تقاطعات الشتاء – صبارين في الذاكرة
تاريخ النشر: 02/07/13 | 3:02جلسوا على المقاعد في الصاله ,التي تمر بها الطريق المؤدي الى غرفه الانعاش ,عيونهم جميعها كانت منتصبه على الباب الذي يفصل بينهم وبين ابيهم ,الذي كان مضطجعا على سريره الطبي ,موصلا بالعديد من الاجهزه والانابيب , .. وهم يعرفون انه يصارع الموت ..انهم بانتصار محموم ,حتى يفتح هذا الباب ,ويخرج منه الطبيب ويعلن النتيجه ..
ان النتيجه اصبحت لا تهمهم ,فقد قضوا اشهر على هذه الحاله .. الحاله التي بين الموت والحياه ..يريدون نتيجه قاطعه :اما حياه تسرهم , او مماتا يريحهم , ويعيد الى حياتهم اليوميه الطبيعيه …
بعد ساعات فتح الطبيب الباب ,فهموا باتجاهه متلهفين لسماع اي كلمه ,ينطق بها ولرصد كل حركه يقوم بها ,اوتعابير وموجات ترسم على وجهه ..
– ان الحال كما هو .. انه مستقر ..!! قال الطبيب كانه يقول امرا روتينيا .
– هل من الممكن الدخول ورأيته يا دكتور ؟؟ سالت ابنه له في مقتبل العمر ؟
– نعم لكن فردا ,فردا.. قال الطبيب شيئا من المعتاد على قوله ..
وخرج الطبيب وتركهم ..
تنفسوا الصعداء , وشعروا بالارتياح عندما تاكدوا ان مدير القسم شلومو ,غير متواجد في هذا اليوم ,وتخلصوا من نظراته العدوانيه التي كان يرميهم بها ..!!
# # #
خدمتي في الجيس كانت في قسم المستعربين , اني اطقن اللغه العربيه بحذافيرها , وخصوصا اللهجه العاميه , قال شلومو في المره الاولى التي قابلوة فيها عند دخول ابيهم الى المستشفى…
كانت معاملته في البدايه ,وديه عاديه .. رغم انهم لاحظو ان المريض اليهودي , الذي كان ينام على السرير , الموجود في نفس غرفه ابيهم ,معامله تختلف عن المعامله التي يتلقاها .. ولكن هذا الامر كان عاديا .. ولكن سرعان ما انقلبت معاملته راسا على عقب .. وبدا وجهه يتقطب عندما يلتقون به , داخلا او خارجا من غرفه الاسعاف المكثف .. وبدا الجفاف يدخل في لهجته .. وصار يعد الكلمات التي يسعفهم فيها , حول وضع والدهم الصحي ..ولكنهم عندما حاولوا البحث عن اسباب تغيره , في معاملتهم , لم يهتدوا الى اسباب مقنعه ..!!
دخل اكبرهم الى غرفه ابيهم, فوجد ممرضا عربيا بجانبه .
وبعد ان تعارفوا , قال الممرض : انه من مدينه ام الفحم , نقل حديثا الى غرفه الانعاش , وانه على استعداد ان يساعدهم في كل ما يحتاجوه , هم وابيهم , وعندما سال عن وضعه , قال: ان وضعه مستمر ولا يوجد خطرعلى حياته ..
وهنا سأله الممرض : " الم تستفسرو عن وضعه من رئيس القسم , الذي خرج من هنا قبل قليل ..!! " فأجاب سعيد " انه في حاله جفاء من ناحيتنا .. !! " "لماذا ..!! " سأل الممرض "علمي علمك انا في حيره من امري ..!!!! قال سعيد , وعلامات الفضب والخيبه ترتسم على وجهه .
# # #
– طخ .. طخ.. قربوا .. قربوا.. !! طوقوهم من هناك .. من وراء التله ..يا رجال .. يا شباب .. الثبات .. الثبات .. اجو من شمال.. لاقوهم .. البلد في خطر ..
كلمات الهذيان التي خرجت من فم ابيهم الشيخ بالذهول التام .. كانت كانها صدمه كهربائيه جمدت المكان .. توجهت عيونهم نحو هذا الشيخ الذي تمسك به غابه من الخيوط والاجهزه ,وانتظروا طويلا بعد سكوته ,حتى استطاع الممرض ان ينطق ويقول : – انه هذيان عادي .. يقوم به الانسان في مرضه ..
– انه يتكلم عن الماضي .. حربه مع الثوار في ايام النكبه ..!! قال سعيد محاولا تفسير الامر ..
# # #
– الحرب كانت ضد اليهود , الذين اقتحموا القرى والمدن الفلسطينيه ..!! قال الممرض معطيا مزيدا من التفسير للموقف
– لقد كان قبل مرضه,لا يتوقف عن روايه واقائع الاحداث التي ادت الى النكبه ..!!
خرج من الغرفه , مبقيا الممرض لوحده في الغرفه , كي يفسح المجال لباقي اخوته ,من الدخول اليها , ورؤيه ابيهم ..
– منين انتو ..!؟؟ سالته امراه كانت تجلس في الجهه المقابله له .
– احنا من صبارين ..!! ولكن حاليا نسكن في عرعره ..
– اجاب اجابه كان معتادا عليها
– اي هي بعد بلد اسمها صبارين !؟؟ راحت وراحو اهلها ..!! تشتتوا .!! قالت وهي تغالب الما مخزونا في داخلها .. جاء من "نبشه" .!!
– ستعود يا خالتي .!! ستعود !!
– انا من الفرديس .!! من سكان عين غزال سابقا .!! قالت والدموع تملا عيناها
– منين انتو وين ساكنين ؟؟ ساله الطبيب متوخيا ان يكون السؤال عفويا ..
– من صبارين ونسكن الان في عرعره ..!! اجاب الاحابه المعتاده
– وانا من صبارين .. ولدت فيها .. قال الطبيب كانه يرمي حجرا في بئر ساكنه ..
– انت من عمقام ..!!
– نعم انا من هناك ..
# # #
– طخوهم .. قاتلوهم .. قاتلوهم ..اقتلوهم .. بلدكم بخطر .. صبارين بلدكم .. صبارين وطنكم ..
كانت الكلمات المستغيثه ,تنطلق من الاب المريض .. تحول وجهه الى قطعه من اللهيب الاحمر .. واشتعلت عيناه بنار حمراء تقدح شراره تفجر ما حولها
غرست نيران هذا المشهد سهامها بالرجلين .. الطبيب وابنه, فتجمدا في مكانيهما . شعر كانهما اصبحا جزءا من مشهد لم يستعدوا له , ولا يمكنهما التنبؤ بختامه او النتائج التي ستترتب عليه ..!!
قالها وسكت , دفع الصخره من اعلى انحدار الجبل , وجعلها تتدحرج بسرعه كبيره ,واعمض عينيه كي لا يرى ما يمكن ان تسببه هذه الصخره ,من اضرار ودمار ..!!
وقف الطبيب على رجليه بعد ان نشلهما من الضياع , وفر هاربا .. راميا نفسه , خارج دائره تاثير احداث المشهد.. اما ابنه فقد بقي جالسا مكانه ولاقى المشاق ,حتى استطاع ان يسترق النظر الى وجه ابيه فوجده ساكنا في مكانه , مغمض العينين , لا يسمع منه الا الانفاس المتلاحقه, التى تعلن , انه ما زال على قيد الحياه ..!!
# # #
لفا على دار المختار .. كنت يومها في عز اول شبابي ,.. عرف نفسه انه عراقي , هاجر من مدينه البصره , طلبا للرزق و فصار الزمان ينقله من هنا الى هناك , حتى وصل الى بلدنا .. وقال عن نفسه اته يتقن جميع المهن , اسكافي ,حلاق ,مصلح بريمسات , مجبر , طبيب اسنان عند الحاجه .. وقهوجي في الليل , يفتح مضافته الضيقه في الليل , فقال المختار : "انها بركه من الله , والله البلد بحاجه الى مثل هذا الشخص ..!! "
فعاش في بلدنا عشرات السنين , حتى اصبح جزءا حيويا منها , وكان ينادى باسم موسى العراقي , احبه الناس , واستراحوا الى صحبته , واصبح مستودع اسرارهم , نظرا الى عدم انتمائه لاي عائله, او حاره في البلد ..
استمر كان الاب يحدثهم , عن اخبار بلدهم , وما وقع فيها من احداث جسام قبل النكبه ..
كان يشاركهم افراحهم واحزانهم , ويضع يده في كل مساله تحدث في القريه , محاولا دائما ان يظهر بمظهر المحسن المحايد , الذي يتمنى الخير للجميع ..!!
ولكن كانت له اهتمامات خاصه ,مستغربه في كثير الاحيان , .. كان كثير الاسئله والاستفسارات ..!!يهتم بالاراضي وكيفيه , توزيعها بين الاملاك .. وبعد ذلك كشف عن مهنته الجديده ,حيث بدا بتصليح الاسلحه .!! واعجب الجميع بخبرته فيها اصبح المستشار الاول لكل حاملي السلاح , حتى انه اصبح يعرف مكان ونوع كل قطعه سلاح في البلد ..!!
ولكنه كان يختفي احيانا , كان يغيب عن البلد ايام معدودات كل عده اشهر ,دون ان يعلم احد اسباب ومكان غيابه .. وكان يقول دائما , عندما يعود , انه سافر لزياره بعض الاقارب في اربيل ..!!
مرت هذه الروايات في مخيلته كانها شريط مسجل .. وكان والده لا يمل من حكايتها لهم منذ الصغر ..اعادها مئات المرات , حتى طبعها في ذاكرتهم , لقد عاش من اجلها .. من اجل ان يرويها لكل الاجبال , فماذا حدث في النكبه , وكيف سقطت صبارين , واخواتها من البلدات العربيه , في يد اليهود , وتحول سكانها الى متشردين في الشتات .. كانت تمر في ذاكرته , وهو يراقب وجهه الاسمر الشاحب , الذي يئن تحت وطأه المرض .. ويتشبث بالحياه , بواسطه هذه الانابيب والاجهزه التي يرتبط بها .. ويعلن بواسطه انفاسه المتلاحقه , انه ما زال يريد الحياه..
# # #
– انظر .. انظر ابو العبد.. الى ذلك اليهودي الذي يتقدم المجموعه ..!! قال ابوه عندما راى رجلا يتقدم مجموعه متجه بين الصخور نحو البلد.
– اني لا استطيع ان اراه انهم يحتمون خلف الصخور فقال ابو العبد وهو يحاول تصويب انظارة نحوهم ..
– انه موسى العراقي .. انه هو ان استطيع تميزه من بين الف رجل وعن بعد ميل .. قال جدي بلهفه الواثق والمتاكد مما يقوله ..
– انك تهذي يا ابو محمد .. موسى العراقي رحل من بلادنا من زمان ..
– " لوين رحل دخلك " قال ابي وفي صوته شيئا من السخريه
– على بلاده على العراق .. قال ابو العبد بلغه المتاكد مما يقول .
– موسى العراقي يهودي , اجا على بلادنا وسرقنا وراح ..!! صرت شايفه عده مرات يتجول في المنطقه ..!!
– لا تحاول يا ابو محمد .. لن اقتنع باقوالك مهما حاولت ..وصلت بعيد..!! وصلت معك تقول انه يهودي ..! موسى العراقي يهودي.
– سياتي اليوم الذي تتاكدون من اقوالي .. قال معبرا عن ياسه في محاوله اقناعهم بما يقول ..
# # #
اول شهيد كان جدك يا ولدي .. احضروا الثوار من الجبل ..عندما وصلوا الى مشارف البلد , وصل الخبر الى اهلها , خرجوا جميعا , الرجال والنساء والاطفال .. لم يعرفوا ماذا يعملون .. ايكون الشهيد ؟؟ ايغنون له ؟؟ ايحممونه حمام الميت ام يدفنوه كما هو , ابتسامته المعهوده .. جبينه العريض .. عيناه الواسعتان التي كنت اسبح فيهما .. كان كانه يريد ان يترجل ويواصل المسيره .. اقتربت منه امي . لم تكن تبكي , نادته " انزل يا ابو علي عن الاكتاف رفاقك , واركب فرسك الاصيله , وعد الى ساحه المعركه , لا وقت للراحه " ابكت الناس ولم تبك ..!! كان يقول لها دائما :"انت اقوى مني بالكلام يا بنت الشيخ " لقد تعلمت الكلام عاى يد ابيك شيخ جامع عين الغزال ,.. لما انتهوا من دفنه في مقبره القريه , رجعوا مارين باب دارها , سالتهم : "وين باروده ابو علي ..!!؟ " تناول احدهم بارودة كانت معلقه على كتفه , وناولها اياها , فاخذتها من يده , ودخلت عليّ منبطحا في غرفتي على فرشتي , ويصدر عني بكاء مر , فصاحت بي : "قم وارفع راسك , وامسح دموعك , وتوقف عن البكاء ..!! "
ولما وقفت , علقت الباروده على كتفي قائله : " خذ هذا البارود وسد مكان ابيك .!"
التحق بالثوار حالا الليله ..!! وعندما رجعت في اخر الليل مررت بغرفتهما , سمعت بكاءها الذي كان يقطع كل تراكمات السكوت , الذي كان يلف المكان ..!!
– اتدري ان ابي قتل على يدالثوار في معركه صبارين ..!! قال الطبيب وهو يفحص ابيه
– في بلدنا ..!! قال الابن بعد ان افاق من هول الصدمه
– نعم والذين قتلوه هم اهل بلدكم ..!!
– اهل بلدنا ..!!؟
– نعم اهل بلدكم التي كانت بلدكم ..!! وهو مدفون في عمقام ..
# # #
– اطلقوا عليه النار طخوه .. الم اقل لكم انه موسى العراقي .. الم اقل لكم انه جاسوس صوبوا غليه وقتلوة .. قتلوه حينما كان يرفع راسه من فوق الصخره ..!!
# # #
لقد عاد لابي الهذيان مره اخرى .. انه لا ياته لا حين يكون الطبيب الى جانبه .. انه لامر في غايه الحرج ..!!
– اتدري من هو موسى العراقي ..قال الطبيب وهو يقول سرا دفينا .
– لا .!! قلت وقد اخطلتت في احاسيس الحرج , وحب الاستطلاع ..
– انه ابي ..! ان اسمه الحقيقي يسحاق كرمي ..!!؟
– اتدري من الذي قتله ..؟؟!
– لا .. قلت وقد شعرت وكاني ادخل في غياهب الظلام .
– الذي قتله هو جدك ..!! اطلق عليه النار وارداه قتيلا ..!!