قصيدة وشاعر- القصيدة: لمن تملأ الجرة؟
تاريخ النشر: 24/06/13 | 8:52
مع صحوة الحسّون رِحلتيه
وعلى دروب الشوق عَبَرتيه
وأنا بعيدُ الدار، مغتربٌ
فإلى متى تمتدّ غُربتيه؟
ألقيت أوجاعي على كبد
مقروحة ناءت بقرحتيه
فكأن حَرّ النار في سقر
مستلهم من حَرّ زفرتيه
حبّي القديم مليحةٌ ملكت
قلبي..هوى قلبي ومهجتيه
ولأجل عينيها رصدت فمي
زندي وأسيافي وثورتيه
فحبيبتي طرب المساء وقد
أصغى لهمستها وهمستيه
وتلألؤ النجمات سامرة
من لا يميز بوح نجمتيه؟
قالت: أيا عيني وقرّتها
لا كنت إن لم أفدِ قُرّتيه
ما كنت أملأ جرتي سَحَرًا
إلا لتروي الحبّ جرتيه
أو كي أراك وأنت تنظرني
فتصوب نحو الأرض نظرتيه
وأذوب من خجل يلفعني
وتلم لون الورد وجنتيه
أحببتها فكأنها وطن
فيه أرى مجدي وعزتيه
فيه يدور مع الدجى قمرٌ
متألقٌ ليزيحَ عتمتيه
ويرد للأعياد فرحتها
وتفيض ملء الكون فرحتيه
|
" من ديوان:"بريق السواد" ، إصدار رابطة الكتاب الفلسطينيين، الناصرة1992، ص112.
قراءة في القصيدة
تظل القصيدة النمطية التقليدية أهم بل أبرز ما يميّز شعر جمال قعوار، وهذا الأسلوب المحافظ كثيرًا ما يعمد إليه الشاعر في بوحه أو في ارتجاله، ويظل دَيْدَنه وعنوانه. غير أنه يجيز لقلمه –آنـًا- أن يجاري ما لا يوافق طبعه، أو يفسح لآخرين أن ينشروا موادهم في مجلة "المواكب" التي يحررها من غير أن يرى في موادهم أنها شعر، وهذه مسألة فيها نظر.
وقد عبّر عن هذا العلوق بالشعر "الكلاسي" أكثر من مرة في تضاعيف دواوينه الكثيرة. وسأختار نموذجًا دالاً من شعره:
قصيدتي من عمود الشعر معدنها:
فلا تعاب بإيطاء وإخلاف
كتبتها درّةً ما حدت أنملة
عن العمود كما حاد أسلافي
(انظر ديوانه: لا تحزني ص30)
وقصيدة "لمن تملأ الجرة؟" تعكس منحى الشاعر وهو يرود الكلمة المموسقة الرائعة، كما تعكس ولاءً للتقاليد الأدبية الموروثة، لكن المعاني لم تكن مطروحة في الطرق، وإنما اقتنصها الشاعر من خلال معاناة أو استذكار معاناة، وقدمها في تشبيهات واستعارات وإبداع ذات طاقة خيالية مألوفة.
قلت آنفًا "استذكار معاناة".. وإلا فما معنى أن يتحدث عن جرة لم تعد بنات اليوم يتهادين بها، وهي على الرؤوس المائلة دلاً وغنجًا، والشاب يرمق من مقعد له في الدرب. فالعنوان نفسه تساؤل: لمن تملأ الجرة؟
وإذا امتلكنا حسّ البحث عن الإجابة فسنجد أن هذا العنوان مستمد من قول الحبيبة- كما يخيل للراوي الشاعر-:
"ما كنت أملأ جرتي سحرًا
إلا لتروي الحب جرتيه"
إذن : هي تملأ الجرة ليشاهدها، ولتروي هي هذه الجرة حبًّا وهوى.
إنها تبحث عن عيونه لترامقه النظر، وهنا تمارس لعبة النظرة الخجلى الموازية لاكتساء خدودها بالحمرة الحيية. وهذه براءة موازية لجرأة، وتتمثل هذه الجرأة بخروجها سحرًا لهذا اللقاء. وهو معها على موعد. فيبدأ رحلته مع صوت الحسون. الحسون العصفور يسير مغردًا، والشاعر يسير دامعًا على دروب الشوق. العصفور لا يشعر بغربة، وإنما بعناق للمكان والراوي والشاعر بعيد المنتأى ومعذب.
يعترف الراوي أن حبه القديم ما زال مالكًا فؤاده، فلأجل عينيها رصد شعره، ولأجل عزتها دافع مستميتًا، ويبدو لي هنا أنه يمزج المعشوقة بالوطن، حيث فيه مجده وعزته، وحيث يدور القمر المتألق مبددًا للظلمة، هذا الوطن الذي يرد للأعياد الفرحة والبهجة؛ ويتذكر الراوي ما قاله عن حبيبته إنها طرب المساء –ذلك الذي أصغى لهمسات العاشقين، وهي تلألؤ النجوم السامرة، وبوح نجمته أصبح متميزًا…. حتى أن مجرد التساؤل أصبح إنكاريـًا:
من لا يميز بوح نجمتيه؟!
إنه مخلص لحبيبته، فلأجل عينيها اختلجت عواطفه، وكانت بطولته …والشعر عصارته الحب والبطولة، يستبطئ الشاعر زوال الغربة والمعاناة، ولعل الغربة هذه مجازية وليست حقيقية.
ويلاحظ القارئ معي أن القصيدة مشبعة بياء المتكلم، "والأنا" كانت طاغية إلا القليل الأقل مما يروى على لسانها، أو عند الانتقال إلى موضوع عام هو الوطن، والعنوان نفسه حتى لو استوحاه من اعترافها فيه – إشارة إلى أن هذه الاستسقاء أصلاً كان من أجل الراوي- من أجلي-.
أما الانتقال إلى الوطن فيبدو لي أنه استمرار لمرحلة شعرية عاشها شعرنا في الجليل والمثلث، وكأنه ضريبة لا بد من دفعها، حتى لا يلومنا لائم أو يسألنا سائل: أنتم تلجأون إلى زينب وليلى وتنسون وطنكم ومعاناتكم؟؟ فيجيب الشاعر ملمحًا إلى هذا الغزل الذي فيه صوفية وطنية مستحدثة، فزينب هي الأرض (وخصص جمال مجموعة تحمل هذا الاسم وهذا العنوان – زينب)، وليلى هي الأمل وهكذا اختلطت الأرض بالمعشوق والمعشوقة بالأرض، وغنى كل شاعر على ليلاه بالمعنيين متماهيين أو متماسين.
ومثل هذا التماس رأيناه في قصيدتنا التي نعالحها ، وإلا فما المبرر لهذا التشبيه:
" أحببتها وكأنها وطن فيه أرى مجدي وعزتيه"
ولماذا هذا الاستطراد في الحديث عن لصوق الشاعر بالوطن حتى نسي لصوقه بحاملة الجرة؟
وأين تلك النار في زفرته المشتعلة أكثر من سقر؟!
وهذا المعنى الأخير أورده الشاعر في صورة مبالغة:
"فكأن حر النار في سقر مستلهم من حر زفرتيه"
وهذه المغالاة أذكرتني بما أنهى به شفيق حبيب قصيدته "تراكمات" وقد أثبتها أدناه في هذا الكتاب:
آه لو عاين آدم هول معاناتي
ما أخصب جدتنا حواء
ويبدو أن المقياس القديم للعذوبة في الشعر ما زالت آثاره بادية في شعرنا.
وتأثير الصورة القديمة في قصيدة جمال وارد كذلك فيما تصادى في قصيدته من قول ابن الدمينة:
ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدًا ليست بذات قروح
أئن من الشوق الذي في جوانحي
أنين غصيص بالشراب جريح
وجمال يعزف على وتر "الكبد المقروحة":
" ألقيت أوجاعي على كبد مقروحة ناءت بقرحتيه"
ونلاحظ أنها لدى جمال "ناءت" وثقلت، ولم يعرضها للمقايضة والبحث عن التخلص منها –شأن ابن الدمينة- إن الشاعر المعاصر يستسلم لها لأجل عينيها ولأجل عزتها؛ وإذا كان ابن الدمينة يئن من الشوق فشاعرنا يئن هو الآخر، فلما خاطبته "أيا عيني وقرتها" أجابها متحمسًا:
"لا كنت إن لم أفد قرتيه" إنه في إخلاص في الدعاء.
وعلى المستوى الشكلي قطع للاسترجاع الفني (flashback) أو عملية رجوع إلى الأصل في عملية السرد الغنائي lyrical narration ، وهذه الجملة الدعائية مثلها مثل الجملتين الإنكاريتين الأخريين:
"فإلى متى تمتد غربيته؟! و "من لا يميز بوح نجميته؟! تجعل القصيدة في حركة درامية وخطابية متفاعلة.
ويضاف إلى التناص من الموروث ما نلمحه من البيتين: "فحبيبتي طرب المساء.." و "تلألؤ النجمات..." حيث تبدو لنا خيوط من نسيج قصيدة البحيرة للامرتين، وخاصة إذ يقول:
أو ما تذكرين كيف كنا نجدف صامتين ذات مساء
وكنا لا نسمع عن بعد فوق الموج وتحت السموات
غير حفيف المجاديف وهي تضرب في صمت
(محمد مندور: فن الشعر، ص33).
وبرغم الوضوح النثري في قصيدة جمال فإن الرؤية الحدسية للمرأة التي يبحث عنها تظل في غموض سر، وليس غموضًا تعتيميًا وكده قتل الفكرة باسم الفكرة. وكما كان لامرتين يبحث في النهاية ويتساءل:
"أهكذا يضيع كل شيء" إخال شاعرنا في نفس الموقف والأحزان.
ومما يميز شعر جمال هذه الموسيقية المنتقاة وقد بدا لنا تكرار البداية "Anaphore":
ولأجل… ولأجل…، وكذلك القوافي في صدور الأبيات: فمي..دمي، تنوين الكسر (صوتيًا): كبد سقر، أو تنوين الضم: وطنٌ، قمرٌ، أو المد الصوتي مع ياء المتكلم: ينتظرني..، يلفعني، وكل هذه التنغيمات ترفد الناحية الموسيقية التي تعبر عنها قافية القصيدة- هذه المنهية بهاء السكت والمسبوقة بياء المتكلم، وهي قافية نادرة جدا في الشعر العربي القديم، وربما لأنها ليست يسيرة النظم- كما يخيل من بعيد-. وأضف إلى هذا التنغيم أو الإيقاع ما يتماثل أو يتجانس في العبارات، نحو:
لهمسته…وهمستيه، قلبي… هوى قلبي، أصوب.. أذوب، وكذلك رد الأعجاز على الصدور كما في الأبيات: الثاني والعاشر والحادي عشر. وهذه جميعًا فيها "رقص صوتي" إن صح التعبير.
وقد أشرت أعلاه إلى أن الشاعر قدم في القصيدة تشبيهات واستعارات وإبداعات ذات طاقة خيالية مألوفة.
وقد يتساءل البعض: كيف يجوز "إبداع" و "مألوفية" معًا ؟!
وفي رأيي أن هذا حاصل في كثير من عباراتنا، فعندما يقول جمال: "حبيبتي طرب المساء" أو "هي تلألؤ النجمات" أو أن وجنتها تلم الورد، وأن فرحته تفيض ملء الكون.. إلخ فإن هذه التعابير مألوفة، وقد تكون مطروقة، ولكن أسلوب صياغتها وتركيبها المبنوي والدلالي فيه جمال استعاري. وفي قوله: "لتروي الحب جرتيه" ازدواجية معنى تكسب العبارة قوة أداء.
إنها تعابير لا تدهشنا بقدر ما تقطر التجربة أو تفرغها في مسافات متباعدة متقاربة.
وفي أثناء دراستي للقصيدة- ومن باب الشيء بالشيء يذكر- تذكرت رسالة كان قد وجهها إلي الشاعر مؤرخة في 5/كانون الأول/ 1968. ضمّنها –بناء على طلبي- مرثيته في زوجته أم ربيع، والقصيدة على نفس البحر السريع والوزن والقافية ومطلعها:
جُرعت كأسي يا أخيّـتيهْ
وعلى دروب الحزن ضيعتيه
وقد وجدت من خلال قراءتي للقصيدة المحفوظة في أوراقي أن ثمة تناصًا أسميه التناص الذاتي (intratextuality)، ولا أرى في ذلك حرجًا ما، فتساؤل الشاعر الذي أوردناه:
فكأن حر النار في سقر مستلهم من حر زفرتيه
كان الشاعر قد أورده بصورة التساؤل وهو يتحدث عن عتمة الليل في قصيدته الأولى:
والليل عتمات مكدسة أترى استعار الليل عتمتيه؟!
(انتبه إلى نهاية القصيدة التي ندرسها …. حيث يرد ذكر العتمة وإزاحتها)
ويمضي الشاعر في قصيدته الأولى:
أترى استعار الشوق لهفتيه والنار مني بعض حرقتيه
إذن هي المعاني التي تراوح الشاعر أو يراوحها، بل إن صيغة الاستفهام هي هي.
والشاعر في قصيدته الثانية قد ذكر الأعياد وإعادة فرحتها، وكان قد أشار إلى ذلك في مرثيته، ولنقرأ:
والعيد ليل سر جهمتـه ما أودعت شفتي مخدتيه
والعيد أطفال نشائدهم غير الذي ترويه عَبْرتيه
(أرأيت "ترويه"، "عبرتيه"..؟)
غير أن الكلمات المكينة في قراراتها ومواقعها تنبو عنها لفظة "أسيافي"، وكنت أفضل "غضباتي" مثلا للخروج عن الألفاظ المَـلوكة المطروقة، وتنبو كذلك "سقر" الغريبة عن قاموسنا ولغتنا الراهنة.
وأنا لا أدري حقًا ما ضرورة استخدام هذه الألفاظ- حتى على المستوى الرمزي- فانظروا معي لفظة (سيف) في ديوان لجمال، وكم يكررها شاعرنا:
الحرف ليس سيفنا (بريق السواد ص3)
ما أغمد السيف المهند فترة
إلا ومد السيف أقبية القراب (ص42)
هل يكره السيف الأبيّ مضاءه (ص85)
كالسيف غمد التململ يُنتضى (ص103)
ولن أعترض على قوله الملائم تاريخيًا لاستعماله: "وحيث سيف صلاح الدين روّاه" ( ص19)، لكني أتساءل ما سر هذا التشبث بلغة مهجورة؟ أم إنه الحنين؟ أم إنه الرمز والأسطورة؟!
* * *
وعلى الإجمال فقد قرأنا قصيدة مشبعة بالموسيقية (أو كما سميته "رقص صوتي")، وفيه الانتماء لتراثنا الشعري استذكر فيها الشاعر حبيبة له، فألمح من خلالها إلى حبه لوطنه، وعمد إلى تشبيهات فيها إبداع ومألوفية معًا، كما أن هناك تناصًا ذاتيًا تتبدى خيوطه لنا من قصيدة أو مرثية له- وهي إشارة إلى أن شاعرنا فيه صبوة المغرم وأغنية النغم.