لغة العنف كشكل جديد للتّواصل عند التّلميذ
تاريخ النشر: 22/06/13 | 1:11 لا تنحصر وظيفة اللغة فقط في إنتاج الفكر وبنيته structurer أو في بعدها التواصلي الذي يحمل طابعا رمزيّا كما نعتقد، كما أنّها ليست أداة للتعبير عن حالات شعوريّة، بل إنّها العنصر الأساسي في تشكُّل الثقافة، وقد أثبتت الأبحاث الأنتروبولوجيّة أن اللغة أرقى المظاهر الثقافيّة المشكلة للمجتمع ولا يمكن للإنسان إدراك العالم دونها، إذ بواسطتها يخرج الإنسان من الدائرة الوظيفيّة الضيقة التي تربطه بالحيوان إلى نظام رمزي شاسع يستخدمه كوساطة لفهم هذا العالم وإدراكه.
ما دامت اللغة تحوي العالم والوجود وتعطيهما معناهما، فإنها أيضا أداة لتشكل هويّة الأفراد والجماعات، لأن الهويّة بناء ثقافي وليست نتاجا بيولوجيا، لهذا يجب الانتباه إلى المقاطع اللغويّة التي يستعملها التلميذ في التواصل والتفاعل مع الآخرين، ومن خلال هذه المقاطع يمكن أن نكشف عن أشكال العنف اللفظي كعنف رمزي يمكنه أن يتحول إلى عنف مادي، لأننا نجد في فضاء المؤسسة جو كامل من العنف اللفظي بين التلاميذ يظهر للفرد دون أن يكون هذا الفرد بالضّرورة بصدد إنجاز ملاحظة سوسيولوجية.
إن العنف اللفظي هو العنف الأكثر ترددا وحضورا في المؤسسات التعليميّة واللغة السائدة للتخاطب بين التلاميذ، أو ما يمكن أن نسميه مجازا حربا لغوية، لأن هناك قواعد لغويّة مؤسسة بشكل جيد بين المتخاطبين يصعب على الفرد خارج العلاقات الرفاقيّة أن يكشف مضمون تلك الاستعمالات اللغويّة الاستيعاريّة وكأنها شيفرات تخصهم وحدهم ولا يريدون اضطلاع الآخرين عليها. هذه التطبيقات أو الاستعمالات اللغويّة لا تشكل بطبيعة الحال اعتداء أو عدوانا مباشرا لكنها تغذي الإحساس الضمني بوجود حالة من العنف الكامن.
يكتسب العنف اللفظي استعمالا رمزيا مُستَمدا من عنف المدرسة ما دامت المؤسسة تقوم بالأساس على سلطة اللغة التي يمارسها الأستاذ، ويجد هذا العنف تطبيقاته واستعمالاته داخل السياقات العلائقيّة باعتباره شكلا تحيى من خلاله السيرورات التواصلية، ولهذا يجب أن يُنْظَرَ إليه العنف "كتجلي لظاهرة تفاعليّة وعلائقية".
وقد نجده أحيانا تعبير عن تعاقد علائقي لاواعي من طرف الفاعلين، يتحدد كاتفاق ضمني صارم يتجلى في رسائل صوتيّة وصامتة أحيانا أخرى، تُنْبِئُ بتفجر العنف المادي نتيجة الاستعمال المُرمّز لهذه الرسائل التي تتحول إلى قنابل موقوتة تنفجر في كل لحظة لتتحول تلك التعاقدات إلى لَعِبٍ بالكلمات هي عبارة عن قذف بالقنابل وإلقاء لها في كل الاتجاهات.
نحن إذن أمام إشكاليّة تواصليّة عن "عنف الموقف" La violence d’attitude المتجلي في الاستعمال الشخصي للغة كتعبير عن موقف ذاتي يُلزم الفرد ويعبر عن شخصه/هويته ليجعله مستقلا عن الآخرين وفي نفس الوقت لا يتحدد إلا بهم، مادام هؤلاء سيشكلون موضوع عنفه وضحاياه، كما يتجلى هذا الموقف أيضا في الاستعمال القاسي والجارح للغة من أجل إخضاع الآخر وجعله تحت سيطرته.
يرتد العنف اللفظي الذي يمارسه التلميذ إلى نمط تعبيري للحمايّة المتجلي في القذف والسب، وقد يكون نتاج وجود صعوبات تعبيريّة ونقص على مستوى التمثلات التخييليّة للعلاقة مع الآخر ومع الذات تترتب عليها أيضا نتيجة سلبيّة أخرى هي صعوبة في التعبير عن الإحساسات الكامنة داخل التلميذ، خصوصا إذا عرفنا أن مرحلة المراهقة تفرز فائضا من الاندفاعات لا تجد لها بالمقابل متنفسا على مستوى التعبيرات السيميوتيكية. لهذا فإن إحدى فرضياتنا المركزيّة تتمحور حول تجليات العنف اللفظي كعنف رمزي وتأثير ذلك على العلاقات الرفاقيّة بين التلاميذ خاصة وعلى جودة الحياة المدرسيّة عامة.
في نفس السياق ترى Marie-Madeleine Bertucci أن هناك نوعين من العلاقات الرفاقيّة يمكنها أن تدمر العلاقة التكاملية/المتكافئة القائمة بين التلاميذ، تتجلى الأولى في تحويل الاختلاف في الوضعيّة اللامتكافئة بين الرفاق إلى لا توازن أو ضغط يمارس على الحلقة الأضعف في العلاقة يمكن أن يؤدي إلى وضعيّة احتقار حقيقيّة تأخذ فيه اللغة الحيز الأكبر باعتبارها الأداة التي تؤدي هذه الوظيفية، والثانيّة أن العلاقات الرفاقيّة اللامتكافئة الناتجة عن هذه الوضعيّة تُترجم إلى ردود أفعال عنيفة للتلميذ اتجاه الآخر لإعادة التكافؤ للعلاقة عوض الانكفاء على الذات لتفادي العنف اللغوي الموجه ضده ولحمايّة نفسه من تبعاته.
معنى هذا أن العنف اللغوي هو ظاهرة تفاعليّة Interactionnel تحتاج إلى وجود فاعلين اجتماعيين من أجل تحققها وإلا انتفت شروطها، كأي فعل تواصلي لا بد له من رسالة ومرسل ومرسَل إليه، إنها تجد تطبيقاتها من خلال السياق العلائقي الذي تندرج فيه وهو في نفس الوقت الشكل الذي تَحْيَى فيه السيرورات التواصلية. غير أن أطراف العلاقة والفاعلون فيها يسعون دائما إلى محاولة الهيمنة واستعادة سلطة اللغة ومن تم يتجلى رهان اللغة في ممارسة السلطة بها وعبرها، فهم لا ينظرون إلى ذواتهم كفاعلين متكافئين في ممارسة اللغة بل كأشخاص لامتكافؤون يحاول كل من جانبه توظيف اللغة للهيمنة على الخطاب وتوظيفه للإبقاء على وضعيّة التبعيّة التي تخلقها سلطة اللغة، وفي الوقت ذاته يسعى الطرف الآخر إلى التجرد من سلطة اللغة المفروضة عليه بإنتاج لغة/سلطة مضادة بالحفاظ على نفس السياق اللغوي والتيمة اللغويّة كرد فعل يعبر عن الرهان في كسب معركة اللغة.
هذا العنف الضمني المتجلي في اللغة يحرض على وضعيّة قوامها "معارضة" مؤسسة على رفض أي "سلطة" مصدرها اللغة، تجعل أحدهما "فوق" اللغة يحركها كما يشاء، والآخر "تحت" سلطتها وجحيمها، مادامت العلاقة لا تقبل التماثل (La symétrie) فإن حل هذه الوضعيّة يتم عبر اللغة وبواسطتها وعبر لجوء كل طرف إلى سلاحه الفتاك الذي يمتح من الاستعارات والألفاظ النابيّة والقذف ما يمكن من خلال إخضاع الآخر وإخراصه أو جعله محط استهزاء من طرف الآخرين/الرفاق (جماعة الأقران) كونهم شهودا على المعركة وأيضا أسباب نشوبها وهم الحَكَمُ فيها. النتيجة المترتبة عن حرب اللغة هي "تعنيف العواطف والانفعالات" ، يصبح معه القاموس اللغوي لدى المراهق غارقا في وحل السب والشتم والتهديد والوعيد ويغتني من هذا الفضاء الملوث بالقدح والتجريح، تجريح الغايّة منه تجريح العواطف والأحاسيس والانفعالات.
في فضاء كهذا، يسوده عنف اللغة، تصبح لغة العنف هي التعبير المرادف للحمايّة والدفاع عن الذات هي السبيل للتحصين من الخضوع والسيطرة للغة الآخر الاستبدادية، فينشأ فضاء قوامه العنف والعنف المضاد يتقلص فيه الضغط العاطفي ويرتفع مستوى/منسوب رد الفعل ليتم توظيف أسلوب تعبيري يؤثثه القذف والتجريح. لا تتوقف العلاقات الرفاقيّة بين التلاميذ عند مستوى العنف اللغوي كعنف معنوي أخلاقي، بل تتطور إلى مستوى آخر من العنف هو العنف المادي الفيزيائي، مادام أن اللغة لم تعد تسعف في إخماد الحرب اللغويّة بقدر ما تزيد في لهيبها وتُذكيها.
لقد أكد الباحث في علم اللسانيات (sociolinguistique) عمر أوهدي أن نسبة جد مرتفعة من الكلمات المستعملة في التخاطب بين التلاميذ في المدرسة وفضائها هي عبارة عن سب وقذف، ما بين 75% إلى 80% ذات طابع جنسي يتم فيها توظيف ( كلمة الأم) بشكل رئيسي، ويضيف أن العنف اللفظي ليس إلا نتيجة لإعادة إنتاج خطاطات من أجل تأكيد وإثبات الانتماء للجماعة سسوسيوثقافيا (جماعة الأقران، الانتماء إلى الحي…).
وإذا كان هذا الكلام اليومي فاحش ومشين فإنه على الرغم من ذلك يعتبر فقط "لعباً" بالكلمات في نظر مستعمليه يجب إتقانه وإجادته، وحينما يتم قذف فرد ما بشتيمة معتادة ومتداولة فإن الأمر يستدعي فورا إجابة معتادة حول نفس التيما ونفس السجل وغالبا ما يكون العائلة دائما (الأم ـ الأخت…) أو الأعضاء الحميمية، ويبقى كل هذا في إطار بلاغي ورمزي دون أن يرتد إلى مرجع واقعي.
كما يعتبر الباحث أن العنف سواء اللفظي أو الفيزيائي، وفي أغلب الحالات، هو عنف لا واعي، الفرد الذي يتحدث بطريقة عنيفة أو يضرب حتى، لا يتوخى من ذلك إلحاق الأذى والألم، لأنه لا يشكل الفعل في نظره سوى لعبة يوميّة بين الأقران، ولكن بالنسبة إلى لآخر ليس الأمر كذلك إنه احتقار يسبب معاناة حقيقة وجهنم يكتوي بألفاظها، ولهذا فالعنف اللفظي لا يكون مبرمجا ومُبَنْيناstructurée، إنه عفوي لكن نتائجه تكون كارثيّة تعطي ردود أفعال قويّة يلجأ فيها التلاميذ إلى العنف المادي لإيقاف تلك اللعبة وليس الانسحاب منها وإعلان الهزيمة .
ولأن الكلمات كما نعلم يمكنها أن تحدث حروقا وآلام مثلما يمكنها أن تضمد الجراح وتشفيها، فإن الاشتغال على التأثير الذي يخلفه هذا النوع من اللعب بالكلمات والذي يمكن أن يتطور إلى معاناة يومية، من شأنها أن تعطينا مدخلا مناسبا لفهم طبيعة العلاقات الرفاقيّة وأثرها على الجو العام الذي تتم فيه العمليّة التربوية، وإلى أي حد يقتصر الأمر عند حدود العلاقات الرفاقيّة ولا يمتد إلى مختلف أطراف العمليّة التعليميّة بما في ذلك الطاقم الإداري والتربوي. ويمكن أن نتساءل: ألا يمكن لحرب اللغة هذه أن تمتد إلى فضاء القسم ويتحول إلى فضاء لتصفيّة الخلافات عوض أن يكون مجالا للمعرفة والتلقين؟ عن ماذا يعبر اللجوء إلى العنف اللفظي في نظر التلاميذ؟
إنه يعبر عن الهوة السحيقة بين ثقافة الطفل خاصة المنتمي إلى الأوساط الشعبيّة والفقيرة، وتلك التي تقدمها المدرسة وتسمح بتداولها، من هذه الهوة تولد علاقات العنف داخل المدرسة والتي تعبر عن الإخفاق والفشل المدرسي، ما يجعل من اللغة المدرسيّة أداة للإقصاء وإبعاد الذات بممارستها العنف ضد الأفراد، لصالح فئة أخرى تتقن اللغة وتوطد علاقتها بالمدرسة بواسطة هذه اللغة.
هناك تمزق وهُوّةٌ بين ثقافة الطفل وبين تلك التي تُقدم وتستهلك في المؤسسات التعليمية، خصوصا في الأوساط الشعبية، هذه الهوة الثقافيّة تمزق هويّة الفرد، من هذا الاختلاف والتباين في التخاطب اللغوي تنبع علاقة الصراع والعنف التي يعيشها التلاميذ داخل المدرسة وفي فضائها لأن اللغة المعياريّة تمارس عنفها عليهم فيحاولون تصريفه بإعادة إنتاج عنف مضاد وقائي، من هذا المنطلق يمكن أن نعتبر اللغة كسبب أساسي في الإقصاء والإبعاد الذي يتعرض له التلميذ في علاقته بالمؤسسة، وهو مدخل للإقصاء الاجتماعي بشكل عام.
فالطفل ـ كما يقول سعيد بنكراد ـ لا يكتشف العالم من خلال لغة محايدة تقيه شر الأشياء. إنه يتعلم من خلالها كيف ينتمي إلى ثقافة محيطه، كما يتعلم استبطان المحظور كانتماء عفوي إلى نظام اجتماعي يستوعب المحرم والمباح باعتبارهما جزءا من بنائه. نحن إذن أسرى لغاتنا نفكر داخلها ومن خلال ممكناتها.
فجوهر اللغة كما وظيفتها في نظر الباحث هو إنتاج المعرفة وتغطيّة حاجيات التواصل اليومي، وربما في المقام الأول تهذيب الوجدان، لذلك فإن أي تراجع للغة هو تقليص لمساحات التواصل ومساس بآليات التفكير وتشويش على الوجدان .
وإذا كانت اللغة أداة لتشكيل الفكر وتصريفه والتعبير عنه، فالطفل يعيش ازدواجيّة ومفارقة لا يعي مضمونها مبكرا، يترتب عليها تفاوت صريح وصارخ بين "فصاحة" المدرسة و"عامية" المحيط. هذا التفاوت نجده في كل اللغات وليس فقط اللغة العربيّة مما سيخلق مساحات موحشة داخل الذات قد تكون مرتعا لكل شيء يعوق نمو سليم لكل تواصل مع الآخر. إن غياب التواصل هو حضور للإقصاء لأن اللغة هي التي تمكننا من تحويل الأشياء إلى معاني ودلالات تحمل طابعا ذاتيا ووجدانيا، لهذا وكما يقول بنكراد أن المساحات التي تنسحب منها اللغة يستوطنها العنف.
من أجل من حالة العنف المطلق، وليس القضاء عليه، يجب استعادة الكلام، وذلك من خلال فهم وتأويل المعنى الذي يعطيه الأفراد لسلوكاتهم وتصرفاتهم التي نعتبرها عنيفة، وقد لا تكون كذلك بالنسبة إلى هم. ولن يتأتى ذلك، في نظرنا، إلا في إطار فهم وتحليل علاقات التفاعل المتعددة الأبعاد، وفق منهج نقدي، يسمح لنا بكشف مختلف الفاعلين في هذه العلاقات التي يربطها التلميذ من جهة مع المدرسة ومن جهة ثانيّة مع العالم الخارجي. لم يعد يُنظر إلى المدرسة "كمنطقة محايدة" يمكن أن ينحصر مجالها فقط في إنتاج المعرفة، بل تغيرت مكانتها في المجتمع، وهذا من بين أسباب تدفق العنف الخارجي نحو المدرسة بحيث أصبح يُنتَج ويعاد إنتاجه داخل فضائها ويتم تصريفه خارجها أيضا.
لقد أصبح العنف تعبير عن عنف المجتمع من خلال وعي الأفراد بالإقصاء الاجتماعي الذي يتعرضون له من خلال مؤسسة اجتماعيّة تعتبر أداة أساسيّة في عمليّة التنشئة الاجتماعيّة هي المدرسة، وعوض أن تقلص هذه الأخيرة الفوارق الطبقيّة نجدها تمارس وظيفتها الإيديولوجيّة في تعميق هذه الفوارق.