
يذكرُ ثمود التي كذّبتْ بطغواها أي: بطغيانها الشديد ، وأسرفت في تجاوز الحدود, وخرق السدود, حتى بلغت بهم الخسّة ، والتحدي أن عقروا ناقة الله التي بعثها لهم آية ، وحذّرهم على لسان نبيه الكريم من مجرد مسّها بسوء؛ فإذا بهم يعقرونها عقراً استخفافاً واستهزاءً بربهم فحلت عليهم اللعنة ونزل بهم غضب الله ونقمته فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين !
وقد عمت العقوبة الجميع مع أنّ الذي عقر الناقة أحدهم, وهذا دليل على شؤم التواطئ على الفعل القبيح,وعدم إنكار المنكر والأخذ على يد السفيه.
وحُقَّ أن يذل الله المتجبرين, ويهلك المعاندين فهو الرب الملك الحق المبين, المتصرف ذو القوة المتين! .
فوائد السورة :
1-أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته .
2-أنّ الله تعالى يقسم بنفسه الشريفة الكريمة .
3-رحمة الله بعباده حيث منّ عليهم بهذه المخلوقات العظيمة من شمس وقمر, ونهار وليل, وسماء وأرض وغيرها .
4-أنّ الله تعالى فطر الأنفس على التوحيد.
5-أن الله تعالى ألهم كل نفس معرفة ما ينفعُها ويُصلحها, وما يضرُّها ويُفسدها .
6-أنّ فلاح النفس وفوزها مرهون بتزكيتها بالعمل الصالح ، وأنّ خيبتها وخسارتها مرهون بكفرها وفسوقها !
7-قوم ثمود أنموذج للخائبين الخاسرين،والبغاة الظالمين؛فكانت نهايتهم عبرة للمعتبرين والعارفين.
8-شؤم التواطؤ على الفعل القبيح,وعدم إنكار المنكر والأخذ على يد السفيه.
د. رياض بن محمد