الجريمة الغائبة: بين ألمانيا الثلاثينيات وإسرائيل
تاريخ النشر: 23/11/15 | 13:11حتى الآن طالبنا كفلسطينيين أن نمارس حقنا في تعلم تاريخنا، وفي دراسة تاريخ النكبة كجزء أساسي من تاريخنا، لكننا حتى الآن لم نطالب بحقنا في أن يدرس الإسرائيليون تاريخ نكبتنا، إذ رفض وعينا الاعتراف بأن تاريخنا هو تاريخهم أيضا منذ لحظة تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض وطننا، وساهم مصطلح الـ’ناراتف’ على هذا الفصل، وكأنه يمكن الفصل فيما يتعلق بواقع القمع، بين تاريخ القامع وبين تاريخ المقموع. ولم نعترف أن شرط الاعتراف بالغبن التاريخي الذي حصل لنا كتمهيد لقيام الدولة، لا يمكن أن يقفز عن شرط أن يتعلم الإسرائيليون هذا التاريخ ويذوتوه كجزء من تاريخهم.
والآن، إلى أي مدى العكس هو صحيح أيضا؟ أي إلى أي مدى علينا أن ندرس نحن أيضا تاريخ اليهود في أوروبا وتاريخ الصهيونية كشرط لفهم تاريخنا وما جرى معنا؟ لماذا نجح الإسرائيليون في احتكار تاريخ المحرقة وصهينتها؟ أليست مسؤولية الفلسطيني أن يقاوم هذا الاحتكار؟ ألا نجد ذلك ضروريا لإعادة ‘تصحيح’ كتابة التاريخ (إذا كانت عبارة ‘تاريخ صحيح’ عبارة ممكنة)، الذي على تزويره تستمر إسرائيل في هندسة وعي أجيالها وفي ابتزاز وعي العالم؟ أليس علينا أن نفكر أكثر فيما يتعلق بمشاركة بعض أعضاء الكنيست العرب وفودا إسرائيلية لزيارة المحرقة، ليس من منطلق عدم تماهينا مع الضحية، بل من منطلق عدم تماهينا ومناهضتنا للاستعمال الإسرائيلي للمحرقة وضحاياها؟ أليس علينا إعادة التفكير بروية حول كيفية تصويتنا لقوانين تتعلق بناجي المحرقة، وتعويضاتهم وحقوقهم داخل إسرائيل، وكأن إسرائيل هي الممثل الشرعي لهم، مع أن العلاقة الأساسية التي تربط إسرائيل أو الحركة الصهيونية مع اللاسامية وجرائمها ومع النازية هي علاقة تجيير واستفادة وتعاون؟
لماذا أهملنا في خطابنا السياسي مسألة تعاطي الصهيونية مع يهود ألمانيا، في الوقت الذي تشير به معظم الأبحاث التي كتبت حول التعاون بين الحركة الصهيونية وبين بدايات النازية، لمعطيات تكاد لا تصدق.
أليس في الكشف عن تعاون الحركة الصهيونية مع النازية، قبل صعود هتلر للحكم، قيمة لكشف كذب كونها حركة تحرر وطني، بالإضافة للكشف عن الجوهر العنصري لدولة إسرائيل؟
لماذا نقلل في تعاملنا مع تحليل الصهيونية حقيقة أنها مثلا لم تعبأ بقتل اليهود غير الصهاينة، وعلى أنها تماهت حتى أيديولوجيا مع النازية قبل تولي الأخيرة الحكم، باستثناء التوجه اللاسامي طبعا، وعلى أنها عقدت اتفاقات مع ألمانيا في منتصف الثلاثينيات تقضي بالموافقة على طرد اليهود من ألمانيا على أن يتم تهجيرهم وكل أملاكهم إلى فلسطين؟
ولماذا نتردد من مقارنة ما فعلته ألمانيا باليهود وما تفعله إسرائيل بنا؟ ولماذا لا نقارن بين وسائل مقاومة اليهود أو الأوروبيين بشكل عام للنازية وبين وسائل مقاومة الفلسطينيين. وبين مقاطعة اليهود داخل ألمانيا للمصالح والشركات وبين مقاطعة الفلسطينيين لإسرائيل؟
هل لأنه فعلا لا وجه للمقارنة أم لأسباب أخرى؟
هنالك أوجه للمقارنة، وهنا المكان للتشديد، نقارن بين إسرائيل وألمانيا الثلاثينيات، قبل صعود هتلر للحكم، بالتالي فإن المقارنة خارجة عن أفران الغاز، ولا تتعلق بحجم القتل وعدد الضحايا، فالجرائم لا تقاس بحجمها أو مداها فقط، بل أهم، بما مهد لتلك الجرائم، أي بالثقافة السائدة التي أدت لها: ابتداء من شيطنة العدو واستعدائه إلى عدم الإحساس به وحجزه خارج الوعي. وقد تقاس الجرائم بمدى التطبيع معها، وجعلها جزءا من الحياة العادية، وعدم تشخيصها، والقفز عنها وعدم التعاطي معها، أو بمدى تبريرها عندما تشخص أو يتم التعاطي معها.
نستطيع أن نشخص أيضا التشابه في ‘المثل العليا’ التي باسمها ترتكب الجرائم، فالجرائم التي ترتكب باسم المثل لا تقل وحشية، بل ربما هي أكبر، من الجرائم التي ترتكب باسم الوحشية.
بين باريس وبيروت تمتد الجريمة نفسها، لكن بين ألمانيا الثلاثينيات وإسرائيل يمتد الإحساس نفسه بانعدام الجريمة. نفس هندسة الواقع التي تؤدي إلى امتصاص الجرائم وكأنها لم تكن، نفس هندسة الوعي التي تؤدي إلى ابتلاع الجرائم ضمن ‘نظام قائم’ من الاستقرار. نستطيع أن نسمع قصصا مروعة عن استمرار الحياة الطبيعية لليهود أنفسهم عندما كان يساق بعضهم لأفران الغاز، ‘الاستقرار’ هناك كان مبنيا على عدم الفهم، على عدم إدراك الجريمة زمن وقوعها للعديد من الألمان اليهود وغير اليهود، كما حب الاستقرار هنا، والجنون الإسرائيلي بزعزعة ‘الستاتوس كفو’ قائم على الرغبة العارمة في إبعاد الجريمة عن الوعي.
إن الهبة الأخيرة التي شهدتها القدس، لم تزعزع ‘أمن’ الإسرائيليين فقط، بقدر ما زعزعت حالة غياب الفلسطيني عن الوعي الإسرائيلي، ونجاحه في اختراق الجيتو الإسرائيلي الصلب العازل لوجوده.
‘خفة الكائن الفلسطيني’، ليست المحتملة فقط، بل المطلوبة، هي شرط لحالة الاستقرار الإسرائيلي، والمطلوب منا، هي إعادة الثقل لهذا الكائن، لتعود معه وطأة الجريمة وحضور المجرم.
حنين زعبي