مقابلة مع جميل السلحوت
تاريخ النشر: 17/06/13 | 0:11أكد الأديب والروائي المقدسي جميل السلحوت انه لم يتقصد أن يلعب دور المؤرخ في مشروعه الروائي، رغم انه اعتمد كثيرا فيه على السرد والتاريخ الشفوي والحكايات المروية للمجمتع المقدسي بريفه ومدينته، وقال في حوار مع "أشرعة" لم أكتب تأريخا، لكنني كتبت عن الحياة الاجتماعية لمجتمع القرية، التي كان يسودها التخلف، وهذا جانب أغفله كتابنا، بينما ارتأيت أنا أنه سبب من أسباب الهزيمة التي نعيشها.
وعن اختياره القدس بطلا دائما لأعماله قال: القدس جنة السماوات والأرض، وهي عروس المدائن بحق وحقيقة مشيرا الى انه يجري سرقة تاريخها كما سرقت جغرافيتها، ومن أبسط الأمور أن نكتب عن حاراتها وأزقتها وأسواقها التي احتضنتنا وأظلتنا. ونفى اتهامه بإهمال وتجاهل دور المرأة قائلا: لم أهمل دور المرأة مطلقا، ولم أبالغ به أيضا، فالمرأة الريفية كانت ولا تزال تتحمل عبء العمل أكثر من الرجل، وتساهم بشكل كبير في الاقتصاد المنزلي، لكنها لم تكن صاحبة قرار.
يذكر أن جميل السلحوت من مواليد جبل المكبر، القدس 1949 ويقيم فيه.
عمل محررا في الصحافة من عام 1974- 1998 ، وترأس تحرير صحيفة الصدى الأسبوعية. ومجلة "مع الناس". عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني ومسرح القصبة. اختير مؤخرا شخصية العام الثقافية المقدسية. صدر له عدد العديد من الكتب منها: شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .. صور من الأدب الشعبي الفلسطيني .. مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .. القضاء العشائري. بالإضافة إلى مجموعات قصصية للأطفال منها: المخاض .. حمار الشيخ .. أنا وحماري .. الغول .. كلب البراري .. عش الدبابير رواية للفتيات والفتيان. ومن رواياته: ظلام النهار .. جنة الجحيم .. هوان النعيم .. برد الصيف.
أعد وحرر الكتب التسجيلية لندوة (اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني) ، (الحكواتي سابقا) في القدس ومنها: يبوس .. ايلياء .. قراءات لنماذج من أدب الأطفال.
* إذا عدنا سويا إلى البدايات، وسألنا عن الأجواء المحيطة آنذاك والأدباء الذين تأثرت بهم، ماذا تقول؟
** ولدت عام 1949 في عرب السواحرة، جبل المكبر، 5كم جنوب أسوار القدس، وهم عشائر بدوية بدأوا يستقرون في عشرينيات القرن العشرين، وكانت الأميّة هي السائدة في فترة طفولتي، أول مدرسة افتتحت في القرية عام 1944، فأبواي أميّان، ولم يكن هناك كهرباء أو راديو أو تلفزيون أو حتى صحيفة، وعشت طفولة ذبيحة، وسط حياة فقر مدقع. دخلت المدرسة في سن السادسة بطريقة استثنائية، لمرابطتي على نافذة الصف الذي يدرس فيه أخي الذي يكبرني بعامين، ورسب في الصف الابتدائي الأول، ولأنني كنت أجيب عن أسئلة المعلم إجابات صحيحة بدون استئذان مع أنني خارج الصف، فقد أشفق عليّ المدرس عندما أمطرت السماء وأنا على النافذة، فتكلم مع المدير بخصوصي، فوافق بدوره على إدخالي الصف موضحا بأنني اذا نجحت سيسجلونني في نهاية العام ويرفعونني، واذا لم أنجح فسيسجلونني للعام القادم للصف الأول، كان سن السابعة هو سن القبول للأول ابتدائي، وانتهى العام الدراسي بتفوقي، وحصولي على طابة ثمنها قرش أردني كمكافأة، وفي الصف الرابع عاقبني مدرس اللغة العربية على موضوع تعبير كتبته متهما إياي بأن أبي قد كتبه لي، فأقسمت له بأنني من كتبه، فزاد سخطه عليّ بحجة أنني أقسمت يمينا كاذبا، ولم أكن أعرف وقتها أن أبي كان أميّا، ومرّ بنا معلم الدين وهو يضربني وأنا أبكي، فأمسك به عني وهو يقول: هذا طالب مجتهد لماذا تضربه ؟ فأخبره قصتي، فقال له معلم الدين: هذا مجتهد ويكتب عبارات قوية، واذا لم تصدق خذه الى غرفة المعلمين واطلب منه أن يكتب موضوعا جديدا، فكتبت الموضوع ولما قرأه المعلم، لطمني على رأسي وقال:" يبدو انك شاطر يا تيس"! وكانت على طاولة المعلمين مجلة رسالة المعلم، فأمسكت بها وشرعت أقرأ، فانتبه لي معلم الدين، وسألني إن كنت أفهم المكتوب فيها؟ وعرض عليّ أن آخذها معي حتى يوم غد، فأخذتها، وفي اليوم التالي ناقشني في قصة مكتوبة بقلم أحد المعلمين في مدرسة أخرى، فأعجب بها، وفي اليوم الذي يليه أحضر لي كتاب مجموعة قصصية لمحمود سيف الدين الإيراني، فقرأتها في نفس الليلة على ضوء لامبة كاز.
ومنذ الصف الرابع الابتدائي، وأنا أدخر مصروفي الشخصي الذي لم يتجاوز نصف قرش يوميا، وأذهب يوم الجمعة الى القدس مشيا على الأقدام لأشتري كتابا، بغض النظر عن كاتبه أو محتواه، كما كنت أشتري مجلة العربي بعشرة قروش، وفي المرحلة الإعدادية تزوج الأديب المرحوم خليل السواحري ابنة عمي، وكان يحضر لبيت عمّي المجاور لبيتنا وفي يده رزمة كتب، ولما رأى اهتمامي أخذ يعيرني كتبه ويناقشني بها، وفي المرحلة الإعدادية في مدرسة قرية صورباهر المجاورة، لأنه لم يكن مرحلة إعدادية في قريتنا، تعرضت للضرب على موضوع التعبير، تماما مثلما حصل معي في الرابع الابتدائي، وفي الصف الثاني الإعدادي أرسلت بعض كتاباتي الى صحيفة الجهاد المقدسية عبر البريد، فنشروا لي، وكانت فرحتي كبيرة بذلك عندما أرى ما نشرت في الصحيفة التي كان يشترك بنسخة منها معلمو المدرسة، فيخبرني أحدهم بذلك.
وفي المرحلة الثانوية في القدس تعرفت على مقر الصحيفة، فأردت أن أوفر طابع البريد، قرش ونصف، فأخذت موضوعا بيدي لأوصله للصحيفة، ولما رأوني فتى صغيرا، ضحكوا قهقهة وطردوني، ولم يعودوا ينشرون لي، فأرسلت المواضيع التي رفضوا نشرها برسائل بريدية تحت اسم (جميل حسين) وحسين هو اسم أبي، فنشروها لي، وبقيت أكتب تحت هذا الاسم حتى عام 1975 عندما عملت في صحيفة الفجر المقدسية، وفي المرحلة الثانوية تأثرت كثيرا بكتابات المرحوم خليل السواحري، وأديبنا الكبير محمود شقير، اللذين تربطني بهما صلة قربي، وهما يكبرانني بحوالي ثماني سنوات.
لقد شكلت هزيمة يونيو 1967 مفصلا مؤلما في حياتي، فقد وقعت وأنا على مقاعد امتحان الثانوية العامة، ومن سخريات القدر أنها تصادف تاريخ مولدي في 5 يونيو، حيث بلغت الثامنة عشرة من عمري، وتعرضت للاعتقال لمدة ثلاثة عشر شهرا في العامين 1969-1970 وفي الاعتقال الذي أورثني انزلاقا غضروفيا في رقبتي، وآخر في أسفل العمود الفقري وتقرحات في جهازي الهضمي "المعدة والقولون" قرأت الكتب الموجودة في السجن، وهي لا تصل الى مئة كتاب، غالبيتها روايات احسان عبد القدس، ومغامرات أغاثا كريستي، ومذكرات تشرتشل، قرأتها أكثر من مرّة لعدم وجود كتب غيرها.
* تتميز بالتعددية، فأنت روائي وكاتب للأطفال وناقد أدبي وباحث، والسؤال أين تجد جميل السحلوت بين كل هذا ؟
** كتبت قصة الأطفال والنقد، وعملت أبحاثا في التراث الشعبي كرد فعل على ما يتعرض له تراثنا من سرقة وطمس وتشويه، وكتبت النقد الأدبي، وكتبت الرواية، وأنا سأحاول الكتابة دائما، وأطمح أن تلقى كتاباتي قبولا، وأنا مهتم في هذه المرحلة بالكتابة النقدية وبكتابة الرواية، فقد صدر لي عام 2007 رواية "عشّ الدبابير" للفتيات والفتيان، وصدر لي في العام 2011 روايتان "ظلام النهار وجنة الجحيم" وهذا العام 2012 صدر لي الجزء الثالث "هوان النعيم" وهي ثلاثة أجزاء من سباعية تمثل مرحلة التيه الفلسطيني.
* هل يمكن الحديث عن مشروع روائي للأديب جميل السلحوت ولاسيما بعد اعتبار روايته الجديدة "برد الصيف" جزءا رابعا من "درب الآلام الفلسطيني" ؟
** نعم لديّ مخطط لمشروع روائي من سبعة أجزاء سأسميه "درب الآلام الفلسطيني" كتبت ونشرت منها أربعة هي: ظلام النهار .. جنة الجحيم .. هوان النعيم .. برد الصيف، وأنا الآن أكتب الجزء الخامس، وآمل أن أنتهي منه قبل نهاية هذا العام.
* على صعيد الرواية، لفتني بداية ذلك التناقض في اسم الروايات "ظلام النهار" و"جنّة الجحيم" و"برد الصيف" قبل الخوض فيما تطرحه الرواية من تساؤلات مقلقلة ؟
** نعم فحياتنا قائمة على التناقضات والضدية، فظلام النهار وجنة الجحيم مثلا البطل فيهما هو التخلف في كافة المجالات، وهو الذي أوصلنا الى هزيمة العام 1967 فأصبحنا في هوان، بعد أن كنا في نعيم.
* في روايتيك الأولى والثانية اعتمدت كثيرا على السرد والتاريخي الشفوي والحكايات المروية للمجتمع المقدسي بريفه ومدينته، وجاء العمل أقرب الى التأريخ. والسؤال أين الخط الفاصل بين الروائي والمؤرخ ؟
** لم أكتب تأريخا، لكنني كتبت عن الحياة الاجتماعية لمجتمع القرية، التي كان يسودها التخلف، وهذا جانب أغفله كتابنا، بينما ارتأيت أنا أنه سبب من أسباب الهزيمة التي نعيشها.
* وكأن المكان (القدس) هو بطل الرواية في ظل تغييب متعمد للزمان بعد الإشارة إليه في بداية العمل (خمسينيات القرن الماضي) ؟
** القدس جنة السماوات والأرض، وهي عروس المدائن بحق وحقيقة، ويا حسرة التاريخ لو يعلم العرب أيّ مدينة أضاعوا بضياع القدس؟ لقد أضاعوا دينهم ودنياهم وتاريخهم وحضارتهم، فالمدينة تتآكل يوميا، ويجري سرقة تاريخها كما سرقت جغرافيتها، وأنا في أعمالي الروائية أتجول فيها، في حاراتها وأسواقها وأزقتها، ومساجدها وكنائسها، لينتبه القارئ كيف كانت؟ وأين أصبحت؟ القدس حبيتي وقاتلتي ومعذبتي وتاريخي وثقافتي ومعبودتي وجنّتي، وحقها علينا كبير جدا، وكلنا مقصرون بحقها، ومن أبسط الأمور أن نكتب عن حاراتها وأزقتها وأسواقها التي احتضنتنا وأظلتنا، فاعذرينا يا قدس فأنت تستحقين الكثير الكثير.
* في "ظلام النهار" جعلت (الجهل) هو سيّد الموقف، ولم يعد مجرد معنى فقط، بل صار شخصا متحكما يأمر وينهى، ويخطط ويحلل ويحرم، واصبح لديك هو البطل الحقيقي الذي تدور أحداث الرواية حوله، فجميع القصص الفرعية ما هي إلا تجليات لهذا الجهل؟.
** نعم الجهل والتخلف هما سيدا الموقف في هذه الرواية، فالأميّة والفقر والحرمان والاضطهاد كانت هي القيم السائدة في تلك المرحلة، مرحلة أربعينيات ومنتصف خمسينيات القرن العشرين، وصاحب تلك المرحلة نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1984، وما صاحبها من تشريد وتشتت أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، وضياع حوالي 78% من فلسطين، وكانت الحقائق ظاهرة كالشمس في وضح النهار، لكنهم لم يروها وكأن نهارهم كان مظلما.
* أيضا في "ظلام النهار" تدفعنا إلى التساؤل عمّن هو المسؤول عن هذا الظلام، الناس البسطاء، الفقراء غير المتعلمين، الذين ابتعدت عنهم السلطة والمدينة والثقافة والحضارة، السلطة نفسها ؟
** في الفترة ما بين عام 1917 ومايو 1948 كان الانتداب البريطاني الذي فتح البلاد للهجرات اليهودية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، تنفيذا لوعد بلفور، وبعد تقسيم العالم العربي الى دويلات ووضع بينها حدودا وهمية تنفيذا لاتفاقات سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وقد نكل هذا الانتداب بشعبنا فأعدم الكثيرين، واعتقل الآلاف، ونفى العشرات، وأهلك البلاد والعباد، وقامت اسرائيل في 15 مايو 1948 وهو يوم انتهاء الانتداب، وهُجّر اللاجئون الفلسطينيون من ديارهم، على أمل العودة اليها خلال أيام كما وعدهم القادة العرب، خرجوا الى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، خرجوا الى اقتصاد متخلف عموده الفقري الزراعة العفوية المعتمدة على مياه الأمطار غير المنتظمة، وجاءتهم اربع سنوات متتاليات قحطا، فانتشر الفقر بشكل كبير، ولولا التمور العراقية لمات الناس جوعا، وحتى الآن يطلق من عاصروا تلك المرحلة عليها "سنوات العجوة". فالانتداب البريطاني و"إسرائيل" هما المسؤولان عن ظلام تلك المرحلة.
* في "جنة الجحيم" تصويرك للمثقف المحلي السلبي العاجز غير مسموع الرأي، الذي يضطر للاعتذار ممن لا يستحق طلب الاعتذار، يدفعني لسؤالك عن مفهومك للمثقف ودوره، وبالتالي لطبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة السياسية ؟
** دور المثقف الملتزم الواعي هو التنبيه للمخاطر التي تحيق بالبلاد وبالشعب وبالأمة، وأن يكون ناصحا للقائد السياسي لا أن يكون متذيلا له ومروجا لسياساته السلبية، وعليه أن يشيد بالإيجابيات وأن يفضح السلبيات، مع التأكيد على أن الكاتب ليس واعظا أخلاقيا أو دينيا.
* الرواية كجنس أدبي لها إشكاليتها الخاصة دائماً من حيث اهتمامها الأساسي بأحداث وأبطال لهم أفكارهم ومعتقداتهم، وللكاتب أيضاً أفكاره ومعتقداته. والسؤال هل ترى أنك كنت محايدا في تسيير أحداث أبطال أعمالك، لاسيما وأن العمل أقرب إلى السيرة الذاتية ؟
** لا يوجد إنسان محايد إلا من فقد عقله، وأنا لست محايدا في كتاباتي، بل أنا منحاز لوطني فلسطين، ولوطني العربي الكبير ولشعبي ولأمّتي.
* في كلتا الروايتين لجأت الى اللغة المحكية البدوية والقروية، وبقدر ما زاد هذا الامر الروايتين صدقا وحيوية، إلا أنه حصرهما داخل المجتمع الفلسطيني، فضلا عن الخوف من طغيان العامية ؟
** لجأت الى اللغة المحكية التي جاءت على لسان شخوص الرواية الشعبيين، ليكون التعبير عنهم صادقا، ولو فصّحت لغة هذه الشخصيات لأفسدتها، ولا يغيب عن البال أن اللهجة الفلسطينية المحكية مفهومة في المشرق العربي على الأقل، وقد كتب عن الروايتين بعد نشرهما على مواقع إلكترونية كتاب من الأردن، سوريا، العراق، والامارات العربية، وتونس، مما يثبت أن اللهجة المحكية مفهومة لهم.
* ولكنك في "هوان النعيم" وفي "برد الصيف" ابتعدت نسبيا عن استخدام اللغة العامية المحكية على ألسنة كبار السن، لماذا ؟.
** في الجزئيين الأولين تكلمت الشخصيات الشعبية باللغة المحكية لتعبر عن نفسها بشكل واضح، وفوجئت من خلال ما كتبه بعض القراء الجادين والنقاد العرب أنهم واجهوا مشكلة في فهم بعض الألفاظ الشعبية المحكية، فلجأت بعدها الى الفصحى ليكون العمل الروائي مفهوما للقراء العرب أينما تواجدوا.
* رأى بعض النقاد انك لم تتعمق في رصد اللغة الداخلية لبعض شخوص روايتك "جنة الجحيم" أو ما يعرف بالمونولوج الداخلي، والحالة النفسية الداخلية لبعض الشخوص المهمة ؟
** ليس مطلوبا "التعمق في المونولوج الداخلي لكل شخوص الرواية، لكن ذلك مطلوب في الشخصيات الرئيسية وهذا ما فعلته.
* قصرت العلاقة مع الآخر على الجانب الجنسي من خلال استغلال براءة الفتى خليل بعلاقة جنسية غير متكافئة، لماذا ؟
** في الجزء الأول "ظلام النهار" صحيح هذا الكلام حيث تعرض خليل الى اغتصاب من فتاة بريطانية، وهو في الرابعة عشرة من عمره، لكن من سيتابع الأجزاء الأخرى سيجد أن ذلك مجرد تمهيد لأحداث لاحقة مختلفة، وطرحت هذه القضية في الجزء الأول لتبيان الاختلاف الثقافي والتربوي عندنا وعند الآخر، ولتبيان أن الشرف لا يتمحور ما بين الفخذين فقط، فشرف الأرض والوطن أهم بكثير من علاقة جنسية عابرة.
* يلاحظ التركيز في أعمالك بشكل عام على الربط بين السياسي والاجتماعي والثقافي، من خلال تناولك لقضية عمالة الأطفال وعلاقة ذوي الحاجات الخاصة مع مجتمعهم ؟
** الأطفال هم (نصف الحاضر وكل المستقبل) وأطفالنا يستحقون الكثير، فطفولتهم ذبيحة هم الآخرون، فآلاف الأطفال من شعبي قتلوا وتعرضوا للاعتقال والتعذيب، فالطفل في بلادي يولد وهو يحمل شهادة ميلاده في يمينه، وشهادة وفاته في يساره لتعبئتها حينما تقع الواقعة، وهم محرومون من حقوق كثيرة، وأطفال بعض الدول الشقيقة مثل العراق والصومال وغيرها ليسوا أحسن حالا. وذوو الحاجات الخاصة لا يلقون ما يستحقون من رعاية مع أن منهم مبدعين في مختلف المجالات، والبطل الرئيسي في سلسلة رواياتي "أكتع" ودوره أكبر بكثير من دور السليمين.
* يسجل لك في رواية "برد الصيف" مزج الخيال بالواقع، مستمدًا هذا الخيال من الواقع الأليم والقهر الواقع على الشّعب ؟
** نعم الكاتب ليس ناقلا أمينا لما يحدث على أرض الواقع، فيلجأ الى الخيال الواقعي ليرسم الصورة بجماليات يتقبلها القارئ رغم مرارتها. والخيال الواقعي في كتاباتي يصعب على القارئ أو حتى الناقد أن يميزه من الواقع بلحمه وشحمه.
* رأى البعض بان رواية " برد الصيف" لا تحمل حبكة روائيّة مطوّلة، بل هي عدّة حبكات تتكرّر بشكل بسيط ومصغر على طول الرّواية. ما رأيك؟
** للقارئ والناقد أن يحكم على العمل الأدبي كيفما يشاء، وأنا احترم رأي الجميع، وطبيعي جدا أن يكون هناك تفاوت في فهم المقروء بين شخص وآخر، ولم أسمع أو أقرأ أن أحدا يتهمني بالتكرار، بل بالعكس معروف عني أنني لا أكرر نفسي ولا أكرر أحدا غيري، بل انني أتطرق لمواضيع لم يطرق بابها أحد قبلي. وأحد الروائيين المعروفين قال لي عن مسلسلي الروائي هذا :"لقد طرقت بابا لم نجرؤ على الاقتراب منه، وأنا أغبطك على ذلك" أما بالنسبة للحبكة الروائية فاعتقد أنها موجودة في الأجزاء الأربعة بشكل تصاعدي ولافت، واذا قالت العرب بأن "الحديث ذو شجون" فالرواية لها تشعبات تتباعد وتتقارب لتخدم السرد الروائي، وهذا ما أفعله.
* أيضا استوقفني تجاهلك لدور المرأة وتصويرها في مكانة متدنية كثيرا، مغلوبة على أمرها، مُسيّرة خلف رجلها، مع ان المرأة كانت حاضرة بقوة في المجتمع الريفي؟
** لم أهمل دور المرأة مطلقا، ولم أبالغ به أيضا، فالمرأة الريفية كانت ولا تزال تتحمل عبء العمل أكثر من الرجل، وتساهم بشكل كبير في الاقتصاد المنزلي، لكنها لم تكن صاحبة قرار، فالزواج المبكر، وعدم أخذ رأي المرأة في الزواج، وعدم اعطائها حقها في الميراث كانت سائدة، ولا يزال بعض هذه الأمور موجودا حتى أيامنا هذه، ولا تزال حقوقها منقوصة أيضا، فمجتمعاتنا ذكورية، وهذا ليس سرا. وقد أعطيت للمرأة دورا إيجابيا أكثر مما كان لها على أرض الواقع،
* كان للسياسة حضور مكثف في روايتك الأخيرة "برد الصيف"، حتى أنك لتجد بين الكلمة والكلمة سياسة، ألا ترى معي ان هذا يضر بالعمل الروائي ويضعفه ؟
** بداية أنا وأبناء جيلي، وحتى الجيل السابق لنا، وجيل أبنائي أيضا ضحايا لأوضاع سياسية لا خيار لنا فيها، فوطننا محتل، وشعبنا مشتت في أصقاع الأرض، ونتعرض للقتل والسجن والحصار، وأرضنا تُنهب أمام ناظرينا، ونُحارب حتى برغيف الخبز المرّ وقوت عيالنا، وأسوأ السجون هي التي بلا أسوار، ونحن جزء من أمّة ومن وطن كبير مستهدفين من القوى العالمية الشريرة عبر التاريخ، فكيف سننجو من الهمّ السياسي ونحن ضحايا له، سواء كنا أفرادا أو شعوبا ؟
لكنني أختلف معك بقضية أن القارئ يجد بين الكلمة والكلمة في كتاباتي سياسة، فالبطل رقم واحد في رواياتي هو التخلف بكل أشكاله، الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية .. الخ، وقد يتساءل البعض ولا يزالون يتساءلون عن أسباب الهزائم التي لحقت بنا كشعب وكأمّة منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وما تبعها من تجزئة أمتنا ووطنا في الحرب العالمة الأولى، ونكبة فلسطين الأولى في العام 1948، وهزيمة يونيو 1967 ونتائجها الكارثية، وما تبعها من حروب داخلية، وحروب اسرائيلية متواصلة، مرورا بالحرب الأهلية التي عاشها لبنان بين 1974 و1989 ، واحتلال العاصمة بيروت عام 1982، وتدمير العراق واحتلاله في العام 2003، والحرب الأهلية التي تطحن سوريا منذ أكثر من عامين…الخ، ولا ينتبهون الى أنه لا يوجد عندنا سبب من أسباب النصر، وفي الجزئين الأولين من مشروعي الروائي تطرقت للواقع الذي عاشه شعبي، وهو واقع لا نتيجة له غير الهزائم ومنها الهزيمة التي حصلت في حزيران 1967، وما ينطبق على شعبي ينطبق على بقية الشعوب العربية، فسلسلة التخلف المتداخلة والتي تشكل حلقات مفرغة، ودكتاتورية الأنظمة وقمع الحريات بأشكالها، والتخلف التعليمي والاقتصادي والانغلاق الثقافي لا يمكن أن تلد النصر.
ومضمون رواياتي يتحدث عن هذا الواقع، ومعروف ان الكاتب ابن بيئته، وهذه هي البيئة التي ولدت وترعرعت ولا أزال أعيش فيها…ولا أعتقد أن هناك ضيرا في الكتابة عنها.
* كان مهما جدا تسليطك للضوء في روايتك على مسألة “تزويج البنات” ، وهي مساحة جديدة في الهمّ الفلسطيني، نادرا ما يتم التطرق إليها ومعالجتها، هل يمكن الحديث عنها بإيضاح ؟
** الواقع الفلسطيني له خصوصيته التي قد لا يشاركه بها شعب من الشعوب الأخرى، ففي نكبة العام 1948 كان هناك فتيات مخطوبات لشباب لجأ خطابهن الى لبنان أو سوريا، فيما بقي جزء منهم أو منهن في الديار، أولجأن وأسرهن الى ما تبقى من فلسطين والذي عرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، وتقطعت بهم وبهن السبل، وجزء منهن أمضين حياتهن بدون زواج وهن ينتظرن عودة الخاطب، وكذلك الحال في حرب حزيران 1967، لكن بقاء نقاط العبور على نهر الأردن مفتوحة، دفع بعض الفتيات للالتحاق بخطابهن والزواج بهم خارج حدود الوطن المحتل، وجزء من هذا البعض فشل زواجهن وتطلقن وتقطعت بهن السبل وعانين الكثير، في حين لم يعد الخطاب لخطيباتهم اللواتي بقين في الوطن، وبقي جزء منهن ينتظر زوال الاحتلال وعودة العريس، وطال زمن الاحتلال ولم تتحقق الأماني، وهذه قضية اجتماعية وانسانية لم يلتفت اليها أحد، وقد ضمنتها روايتي.
* أيضا معالجتك لقضية العمالة والتي تمثلت، بتعاون أبي سالم وغيره مع سلطات الاحتلال، وكيف ساهموا في ترسيخ وتدعيم وبقاء دولة الاحتلال، كان مهما جدا ..؟
** العمالة لا تشكل ظاهرة ملموسة في اوساط شعبنا، مع انها موجودة ولا غرابة في ذلك، فجميع الشعوب التي تعرضت للهزيمة والاحتلال ظهر من بينها عملاء للمنتصر والمحتل، لكن هذا لا ينفي أن المقاومة ظاهرة للعيان، ومارست دورا كبيرا، فتراب فلسطين مجبول بدماء الشهداء، وأكثر من ثمانمائة الف من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة عانوا من مرارة وذلّ الأسر وعذابات السجون، وشخصية أبي سالم في رواياتي شخصية انتهازية حقيرة، لا كرامة لها منذ بداياتها، وعندما جاء الاحتلال تعاونت معه ضد شعبها ووطنها، وقد كتبت عن بؤس هذه الشخصية وحقارتها لتنفير الناس منها.
* استنكر البعض أنّك أنهيت رواية " هوان النعيم" بالانهزامي العميل، ممّا يخلق انطباعًا أن هذه النهاية هي الجوّ العام لما بعد حرب 1967، .. ما ردّك.. ؟
** وهل كانت هناك انتصارات بعد حرب العام 1967 وحتى يومنا هذا حتى نكتب عنها؟ وإذا ما ادعى البعض بانتصارات فلماذا لا يزال الاحتلال مستمرا ويترسخ بالاستيطان وغيره؟ ونهاية الرواية تنفير من دور العمالة، فبعد حوار مطول بين العميل ومشغله، وتحذير المشغل العميل من مغبة خداعه لهم بالأخبار التي يزودهم بها يقول ابو سالم:
– أنا يا سيدي لا أخون اليد التي تساعدني بل أقبلها.
رجل المخابرات: أنت كلب وفيّ
أبو سالم:عوووووووووووووووووووو
أي أن العميل ارتضى أن يكون كلبا ينبح على بني جنسه.