محمد عساف ووعينا الجمعي
تاريخ النشر: 21/06/13 | 23:56سجل محمد عساف نجاحه المذهل والأهم قبل ظهوره في برنامج "عرب آيدول" بكثير.. قبل حتى أن نتعرف إليه ونألف ملامحه الغزية وسمرته العربية من خلال الشاشة، إذ استطاع أن يغوص بأغنيته الخاصة: "عاللي الكوفية" عميقًا عميقًا في وعينا الجمعي؛ تجمع كلماتها بين "هز الكتف بحنية" وبين "خللي البارود يهلل ويحليها"، بين بساطة الفرح وكبرياء المقاومة في آن، تغنى على ألحان تحيل إلى الدبكة الشعبية الفلسطينية وحلقاتها.
حفظ الفلسطينيون هذه الأغنية، تناقلوها، غنوها ورقصوا عليها في كل ركنٍ من أركان الوطن والشتات، في أعراسهم، ومهرجاناتهم، ومناسباتهم الوطنية، صارت جزءًا من موروثهم وثقافتهم الشعبيين، ملكوها جماعةً حتى دون أن يعرفوا من هو صاحبها.
ليس من اليسير أبدًا أن يُجمعَ شعبٌ ما من تلقاء نفسه على أمرٍ يميز هويته وثقافته وحضارته، إذ يجب أن يختزل المُجْمَعُ عليه كمًّا مهولًا من الحكايا، والصور، والرموز، والأساطير الكامنة في مخيال الناس الجمعي، وأن يحقق شروطًا معينة صعبة لعل أهمها الصدق الفني إن كنا نتحدث عن الآداب والفنون بالذات.
من غنى في حلقة يوم الجمعة، 21.06.2013، التي شاهدها ملايين الفلسطينيين من الأطفال والشباب والآباء والأجداد، كان وعينا الجمعي في الحقيقة، ولذلك اندهشنا له، وعليه أجمعنا مجدّدًا، وغدا كل واحدٍ منا أمام الشاشة يقول في سره: إنه يغنيني.. يغنينا! لذا فلا استغراب أبدًا من أن كثيرين قفزوا يرقصون حماسة وفرحًا لمجرد أن اكتشفوا من اللحن أن الأغنية الآتية "عللي الكوفية".
ومما زاد اللحظة احتدامًا واكتظاظًا بالمشاعر، الموال مقدمة الأغنية الأبهى منها أداءً وعمقًا وصدقًا في حنجرة عساف، والذي لخص وكثف فلسطين وقضيتها واقعًا وتاريخًا ورموزًا، خاصةً عندما تحدث عن الوحدة: "والله يا حروف الوطن زي العقد في الصدر ما احلاه.. ما احلاه.. الـ (فا) فلسطين الحبيبة ما اغلى الوطن يا عرب ما اغلاه.. واللام لما توحدوا كان الحجر ما اقواه.. والـ (سين) سؤال السجين إيمتَ الفرج ألقاه؟ والـ (طا) طلعة بدر على الشهيد في ثراه. والـ (يا) يا اهل المراجل لم الشمل ما احلاه.. والـ (نون) نور النبي وقدسنا مسراه.."
نعم، برنامج "عرب آيدول" تجاريٌّ ورأسماليٌّ بامتياز، والشركة المسؤولة عنه استغلاليّةٌ و"شفطت" كثيرًا من أموال الناس لتتضخم ثروات أصحابها، وآخر هموم برامج مثله الفن لفنيته وجماليته، ونعم، فاسدو السلطة الفلسطينية ورموزها البلاستيكية وبنوكها نغصوا علينا صفاء تلقي فنّ شابٍّ فلسطينيٍّ راقٍ، وأظهرت فنون استغلالها كلها له بشكلٍ رخيصٍ ومصطنع، نعم.. لكن مما لا شك فيه أن فلسطين والعرب فازوا بطاقةٍ إبداعيةٍ مهولةٍ تستحق كل عنايةٍ وفخرٍ وتقدير.
فنت سومر وبقيت ملحمة جلجامش، سقطت دولة المعتصم وظلت قصيدة أبي تمام في فتح عمورية، ضاعت ممالك الأندلس واحدةً واحدةً وبقي الموشح ومخطوط ابن رشدٍ ونافورة الحمراء، خسرنا الناصرية وتخلدت "بلادي بلادي بلادي" و"بحلف بسماها وبترابها" و"صورة صورة صورة.. كلنا عايزين صورة".. تسقط الدول والممالك وخططها السياسية وتفنى الشعوب وتبقى آثارها، وفنونها، وإبداعاتها، وآدابها، تبقى الأغنية شاهدةً عليها..
سينتصر الشعب الفلسطيني يومًا، سيتحرر، ثم ككل أمم التاريخ سيفنى يومًا ما، وستخلده أبدًا "من سجن عكا طلعت جنازة"، و"سنفهمُ الصّخرَ إن لم يفهمِ البشرُ…"، و"عاللّي الكوفيّة"، وغيرها.
نحن صوتنا لعساف، واخترناه، وكرمناه، بأن جعلنا أغنيته جزءًا من وعينا ومخيالنا الجمعيين حتى قبل أن نعرفه.. هذا كان نجاحه الأهم والأبهى الذي يكرسه اليوم، وكلي أملٌ أن يحصل على اللقب استحقاقًا لا انحيازًا وطنيًّا قطريًّا.