قراءة في “وطن العصافير” لوهيب نديم وهبة
تاريخ النشر: 28/11/15 | 10:31أسعدني الأديب والشاعر الأستاذ “وهيب نديم وهبة” بإهدائهِ إيّاي كتابه الجميل أنيق الإصدار الذي يحمل عنوان “وطن العصافير” حيث تتمحور في مضمون هذا الكتاب فكرة السلام من خلال قصة كتبها أديبنا العزيز تتّسم بالطابع الأليجوري أو ما يُعرف بالأمثولة أو القصة الكنائية (allegory) وفيها يصوّر الكاتب الغابة وقد سيطرت عليها الحيوانات المفترسة الأخرى والكبيرة كالفيلة والتماسيح وغيرها وطغت وتجبّرت فيها ممّا أدّى إلى هجرة العصافير التي كانت تعيش آمنة هناك، وبالتالي فقد حلّ الفوضى والدّمار في الغابة ممّا جعل الحطّاب يشعر بحرمانهِ من أهازيج العصافير العذبة في الصباح نتيجة ما حلّ في الغابة، من خراب، الأمر الذي جلب الصعوبات والمشاق له في نقل أكياس الفحم بعربته إلى المدينة التي حين جاء حاكمها لاستطلاع ما جرى في الغابة، خرجت بعض الأفاعي التي اختبأت في أكياس الفحم وقرصت الحاكم فمات جراء ذلك، واتّهم الحطّاب بمقتله، ولكن بعد تحقيق طويل ومضنٍ، ظهرت حقيقة براءة الحطّاب الذي توصّل إلى اتفاق مع المحقق أن يسعى لإحلال السّلام في الغابة عن طريق تقسيم الغابة إلى نصفين بحيث يكون نصف الغابة للحيوانات والنصف الآخر للعصافير، وبفضل جهود الحطاب والخيّرين الذين تعاونوا معه فقد أصلحوا ما ساد الغابة من دمار وخراب وعادت المياه لمجاريها وحلّ السلام في الغابة وفقًا للحل الذي تمّ التوصّل إليه بقيادة الحطاب فعادت العصافير مع الحيوانات إلى مرتعها السّابق لتحيا جميعها بوئام واتفاق وسلام.
يتَّضح من موجز هذه القصة أنّ الكاتب قد لجأ إلى أسلوب القصة الأليجورية أو الكنائية التي رمى من خلالها إبراز أهمية المصالحة بين طرفين أو فريقين متنازعين سياسيًا حول وطن مشترك يسكنه أفراد الطرفين وذلك من خلال حياة سلامية مشتركة وتسوية يتقاسم فيها الفريقان هذا الوطن المشترك ليعيش الفريق القوي مع الفريق الآخر الأقل قوةً، وبذلك يكون هذا الحل بمثابة الخروج والخلاص من حالة الخراب والدّمار التي تأتي بها الصراعات والنزاعات بين الشعوب المتخاصمة واختلال ميزان القوى بين الطرفين المتنازعين برجحان كفة الطرف الأقوى على الطرف الآخر الذي يتطلّع إلى السلام والعيش بطمأنينة وسكينة وهدوء والمتمثل في هذه القصة رمزيًا بعصافير الغابة.
وممّا تقدّم يمكن القول بأنّ الأستاذ “وهيب نديم وهبة” قد تناول فكرة أو تيمة السلام بمهارة وحنكة أدبية متميزة مستخدمًا الأليجوريا في فن القصة من خلال الإيحاء رمزيًا بما يقصده ويريد أن يوصله إلى القارئ الحصيف الذي يمكنه بسهولة أن يفهم المعاني الرمزية التي يتوخّى الكاتب أن تصل إلى أذهان القرّاء حيث إنه بهذا الأسلوب يكون قد أرضى فكريًا القارئ البالغ الواعي للرمزية الكامنة في القصة من جهة، في حين أنه من الجهة الأخرى يكون قد زوّد القارئ الصغير من الأولاد والناشئة ووفّر لهم قصة تتناسب وتتلاءم مع أعمارهم بمفهومها المباشر دون أن يلجأوا إلى التحليل الرمزي أو المعنى الكنائي للقصة بكونها قصة أليجورية للكبار.
وهكذا يكون الكاتب بفنّيتهِ الأدبية وحكمته الفكرية قد نجح نجاحًا باهرًا في طرح مبدئه السلامي الذي يمكننا وصفه بالمصطلح الأجنبي بأل (pacifism) وعليه يكون الأستاذ “وهيب نديم وهبة” داعية للسلام (pacifist) لأنّه يمتلك النزعة الإنسانية وينحو منحى الوئام والتفاهم بين الشعوب بتعدد شرائحها وأطيافها وانتماءاتها.
ولا يفوتنا في كتاب “وطن العصافير” الذي نحن بصدده هنا والذي حاز على إعجابنا بشكله ومضمونه وحسن إخراجه وأناقة إصداره، أن نشير إلى الرسومات التي تخلّلت صفحات الكتاب والتي أبدعتها بريشتها الفنانة الموهوبة والأصيلة صبحية حسن؛ تلك الرسومات التي أضفت جمالية ورمزية خاصة على أحداث القصة أخص بالذكر منها لوحتين استرعتا انتباهي هما: الأولى لوحة ايدي شخصين مقيدتين بالأغلال (صفحة 18 من الكتاب) والثانية لوحة اليدين المتصافحتين التي تحلق فوقهما حمامة بيضاء (صفحة 68) ممّا يوحي برمزية معينة ومقصودة لمعاني أحداث الكتاب، فاللوحة الأولى المشار إليها هنا تمثّل في رأينا ومنظورنا القيود التي يفرضها العداء المستحكم بين طرفين متنازعين بفعل الحواجز والأغلال النفسية والعرقية والتي تستلزم التخلّص والتّحرّر من هذه المعوّقات التي تحول دون التوصل إلى السلام والوئام المنشود بإحلال التفاهم والتصالح بغية التعايش السلمي. ومن زاوية أخرى، فإنّ هذا القيد الذي يكبّل ويربط ايدي شخصين إنّما ترمز إلى قيود الفوضى والصراع التي تمنع حرية التصرف السليم والحركة الرشيقة في وسط أي مجتمع ما. ومن هنا فإنّ اللوحة الثانية ذات اليدين المتصافحتين ترمز إلى حالة التحوّل والتغيّر والتبديل من حالة الفوضى والصراع في رمزية اللوحة الأولى إلى حالة التصالح والنظام والقانون الإنساني بينما ترمز الحمامة البيضاء المحلّقة فوقهما إلى طول مدة السلام الذي سيسود بفضل الإخلاص في روح النور والسلام وانتقال من حالة حياتية في العالم إلى حالة أخرى، بالإضافة إلى البراءة وطول العمر والسلام الذي سيسود بفعل الإخلاص والانتصار على الموت النابع من النزاعات والصراعات. كما أنّ الحمامة في العهد القديم من الكتاب المقدّس ترمز وتمثّل البساطة، الوداعة، وعدم الضرر والأذى.
وهكذا، لا يسعنا أخيرًا إلّا أن نُشيد بالأديب والشاعر “وهيب نديم وهبة” على ما قدّمه من أفكار نيّرة تتمركز حول تيمة أو فكرة السلام من خلال أسلوب الحكاية الكنائية أو ما يعرف بفن الأليجوريا حيث أجاد وأحسن في عرض فكرته بكل سهولةٍ وبساطة وانسيابية لغوية من شأنها أن تستحوذ على ذائقة الكبار برمزيتها، وتشوّق الصغار لبعدها عن الوعورة والتعقيد، علاوةً على مصاحبة النص للرسومات واللوحات الجميلة الأنيقة الأخّاذة بفنيتها التي أبدعتها الفنانة صبحية حسن لتشكّل بذلك جزءًا هامًّا لمحتويات الكتاب والمعاني التي يتضمنها.
فللأستاذ “وهيب نديم وهبة” والفنانة “صبحية حسن” خالص الثناء والإطراء، وأطيب التمنيات بدوام التوفيق والعطاء المقرونة بالتقدير والاحترام، وكذلك لما قامت به الأديبة “بروريا هورفيتس” من ترجمة مرافقة للنص العربي في الكتاب، وما قدمه الدكتور “صفا فرحات” من تدقيق ومراجعة لغوية للنص العربي.
إشارات:
• وطن العصافير: قصة للشبيبة- ضمن مشروع “أدب الشباب” للشاعر الأديب – وهيب نديم وهبة.
• الرسومات: للرسامة المبدعة “صبحية حسن”.
• صدرت الطبعة الأولى عام 2014 – عن دار الهدى- كريم.
• الترجمة إلى لغة أجنبية عام- 2014.
• وطن العصافير – ضمن مشروع مسيرة الكتاب في المدارس.
• تم مسرحه ” وطن العصافير ” على خشبة المسرح عام- 2015.
الناقد والشاعر الدكتور منير توما