لماذا تنحى أمير قطر؟!
تاريخ النشر: 25/06/13 | 6:17مع التسريبات الأولى عن الاستعدادات القطرية لنقل السلطة من أميرها حمد آل ثاني لولي عهده وابنه تميم، تنوقلت أنباء كثيرة عن اشتباكات مسلحة جرت في القصور الأميرية بالدوحة، وعن انقلاب عسكري شهدته البلاد قادته شخصيات من داخل العائلة الحاكمة والجيش على حكم أميرها، ما دفعه إلى التنحي مرغمًا.
واقع المشهد الذي نقل للعالم، ولا يزال، من الدوحة مذ الإعلان عن اليوم الثلاثاء، 25.06.2013، موعدًا لبث خطاب التنحي، وما جاء في الخطاب نفسه من مضمون، ثم ما صاحبه من طقوس احتفالية لنقل السلطة بصفتها إنجاز وطني، شملت تحية شعبية لموكب الأمير المتنحي، ومن ثَمَّ ما يسمى بـ "المبايعة الأميرية"، والتي حضرها كل من الأمير السابق والجديد معًا، مستقبلين مواطني قطر، وكذلك التغطية الإعلامية التفصيلية والدقيقة والشاملة لكل ما تقدم، أمور أظهرت الوضع طبيعيًّا تمامًا، ولم يكن هناك أي شيءٍ يوحي بأن انقلابًا عسكريًّا حصل، كل شيء مدروس ومعد سلفًا، وعلى مستوى التفاصيل الدقيقة.
ضغوط من واشنطن؟!
رأيان مركزيان يجري طرحهما في محاولةٍ للإجابة على سؤال: "لماذا تنحى أمير قطر؟!"
يذهب أحد الرأيين إلى أن التنحي جاء بضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية، ووفق أصحابه فإن واشنطن باتت تعتبر أن السياسات القطرية الخارجية، والتي يضعها الأمير حمد ووزير خارجيته، قد تخطت الكثير من الخطوط الحمراء الموضوعة لها مؤخرًا؛ سياسات لم تمس أنظمةً صديقةً لواشنطن في المنطقة وحسب وفق منظور الأخيرة، كنظام علي عبد الله صالح في اليمن، إنما مست مصالح واشنطن نفسها وبشكل مباشر، نتيجة الدعم القطري للإسلام السياسي الصاعد في دول الربيع العربي، بالمال والسلاح.
تمهيد لتحول ديمقراطي؟!
أما الرأي الثاني، وهو قريب من الخطاب الرسمي القطري، فيذهب إلى أن قرار التنحي جاء متأثرًا بسياق الربيع العربي، ومدفوعًا بقناعة داخلية قطرية تمامًا، دون أي تأثيرات خارجية، في خطوة سياسية إصلاحية وصفها التلفزيون الرسمي القطري بـ "النقلة الحضارية"، ورآها البعض تمهيدًا لتحول ديمقراطي في الإمارة الخليجية خلال السنوات القادمة، يتم تدريجيًّا، خاصة وأنها تسبق أول انتخابات تشريعية لمجلس الشورى في تاريخ الإمارة، وإن كانت جزئية، يزمع تنظيمها خلال هذا العام (2013) وفق إعلان أمير قطر المتنحي في تشرين ثاني / نوفمبر 2011، عند افتتاحه دورة انعقاد مجلس الشورى، والذي يعين أعضاؤه تعيينًا؛ كما أنها تأتي بعد تنظيم أربع انتخاباتٍ بلدية منذ عام 1999، كان آخرها في أيار / مايو 2011. حتى أن البعض شبه ما يحصل في قطر اليوم بما حصل مع باي تونس، محمد الصادق (1813 – 1882)، والذي أجرى إصلاحات في عهده، كان على رأسها إصدار أول دستور تونسي يحد من صلاحياته، وينص على فصل السلطات.
دكتاتور متنور؟!
يخفق أصحاب الرأي الأول عندما يسقطون من اعتباراتهم أن الأمير الجديد، تميم بن حمد، كان له دور مهم جدًّا في تحديد طبيعة العلاقات مع الأنظمة الجديدة في كل من ليبيا وتونس ومصر، وفي اتفاقيات اقتصادية عقدت معها تحت إشرافه وبتخطيط منه، وأن رؤيته حول مصالح بلده مع الأنظمة الجديدة لا تختلف عن رؤية والده أبدًا.
ويخفق أصحاب الرأي الثاني عندما يعتبرون أن توريث حاكم لابنه حكم بلد ما، دون أي تغيير في الدستور، ودون أي تحديد لصلاحيات الحاكم، "إنجازًا ديمقراطيًّا".
إن أقصى وصف يمكن أن يطلق على هذه الخطوة في حال صح رأي الفريق الثاني، هو أنها تنطوي على بعد إصلاحي جاء من "دكتاتور متنور"، وهو مصطلح سياسي يشير إلى الحاكم غير المستبد أو الطاغية والمبادر للإصلاح، وأنا شخصيًّا أميل للرأي الذي يقول إن "الدكتاتورية" و"التنور" لفظان لا يمكن أن يلتقيا جوهريًّا في أي حال، وما يتم الجمع بينهما إلا قسرًا.
"الأول والوحيد"
تسقط غالبًا من اعتبارات المحللين السياسيين ومن طروحهم الأبعاد الذاتية والسيكولوجية المتعلقة بشخصية الحاكم وتكوينها، والتي أرى أنها كثيرًا ما قد تكون فاعلًا مركزيًّا في قرارات وأحداث سياسية كبرى، وفي طبيعة أنظمة، وأرجح أن يكون لها في حالة قطر وأميرها المتنحي دور كبير.
فقد دأب هذا الأمير، ومنذ توليه السلطة، على أن تكون سياسات نظامه مختلفة ومميزة عن غيره من أنظمة الدول العربية، وخاصة أنظمة الخليج، كسبًا لسمعة وهالة وشعبية، موظفًا في سبيل ذلك الإعلام (الجزيرة تحديدًا)، والمال، والحنكة السياسية الواضحة، حتى وإن تطلب منه الأمر جمعًا بين متناقضات. وقد حرص دومًا، وبشكل كبير، على أن يُقْرَنَ اسمه واسم بلده في عهده بوصفي "الأول والوحيد"، في إعلامه وإعلام من كانوا أصدقاءه يومًا أو ما زالوا، وترسيخ هذين الوصفين في ذهنية المواطن العربي، وكأنهما هاجس قائم بحد ذاته بالنسبة له (زيارة الضاحية الجنوبية في بيروت والجنوب اللبناني، وزيارة قطاع غزة، وتأسيس فضائية الجزيرة ثم الجزيرة الإنجليزية، وملف المونديال 2022).
ولا استبعاد أبدًا أن يكون من دوافع خطوة تنحيه رغبته القوية في أن يسجل التاريخ أنه "أول" حاكم عربي في العصر الحديث يقدم على التنحي، لا لانقلاب أو لدوافع صحية، أو لفشل في الحكم، أو لهزيمة ما. وما يؤكد ذلك، أن هذه الفكرة هي التي تحتل العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام المختلفة، عربية وأجنبية، وأن "الجزيرة" القطرية تبذل جهدًا كبيرًا جدًّا منذ الصباح في تقاريرها وموادها ومن تستضيفوهم للتأكيد عليها.
إنه إذًا السعي إلى المجد وتخليد الاسم، إنه هوس بوصفي "الأول والوحيد".
القوتلي وسوار الذهب
وهنا لا بد من الإشارة، إلى أن هذا الوصف مدعى في حالة التنحي هذه، فالرئيس العربي الأول الذي تنحى تنحيًّا حقيقيًّا خالصًا مبدئيًّا في العصر الحديث، لا لابنه الوارث، ولدوافع قومية وليس نتيجة نكوص أو فشل أو هزيمة، هو الرئيس السوري شكري القوتلي عام 1958، وذلك لصالح الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، وتحقيقًا للوحدة بين القطرين المصري والسوري، وقد أطلق عليه ناصر لقب "المواطن العربي الأول". ثمَّ إن الرئيس السوداني، سوار الذهب، الذي تسلم السلطة عقب انتفاضة أبريل 1985، تنحى بعد عام من الحكم للحكومة المنتخبة.
انتشال سمعة.. ترميم شعبية
تعرضت قطر لانتقادات دائمة من معارضي سياساتها الخارجية، لكن هذه الانتقادات تحولت إلى هجمة شرسة ومكثفة لظهور قطر داعمة للثورات العربية، وخاصة الثورة السورية، ومعارضتها للنظام السوري والدفع لإسقاطه. هجمة مادتها أساسًا العلاقات القطرية الأمريكية، وحقيقة وجود قاعدة "العديد" العسكرية الأمريكية فيها، والتي كان لها دور كبير في الحرب على عراق (2003)، ومن مادتها أيضًا وجود مكتب للعلاقات مع إسرائيل في الدوحة، وإن أغلق عام 2009، والادعاء أيضًا بأنها تدعم جهاديين إسلاميين في ليبيا، وآخرين يقاتلون في سوريا سعيًا لتدميرها، وأنها تتآمر على النظام السوري ومحور الممانعة والمقاومة؛ وتهاجمها أيضًا قوى يسارية وعلمانية في العالم العربي لدعمها الإسلام السياسي الصاعد بعد الثورات العربية، علمًا أن مهاجميها اليوم، جلهم، وخاصة نظام دمشق وأنصاره، كانوا يعتبرونها دولة حليفة حتى اندلاع الثورة السورية. وهناك أيضًا من يتهمها بأنها تغذي الطائفية، وتثير القلاقل والفتن من خلال أجهزتها الإعلامية.
في ظل هجمة الانتقادات المبينة أعلاه، تضعضعت سمعة وشعبية قطر وأميرها جدًّا، تضعضع جاء بعد تصاعد كبير، من تفاصيله أن نظام دمشق و"حزب الله" خلعا عليه لقب "أمير المقاومة"، ليغدو اليوم "أمير النفط والغاز".
وربما تكون خطوة تنحي أمير قطر، محاولةً منه لتوجيه ضربة موجعة لمنتقديه، وانتشال سمعته وشعبيته وترميمها لدى قطاعات غير صغيرة في العالم العربي. ومما يؤكد على ذلك، أن هناك جهد كبير، معد ومدروس مسبقًا، وبحرفية ومهنية عالية، يبذله الإعلام القطري، ومن ثَمَّ أصدقاء قطر، لعرض منجزات هذا البلد على كل صعيد، وبيان حجم تأثيره الكبير في قضايا إقليمية كبرى على مدار السنوات الماضية، يشمل ذلك إعادة طرح مواد إرشيفية تبين دعم قطر للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وفضحها من خلال الجزيرة الانتهاكات الأمريكية في أفغانستان والعراق، والإسرائيلية في فلسطين؛ وكذلك رعايتها اتفاقيات سلام ومصالحة عدة (اتفاقية الدوحة للمصالحة اللبنانية 2008، واتفاقية الدوحة لسلام دارفور 2011، والمصالحة الفلسطينية 2012)، للتأكيد على أنها دولة تدعم الاستقرار في المنطقة لا الفتنة والقلاقل.
في ظل ما تقدم، لا يمكن لأحد أن يسقط احتمال أن قطر قد تكون متجهة فعلًا، وبالتدريج، نحو دمقرطة نظامها، ترشيده وتنويره، وهذا كفيل بأن يكشفه قادم الأيام، كما لا يمكن لأحد أن يدعي أن تنحي حاكم في نظام ملكي وراثي لابنه، دون تغييرات جذرية في الدستور، تحدد من صلاحيات الحاكم، خطوة ديمقراطية "غير مسبوقة".
قد يكون التنحي، وعلى ضوء بعض الاحتمالات التي بينت أعلاه، مجرد خطوة شكلية رمزية، تبقي أمير قطر المتنحي حاكمًا، أو على الأقل صاحب قرار في قضايا كبرى من وراء الكواليس.