الذاكرة كنز حياة (6)
تاريخ النشر: 14/06/13 | 14:43حين حضرني ، أوَّلَ مَرَّةٍ ، وجه صديقي الأسْمر البشوش ، زَميل مقعد الدراسة ، وكان يقف قبالة باب بيتي يقرع الباب وينادي ، ضاحِكًا ، بصوته المَحوزِيِّ الجَهور :
إفتح الباب يا صْويلح " الزمن " ، لا الحَسَنْ !
حينها ازْدَدْتُ قناعةَ وإدْراكًا أن العُمْرَ لحظة بين عَتْمَتين ، عتمة الرَّحْمِ وعتمة اللحد ، كما كتب أخٌ لي في كتيِّبِهِ عن التَّصَوُّف ، كازانزاكس اليوناني ، من اصطفيته ليكون واحدا من قلة من صحبي ، فالعمرُ هو شيءٌ ولا شيء وأهم ما فيه هو هذه الذاكرة الحياتية ، الخاصة والعامة ، وهي في حقيقتها وليد تجربة حياتية ، نعيشها فنكونها . والذاكرة ، كما علَّمَتْني التجربة الحياتية ، كنز حياة ، كنزُ لا يفنى ولا يشيخ . وكم يجمل بنا أن نحتفظ بها كلَّها ، نقرأها بتأمُّل وعمق ، لنحسن غربلتها ، فنحسن معرفة القمح ومعرفة الزّوّان ، فنحتفظ بما يبقيه الغربال ليصير جزءًا مقبولا من هذه الذاكرة .
حينها لاحظتُ أذُنَيّ الهامس وقد انتصبتا قليلا ، فتذكَّرْتُ واحدة من القصص المصرية القديمة جِدُّا ، كان ينتظر سماعها ، التفتُّ إليه فقلت يا هاجِسي :
هِيَ قِصَّةٌ قديمة ، ربما تكون أول قصة وصلتنا مكتوبة على ورق البردة . رأيتُ فيها أنها توثِّق لزمن كان بين مرحلتين ، مرحلة ما نحن فيه اليوم ومرحلة ما كانته بدايات الحياة ، فهي تتحدَّثُ عن أخوين وعن زوجة الأخ الأكبر . وقد حاولت تلك الزوجة ، كما تقول القصة ، إغراء أخ زوجها والطلب منه أن يضاجعها . فالمرأة في هذه القصة وغيرها من قصص كثيرة مغرية للرجل ، لكن الأخ الأصغر يرفض محاولة الإغراء ويعود إلى العمل في حقل ، له ولأخيه . وحين يعود الأخ الأكبر إلى بيته وزوجته ، تدعي تلك الزوجة أن الأخ الأصغر حاول أن يراودها عن نفسها ، حين خرجت من غرفة التزيُّن ، لكنها رفضت وحرضت الأخ الأكبر على قتل أخيه الأصغر . فالمرأة ، كما تُصَوِّرُها القصة وهي زوجة من يتمتع بسمات ألوهية ، خائنة ، لا تؤتمن ، كاذبة ومحرضة على القتل .
هذه الأوصاف كانت ضرورية لإرهاب المرأة ، كل امرأة ، وإخضاعها كُلِّيا لسلْطَةِ الرجل الذكر .
وقد عَلَّمتني قراءاتي الكثيرة البحث المنقب عما نشأ من أساطير إنسانية ، استمدتْ مضمونها منها .
تأمَّلْتُ قِصَّة الصديق يوسف ، فوجدت الشبه الصارخ بين القصتين من حيث المضمون ، لا التفاصيل السردية . ففيها تحاول إمرأة العزيز ( زوجة ملك مصر القديمة ذي السمات الألوهيَّة أيضًا ) مُراودة يوسف عن نفسه ، وعلى مرْأى من نساء أخريات ، لكنه يرفض محاولتها وكان قد همَّ بها وهمَّتْ به " لولا أن جاءه برهان ربي " .
ويمكن الرؤية ذاتها في قصة الملك أوديب اليونانية القديمة .
ويمكن القول ذاته فيما يروى عن الملك العبري داوود ، إذ أغرته زوجة أحد ضباطه ، فعمل على أن تصير واحدة من زوجاته ، أرسل زوجها لواحدة من المعارك ورتب له وسيلة لقتله ، فتصبح واحدة من نعاجه ، حتى صدق فيه القول : " قتلت وورثت " .
قلت لهاجسي ، سأتوقف عن الكلام قليلا كيلا يساء فهمي ، وحدَّثتُ نفسي ، كَلّمْتها بصمت أخرس :
ألله كم يحزنني ما نحن فيه ، شوهوا الذاكرة ولا زالوا يشوِّهونها بمختلف الكتابات والقراءات . وأكثر ما يحزنني هو حال مجتمعاتنا وما دفعت المرأة إليه ويوجعني أشد الوجع واقع أعيشه في مجتمعي الصغير والكبير ، فالمرأة في سلوكياتها اليومية هي أكثر من يسهم في تكرسس واقعها العبودي .
كِدْتُ أصيح في انفعال عاشق :
ما أجملك أيتها المرأة ،
فأنتِ أمّي وابنتي وأختي ( شقّي الآخر ) وجارتي ، أيتها الزوجة الحبيبة من رأيت فيك ذاتي الأخرى ، فأجمل ما فيك هو حين أراك تركضين في وعور عالمنا بحثا عن نبتة " زوفا " وورقات نعناع برّي وكمشات نبتةٍ عَبِقة ولا يشغل ذهنك المتفتح على الحياة إغراءات جسد شهوانية مفتعلة ، كتلك التي قتلت أخي أنكيدو ، حرمته وحرمتني هدأة بال الحرية الحقيقية ، حرية الفكر والحركة وزجَّته سجينا في حواكير قصر هي في الحقيقة قفص حدودي وحديدي ، ولا أزال من يومها أحمل ونحمل صليب عذاباتٍ متراكمة ، هي عذابات إنسانيتي ؟
التزمتُ الصمت قليلا ، لأستعيد في الذاكرة تلك الحكمة العبرية ( والأصح حسبوها حكمة فباتت جزءًا من تراثهم الثقافي ) .
حين بدأت أتقدَّمُ في السنِّ ، تذكرت تلك الحكمة كثيرا وتأمَلْتُ عبرتها طويلاً .
تقول تلك الحكمة ان حكيما عبريا كان يجلس عند ضفة نهر ، رأى جمجمة تعوم في مائه ، فقال لها لأنك قتلت قُتِلْتِ ونهاية قاتليك أن يُقْتَلوا !
غمرتني تلك المقولة بخوفٍ شديد ، سألتُ نفسي أكثر من مرَّة : أيُّ عالمٍ هو هذا ، بات حلقة قتلٍ دائمٍ ، فلا خروج من هذه الحلقة الفظيعة المُدَمِّرة لإنسانيتي .
ألم بي خوف شديد ، كاد يصيبني بحالة يأس هو خلاف ما أنا حقا فيه ، فالتزمت الصمت ثانية !
سأل صويلح الحسن نفسه أكثر من مرَّة ، سأل :
أيَّةُ ثقافةٍ هي هذه ؟ وأين الحكمة في مثل تلك المقولة ؟ .
يرى ذلك الحكيم جُمْجُمَةً ، اقتُطِعَتْ من رأس ، فكان أوَّلُ ردِّ فعله أن قال مثل تلك المقولة ، فلم يَرَ في القتل جريمة ، بل رأى فيه عقابًا على ما ارتكبته من قتل في وقت سابق . ولم يَرَ ضرورة إطلاق صيحة :
كفّوا عن القتل ،
فالحلقة المفرغة التي يصفها هي حلقة مُدّمِّرَة لإنسانيتنا وهذا ما يخيف في مثل تلك الثقافات .