زفاف جثة
تاريخ النشر: 23/11/15 | 11:12كانت ليلة باردة جدا والتعب أخذ مني كل مأخذه بعد نهار قضيناه نتجول في أروقة السوق تحت سيلان شديد شهدته السماء ذلك اليوم ويسدل الفضاء بالحجاب الرمادي القاتم وفي البيت المجاور لبيتنا حيث تقيم صديقتي**ياسمين**كانت الحركة دؤوبة تحضيرا لزفافها الذي أوشك قربه وكنت تقريبا نصف اقامتي عندها في بيتهم
ياسمين كان لقائي بها في المرحلة الثانوية كانت طالبة جديدة حلت بمدرستنا، وكنت اول من تعرف عليها وسرت بها لبقية بنات الصف، كانت في البداية خجولة جدا والحياء باد بل طاغ على ملامحها، لكن مع الوقت وبمرور الزمن تأقلمت مع الوضع الجديد وشيئا فشيئا صارت تزورنا في البيت وأبادلها أنا الزيارة حتى توطدت العلاقة بين أسرتينا
شيء غريب لاحظته وبقية المحيطين بياسمين وهو منذ دخولها المدرسة ارتدائها الزي الاسود وتكسره بالمئزر الابيض وهي مجبرة على ذلك، لم أتمالك نفسي ورحت سائلة لها عن هذا الزي، وياليت لساني ما نطق بسؤاله وتركت لباب الحيرة داخلي، فضلت الصمت أولا ثم اكتحلت مآقيها دموعا، لتفصح اخيرا عن سبب لون ثيابها وكذلك سبب هجرهم ديارهم “موت أبي” كل ما الامر لتزيد غرابتي ويشتد عجبي لهول الحزن المستبد بها وعاهدت نفسي ألاّ أفتح لها موضوعا بخصوصياتها إلا ما تبيحه هي.
انتهى الموسم الدراسي وظفرت كلتينا بمقعد في الجامعة وحجزنا أولى تذاكر المستقبل الطموح الذي شيدته الطفولة، فاخترت أنا الادب لأني كنت شديدة الولع به أما هي فاختارت الصحافة مهنة احترفها والدها’ وسارت كل منا قدما لتحقيق مآربها وغاياتها ومرت سنون الجامعة في رمشة عين دخلت عالم الصحافة من أوسع أبوابه خطوة تبارك للتي تليها في عملها الذي بالحرص والنشاط والنجاح واكتسحت شهرة واسعه بإشعاع مقالاتها الي كانت أكثرها سياسية، أما أنا فسرت الى عالم القصة والشعر والخاطرة بين الصحف وغير مرة كان يجتمع عملينا في صحيفة واحدة
كان الزفاف مقررا نهاية الاسبوع القادم، لكن وفجأة دون سابق إنذار يقوم المدير الذي تعمل في صحيفته الأسبوعية بإرسالها الى العاصمة لأجل حضور ندوة صحفية لشخصية سياسية مشهورة، رغم كل الصعاب والظروف التي تمر بها، لبت الدعوة وفي طريق رحلتها ونحن نودعها أمسكت بقلم طالما رأيته عندها وكانت أغلى ما تحتفظ به ولم تكتب به قط إلا عندما بدأت في العمل، وضعته بين يدي وكانت شديد الحرص أن أحتفظ به حتى عودتها
عودتها التي كنا ننتظرها بشغف، وكانت هي الليلة تلك، ذهبت لأستريح قليلا في غرفة النوم غفوت قليلا فإذا بصراخ يخترق سهام الليل الساكن فالكل في مأواه بسبب الأمطار، خرجت مسرعة الى باحة المنزل حيث وجدت أسرتي هناك متسائلة حيرى، لينبلج فجر ذلك كله عن وفاة ياسمين صدمة قوية هزت كياني، ولم أصدق النبأ فأسرعت الى بيتها وكان أول استقبالا دموع جدها الذي فضل العيش معهم بعد رحيل والدهم، دموع أزاحت كل ريب وكانت الوجه الآخر للحقيقة، رحت من غير وعي أصرخ وأصرخ بين تفنيد وتصديق للخبر الى أن حل المساء وأحضرت الجثة، حضور قطع كل حبال الوصال، وزفت بدل بيتها الى قبرها وكأن الجاني وضع حسابا لكل شيء، وراحت تتضارب الأخبار وتحاك الشكوك هنا وهناك لتقيد وفاتها ضد مجهول حالها حال والدها.
جنه الفردوس