إستعراض كتاب ” ورق ورحيق ” للأديب يوسف ناصر
تاريخ النشر: 30/11/15 | 2:57مقدِّمة ٌ : الشَّاعرُ والأديبُ المُبدعُ الأستاذ ُ ” يوسف ناصر ” المُقِيمُ في مسقط ِ رأسِهِ قرية ” كفر سميع ” الجليليَّة دَرَّسَ اللغة َ العربيَّة َ أربعة َ عقودٍ في مدرسة ترشيحا الثانويَّة ويعملُ الآنَ مُحاضرًا للغة ِ العربيَّةِ في جامعةِ القدس . يكتبُ الشِّعرَ والأدبَ علبى مختلفِ أنواعهِ منذ أكثر من ثلث قرن … صدرَ لهُ حتى الآن ثلاثة ُ كتبٍ ، وهي : 1 ) وَمَضات وأعاصير ( مجموعة شعرية ) . 2 ) ضريح الحسناء ( قصة ) … وسَبقَ أن كتبتُ أنا عنهما دراستين طويلتين نشرتا في جريدة “الإتحاد . 3 ) كتابُهُ الذي بين ايدينا الآن ” ورق ورحيق ” .
يُعتبرُ الأستاذ ُ يوسف ناصر من أوائل ِ الكتابِ والشُّعراءِ المحليِّين ومن الضليعين والجهابذةِ الأوائل في اللغة ِ العربيَّةِ العربيَّةِ .. ورغم منزلتهِ اللغويَّة وقدرتهِ الأدبيَّة لم يشَأ أن يكونَ عضوًا في ” مَجْمَع ِ اللغة ِ العربيَّة ” في إسرائيل ، أو مشاركا ً في أيٍّ من نشاطاتهِ لموقفهِ من هذا المَجْمَع ِ . وكما أنهُ لم يتقدَّمْ مرَّة ً واحدة ً للحصول ِعلى جائزة ِ التفرُّغ ِالسلطويَّة .
مدخلٌ : كتاب ” ورق ورحيق ” يقعُ في 124 صفحة من الحجم المتوسط ُطبعَ في مؤسَّسةِ ” الأيام ِ ” في رام الله – على نفقةِ الكاتب الشَّخصيَّة . ويهدي المؤلفُ هذا الكتابَ ( كما جاءَ في المقدمة ) إلى روح ِ والديهِ ( أبيه ومه ) وإلى زوجته وأولاده ِ وأخوته ِ وأخواتهِ الأحياء منهم والأموات وإلى ذوي المقاماتِ الشامخةِ الذين تفيض ُ قلوبُهُم بينابيع المحبَّةِ الصَّافيةِ فتسقي كلَّ الناس … إننا ومن َنصِّ الإهداء ِ المذكور ِ نستشِفُّ ونلمسُ البعدَ الإنساني والمثاليَّة َ المُطلقة َ والقيمَ السَّامية َ عند الكاتب . يتناولُ الكتابُ مجموعة ً من المقالاتِ الأدبيَّة ِ والفكريَّة والخواطرَ الوجدانيَّة التي تتمحورُ في عدِّة ِ مواضيع ، منها : الإجتماعيَّة ، السياسيَّة والإنسانيَّة والتربويَّة والوطنيَّة والفلسفيَّة .. إلخ .. . وسأرَكزُ الأضواءَ في هذه الدراسة ِ على بعض المقالاتِ مع الإستعراض ِ والتحليل ِ وبشكل ٍ مختصر ٍ قدر الإمكان تفاديًا للإطالةِ وليتسنى للقارىءِ تقويم هذا الكتاب القيِّم قدر الإمكان وليتذوَّق ويرتشِف من سلساله ِ العذبِ ويستنشق أريجَ باقاته ِ الرائعة الخالدة … إنهُ كتابٌ في نظري لم يبلغ ْ شأوهُ كتابُ أدبٍ في بلادنا لايِّ أديب أو كاتبٍ … وقد بَهرَ كلَّ من قرأهُ … وكتبَ عنهُ أكثرُ من كاتبٍ وقد نالَ جائزة َ مؤسَّسة ” ناجي نعمان الأدبيَّة ” – في لبنان – وسيُترجمُ إلى إحدى عشرة لغة .
وممَّا يُميِّزُ الأديب الشاعر يوسف ناصر عن معظم الكتاب والشُّعراء المحليّين في جميع كتاباتهِ ( الشعريَّة والنثريَّة ) الأسلوب الأدبي الرَّفيع المُنمَّق والجذ َّاب والمُترع بالشَّفافيَّةِ والسِّحر ِ والعذوبة ِ والجمال ِ والمليىء بالصور الشِّعريَّة والمعاني البلاغيَّة المُبتكرة الخلابة وبالفلسفة الإنسانيَّة الشَّموليَّة الرَّائعة فيأخذنا إلى عالم ٍ عُلويٍّ سَماويٍّ رائع ٍ… عالم ِ الحبّ والجمال والسحر والرومانسيَّة … فتتجلى في كتاباتهِ العبقريَّة ُ الإبداعيَّة ُ الفذ َّة ُ ونجدُ اللغة َ العربيَّة َ الجزلة َ القويَّة َ والسَّاحرة َ والسَّهلة َ والمفهومة َ التي تتلاءَمُ مع روح ِ العصر ِ والتجديدِ …فكتاباتهُ جميعُها عبارة ٌ عن باقاتٍ من الورودِ والرَّياحين والخمائل ِ تظللُ وتنعشُ المهجَ والقلوبَ .. وينابيع عذبة صافية تروي أوامَ كلَّ مُتشوِّق ٍ مُتلهِّفٍ إلى الأدبِ والإبداع ِ الحقيقي وَسط َ هذا الهجير والزحام الشَّديد ، بين الكم الكبير الهائل من المتطفلين المُتسلقين على الدوحة ِ الأدبيَّة ِ المحليَّةِ الباسقة ِ في زمن ٍ عَزَّ فهِ الأدبُ الحقيقي الهادفُ وماتت فيهِ القيمُ والمبادىءُ وأصبحت فيهِ القيمُ والمُثلُ عملة ً نادرة ً وأصبحَ كلُّ من هَبّ َ وَدَبَّ وكلُّ مُتسَكع ٍ لكع ٍ يكتبُ الشِّعرَ والأدبَ وَيُسَوِّقُ نفسَهُ وينالَ الجوائزَ بفضل ِ وسائل ِ الإعلام الصفراءِ والجهاتِ والأطر المشبوهةِ والمعنيَّة في تدمير الثقافة والادب العربي المحلي وهي معروفة للجميع .
سأستهلُّ هذه الدراسة َ بمقالة ٍ وباقة ٍ من الكتاب بعنوان : ” أيُّها السَّائرون في طريقكم إلى الغربة ِ ” حيثُ يتناولُ الكاتبُ فيها موضوعَ الهجرة الذي باتَ يُرَى بشكل ٍ ملحوظ ٍ وسيُشَكلُ خطرًا على الأقليَّة ِ العربيَّةِ في المستقب ِالقريب من جميع النواحي … ففي كلِّ سنة يُهاجرُ الكثيرون من الطبقةِ المثقفة ِ والمُتعلمة ، من العربِ ، إلى الخارج ِ – خاصَّة ً إخوتنا وأهلنا العرب المسيحيَّين – فيُخاطبُهُم الأديبُ يوسف ناصر بلغة ٍ تهزُّ أعماقَ الفؤاد والوجدان ويحثُّهُم ويستحلفُهُم أن يرجعُوا إلى أوطانهِم ليبنوا ويشيِّدوا فيها صروحَ العام والثَّقافة والإبداع وليخدموا مجتمعهم وأهلهم . فيقولُ الأستاذ يوسف :
( ” يا أيُّها السَّائرونَ في طريقكم إلى الغربةِ !! سامحكم الوطن ولا حمَّلكم دمَهُ ، إنَّ قلبي ينخلعُ .. وصدري ينصدعُ ! تلفتوا إلى الوراء …!! إنَّها أرواحُ أمَّهاتكم وآبائكم خرجت من تحت الثرى تتبع خطاكم.. تبكيكم … تستجديكم … تضُمُّكم … تشُمُّ ثيابَكم … وتناديكم : عودوا ” ) . ويقولُ : ” يا ليتكم تدرونَ أننا مذ رحلتم نموتُ كلَّ يوم ٍ تحت التراب ، وقبورنا تدفننا بأيديها ساعة َ نموت لما ينتابُنا من ألم ِ العذاب ..!! ” . إنَّهُ لأسلوبٌ مُؤثرٌ جدًّا يهزُّ أعماقَ أعماقَ الضمير ِ . ويذكرُ ويستعرضُ الأستاذ ُ يوسف ناصر في هذه اللوحة الملوَّنةِ جمالَ وسحرَ بلادهِ ، وخاصَّة ً الجليل ومدنه وَقُرَاه ومواقعَهُ المُقدسة وأريافه وسهوله وهضابَهُ وجباله وينابيعَهُ وسواقيه وأشجارَهُ وأطيارَهُ بلغة ٍ وبأسلوبٍ أدبيٍّ شاعريٍّ لا أظنُّ أحدًا يُمكنُ أن يُجاريهِ فيهِ من الشُّعراءِ والأدباءِ المحليِّين وهو قريبٌ ، وخاصَّة ً في وصفهِ للطبيعةِ الجذلى وسحرِها وفلسفتها ، إلى أسلوبِ ” وليم بليك ” خاصَّة ً…وعمالقة الشُّعراءِ الرومانسيِّين الغربيَّين في مطلع ِ القرن ِ العشرين عامَّة ً . يقولُ مثلا ً : ( ” إنَّ شوامخَ الجبال ِ في أقاصي الدنيا اشتهت لو أنَّها كانت يومًا حبَّةَ َ ترابٍ واحدة في سفوح ِ جبال ِالجليل ِ الناطق بألسنة ِ المعجزات والشَّاهد على الخوارق من ذلك الماضي السَّاكن في حدائق التاريخ الغابر …!! وإنَّ أكبرَ المحيطاتِ في هذا الكون ِ ، وَدَّ لوْ جَمعَ نفسَهُ يومًا في كأس ٍ واحدة ٍ من ماءِ الأردن ، وبحر ِ الجليل ِ الزَّاخر بالرَّحيق العذب ، والسَّلسل الصافي من أعاجيب هاتيك الحقب … !! . ويقول أيضًا : ( ” ويا نشوتي لما حَنيْتُ ركبتي على جبل ِ الزيتون ِ في مشارفِ القدس ، ورأيتُ اللهَ من هناكَ واقفا ً في نصف ِ الدنيا بكلِّ مجدِهِ وجلالهِ ، ينادي أمَمَ الأرض ِ وصوتهُ يزلزلُ الأرضَ والسَّماء ! تعالوا ادخلوا فرحَ ربِّكم وتهللوا ، قومُوا ” اطبعُوا سيوفكم سككا ً ورماحَكم مناجلَ ” ليكونَ لكم ” على الأرض ِ السلام وفي الناس المسرَّة ” .
ومن حيث أنَّ الهجرة َ عن البلاد نابعة ٌ من مُعاناة ِ الناس ِ ويأسهِم بفعل ِ الظروفِ السِّياسيَّة ِ والتجاربِ القاسيةِ التي يعيشونهَا وغياب الأمن الذي يشعرُ بهِ المسيحيُّون خاصَّة ً ، فإنَّهُ يُخاطبُهُم قائلا ً : ( ” لماذا لا تتخذونَ من السيِّدِ المسيح أمثولة ً حسنة ً لكم في حسن الثباتِ على المكارهِ ، إذا ادلهَمَّ الليلُ واعْصَوْصَبَ الشَّرُّ يومًا ، ..!! وليكن واحدكم في هذه الحياةِ مَسيحًا ، حاملا ً صليبَهُ على كتقيهِ دائمًا ، فيصبرُ على الآلام ِ والمسامير ِ والطعن ِ والضربِ والجلدِ واللكم ِ والخل من أجل ِ البقاء ِ والوفاءِ للوطن ِ الحبيبِ الذي وَهبَهُ اللهُ لكم إلى أن يأتي الخلاصُ لهذا العالم ِ . ..” ) .. إلخ ..
تحليلُ المقالة : –
في هذه اللوحة ِ الأدبيَّةِ يطلبُ الأستاذ ُ ” يوسف ناصر ” من المُهاجرين إلى بلادِ الغربةِ لأجل ِ المَكسَب ِ وجمع ِ المال ِ أن يعودُوا ويرجعُوا لديارهِم وأوطانهم ليبنوها ويسكنوها … فيجبُ عليهم الثبات والصَّبر مهما كانت ِ الظروفُ .. ويستشهدُ بالسَّيِّدِ المسيح ِ الذي صبرَ على الآلام ِ والصَّلب ِ والمسامير ِ ووَهَبَ نفسَهُ ذبيحة ً حيَّة ً أبديَّة ً وقربانا ً وفداءً عن جميع ِ البشر ِ لأجل ِ خلاصِهِم . فليقتدي أولئكَ المُهاجرون بالمسيح – عليه السَّلام – وليبقوا وليَتشبَّثوُا ببلادِهِم وأرضهم ُرغمَ الظروف ِالصَّعبةِ القاهرة من فقر ٍ مُدقع ٍ وعوز ٍ وضيق ٍ وتمييز ٍ عُنصريٍّ .. إلخ … (( البعد السياسي والوطني )) وليكونوُا دائمًا دُعاة َ سلام ٍ ونموذجًا ومثالا ً للسلام ِ والمحبَّة ِ والوداعة ِ رغمَ أنَّ الطرفَ الآخرَ والشَّعبَ الحاكمَ يتعاملُ مع الأقليَّةِ العربيَّةِ بمنظار ٍ ومنطلق ٍ عُنصريٍّ واستعلائي . فبعد الآلام والضيق ِ لا بدَّ أن يأتي الفرجُ … ونلمسُ هنا ، عند الكاتب ، عنصرَ الإيمان القويّ الثابت بالرَّبِّ ومسيحِهِ المنشود الذي لا ينسى ولا يهملُ طالبيه بالحقِّ والإيمان ِ . ويستعملُ الكاتبُ ، في هذه المقالةِ ، بعضَ الكلماتِ العربيَّةِ الجزلةِ والقويَّة والصَّعبة التي رُبَّما لا يستعملها مُعظمُ الكتاب ِ والأدباءِ الآن في عصرنا ، مثل : إدلهمَّ الليلُ ، إعْصَوصَبَ ، تا لله . وكلمة ُ ” تا لله ” للقسم بمعنى والله .. . أي القسم باللهِ جلَّ جلالهُ – وكانت ُتستعملُ كثيرا ً في العصر ِ الجاهلي ( قبل أكثر من 1600 سنة ) . يقولُ امرؤُ القيس مثلا ً :
” تا للهِ لا يذهَبُ شيخي باطلا يا خيرَ شيخ ٍ حسَبا ً ونائِلا ”
واليوم لا نجدُ أيَّ شاعر ٍ وأديب ٍ يُقسِمُ بهذا القسَم ِ : ” تا للهِ ” … إنَّ الكاتبَ بهذا التعبير ِ وذاك يودُّ أن يُحيي الرَّميمَ من كلماتِ العربيَّة وذلك بحسن ِ اختيارهِ للكلمات ِ ذات الوقع المعنوي والإيقاع الموسيقي ، وقد أفلحَ في ذلك حقا . ويستشهدُ الكاتبُ في نهاية ِ المقالة ِ بشيخ ٍ عجوز ٍ مُقسَئِنٍّ عاشَ في بلادِ الغربة ِ أعوامًا طويلة ً وعندما دَنت منيَّتهُ صاحَ وهو على سرير ِ الموت في الذين تحلقوا لوداعهِ بأن لا ينسوا إذا ما ذهبوا إلى مسقط ِ رأسِهِ وراءَ الحدود ، أن يأتوا إلى قبرهِ ، مسبقا ً، ويجمعوا ما تبقى من رفاتهِ ويحملوهُ معهم إلى موطنهِ الأوَّل كي يقم َ بين آبائهِ وأجدادهِ في الثرى الحبيب وأن يكتبوا بعضمةٍ من عضامِهِ فوقَ قبرهِ هناك على الصَّفائح : ” ليسَ في الأرض ِ أعظم من أن يقضي المرءُ حياتهُ فوق ثرى الآباءِ والأجدادِ ويقضي نومَهُ الطويلَ ( الموت الجسدي ) في هذا الثرى المقدس ” … ويذكرُ انَّ البرَّ الحقيقي هو الأخلاق السامية والوفاء لترابِ الوطن … والذي لا يوجدُ لديهِ إخلاص ٌ ومحبَّة ٌ وبِرٌّ لوطنهِ وترابِ اهلهِ وأجدادِهِ لن يكونَ بارًّا في أيِّ شيىءٍ آخر …. وباختصار ٍ إنَّ الإنسانَ المؤمنَ ( كما يودُّ أن يقولَ لنا الكاتبُ ) … الذي يعرفُ ويخافُ الخالقَ ويُقدِّسُهُ يكونُ لديهِ حبٌّ وعشق ٌ عظيمٌ لوطنهِ وأرضهِ لأنَّ الأرضَ والعِرْضَ َسيَّان ، ومن لم يَغرْ على عِرضهِ ليسَ بمؤمن ٍ وبارٍّ . فمَنْ كانَ بارًّا بميراثِ وطنهِ كانَ في الحقيقةِ بارًّا في كلِّ شيىءٍ وحَازَ على كلِّ أنواع ِ البرِّ في العالم ِ . وفي هذه المقالةِ نرى ونستشِفُّ مواضيعَ وأهدافا ً وابعادًا عديدة ً ، مثل : البعد السياسي ، البعد القومي ، البعد الإجتماعي ، البعد الديني وعنصر الإيمان ثم المُثل والقيم السامية … هذا بالإضافة ِ إلى المستوى الأدبي البليغ والرَّاقي واللغة الصافية والأسلوب السلس العذب المُمَيَّز والنظرة الفلسفيَّة الشموليَّة والإنسانيَّة ثمّ الصور الشعريَّة واللوحات البلاغيَّة الساحرة والخلابة ، وخاصَّة ً في وصفِ الطبيعةِ ومفاتِنهَا وجبال وسهول بلادنا بشكل ٍ عام .
وسانتقلُ إلى باقةٍ ومقالةٍ أخرى من الكتاب بعنوان : (( ورق ورحيق – صفحة 17 )) وقد أطلق الكاتبُ هذا العنوان على كتابهِ هذا . ويقولُ في مقدمة هذه المقالةِ : ” هذا ورقي ورحيقي فتعالَ متعْ ناظركَ وروحَكَ يا َمنْ تنشدُ سعادَتكَ في غير ِ موضعِها في هذا العالم ِ ولا تجدها .. تعال خُذها ، إنَّ في ورقي ورحيقي تعثرُ على فتاتِكَ الحسناء التي قضيتَ عمرَكَ تبحثُ عنها ” . ويقولُ أيضًا : ( ” فليبتعد من هنا كلُّ أعمى لأنهُ لا يُمكنهُ أن يُبصِرَ جمالَ الوردِ الفتان في يدي وليُغادر الموضعَ كلُّ مزكوم ٍ لأنهُ لا يستطيعُ أن ينشقَ عبقَ الرحيق ِ السلسل في قارورتي .. ” ) . ويتحدَّثُ عن السَّعادةِ في الحياةِ ويقولُ لكلِّ مُعذ َّبٍ في هذهِ الحياةِ : ” ركضتَ وراءَها في المال ِ ..!! حتى ملأتَ منها يديكَ ، أما روحكَ فبقيت فارغة ً إلا َّ من القلق ِ والهواجس … فألقاكَ المالُ من قمَّةِ الجبل ِ الشَّاهق ِ في أعماق ِ الوادي ، بعد أن كسَّرتْ عضامَكَ المتاعبُ ونثرَتْ لحمَكَ الهمومُ .. !! “) .
إنَّ أسلوبَ الكاتب وطريقتهُ في الإسترسال ِ والسَّرد هنا قريبة ً وشبيهة ً من أسلوبِ الملك سليمان الحكيم في سفر الأمثال … وخاصَّة ً عندما يتحدَّثُ عن مفاتن وبهجةِ الدنيا والأمو الماديَّة التي ُتغري الإنسانَ والشَّاب الطائشَ الجاهلَ فيترك الروحانيات ومخافة َ الرَّبِّ ومحبَّته . فيشبِّهُ الدنيا ومباهِجَها وإغراءاتها بالمرأةِ الزانيةِ اللعوبِ التي تغوي عشَّاقهَا وتصطادُهم وتوردُهُم الهلاكَ … الهلاك المادي والجسدي ثمَّ الروحي في النهايةِ والإنفصال الكلي عن الخالق ِ ثمَّ المصير الأبدي المشؤوم وهو نار جهنم والدينونة الأبديَّة . وكاتبنا وأديبنا يوسف ناصر يتحدَّثُ هنا ، بدورهِ ، عن الإنسان ِ النهم والطامع الذي ليسَ لجشعهِ حدود فيستغلُّ ويستعملُ كلَّ الوسائل ويطرقُ كلَّ الأبواب ويدخلُ كلَّ الطرق ِ والمتاهات حتى المشبوهة والرديئة ليُحققَ مطامعَهُ وليصل إلى درجةِ الكمال المادي ، فيسعى ويعمل كلَّ ما في جهدِهِ لأجل ِ جمع الامال ويركض ُ ويهرولُ وراءَ موائد الطعام الشهيَّة والجلسات الماجنة والشرب وغيرها ( اللذة الماديَّة ) ويركض وراءَ جسدِ المرأة ليحقق لذته ومتعتهُ الجسديَّة الشهوانيَّة ولكنها لذة ٌ عابرة ٌ آثمة لا تقيمُ فيهِ … بل يقيمُ مكانها في قلبهِ الندمُ المُميت . فالسعادةُ المنشودة ُ لا تكونُ يومًا في شهوات الجسد ولا تكونُ في امتهان ِ وتدنيس ِ كرامةِ أنبل ِ خلق ِ الله على الأرض .. فجسدُنا هو هيكلُ الروح ِ القدس يجبُ أن نحافظ َعلى نقائِهِ وطهارتِهِ (( حسب ما جاءَ في الإنجيل)) . والإنسان ُ المادي والطبيعي الطامعُ والجشعُ يركض ُ أيضًا وراءَ الشهرةِ والمجد في الأبنيةِ ( الصروح ) الشَّاهقة وتشيييدها ووراءَ الوظائف والمراكز العُليا والصِّيتِ والجاهِ والعقاراتِ … إلخ .. وكم من ملوكٍ وسلاطين بنوا القصورَ ثم زالوا وزالَ ما بنوهُ . ويتحدَّثُ الأديبُ يوسف ناصر هنا على لسان ِ السعادةِ حيث تخاطبُ من يسعى لأجلها من منطلق مادي بحت ومنطلق المتع ِ الجسديَّة والحيوانيَّة فقط ، فتقولُ السعادة ُ : ( ” أيُّها الشَّقيُّ !! إن جئتَ تطلبُ َمنِيَّتكَ ، ( الهلاك والموت ) ، فعد إلى حيث كنتَ ، وإن جئتَ تطلب ُمنيَّتكَ ( غايتكَ ) فهي ذي السعادة التي تطلبُها تقولُ لكَ : إمش ِ وراءَ اللهِ واتبعهُ دائما حيث يريدُ لكَ أن تمضي في هذه الحياة … !! إنهُ المُعينُ الأقوى الذي يقبلكَ ويحرسُكَ ويملأكَ من الروح ِ القدس ويُلبسُكَ بين الناس أبهَى الحُلل ِ ، وتكون لكَ الغلبة ُ في كلَّ شيىءٍ ، ثمَّ يقودُكَ إلى عرشِهِ حيث يسكنُ مع أنبيائهِ ورسلهِ الأطهار والشهداء ِ القدَّيسين !! “)) . بهذه الجمل ِ القليلةِ يُلخصً الكاتبُ فحوَى رسالتهِ في هذهِ المقالةِ واللوحةِ الأدبيَّة ، فالسَّعادةُ الحقيقيَّة ُ هي روحيَّة ٌ وليست جسديَّة ً آنيَّة ً وتكونُ من خلال ِ تقرُّبنا من اللهِ والعيش حسب مشيئتِهِ وفي كنفهِ والمثول لإرادتهِ والقيام بكلِّ عمل ٍ إيجابيٍّ وبَنّاء يُياركُهُ الرَّبُّ ، مثل : محبَّة الناس غير الشروطة والصفح عن ذنوب الآخرين ونبذ الحقدِ والحسد ومساعدة الآخرين ومعاملتهم بالحسنى وبالإبتسام والفرح ثم التواضع وعدم الغرور … فكلُّ من وَضعَ نفسَهُ َرفعَهُ الرَّبُّ والعكس بالعكس لأنَّ اللهَ لا يُحبُّ المتكبَّرين ، والإمتناع عن ذمِّ الناس واغتيابهِم … وأن لا نهتمّ للأشرار وما يجنونهُ ويكتنزونهُ من مال ٍ ومكاسب ماديَّة دنيويَّة وما يعيشونهُ من آثام ٍ وملذاتٍ جسديَّة لأنها كلها مؤقتة وزائلة ٌغدًا ومصيرُ رُوَّادِها الموتُ الجسدي والروحي والعذاب الأبدي … فكنوزُ السَّعادةِ الحقيقيَّةِ تكونُ فقط في رحابِ الله ومع أسرتهِ وأبنائِهِ الطاهرين والعيش في الأيمان والقداسةِ والبرِّ والمحبَّةِ والإبتعاد عن المتع واللذات الجسديَّة المهلكة . في هذه اللوحةِ الأدبيَّةِ يتجلى بوضوح ٍ عنصرُ الإيمان ومخافة ُ الرَّبِّ حيث يدعو الكاتبُ إلى التمَسُّكِ بالقيم ِ والمثل والأخلاق ِ والمبادىءِ والمحبَّةِ المُطلقةِ غير غير المشروطة . وأسلوبُهُ جزلٌ ومُنمَّق ٌ هنا وفي جميع ِ كتاباتهِ .
وسأنتقلُ إلى باقة ٍ ولوحةٍ أخرى من هذا الكتابِ النفيس ِ بعنوان : ( ” سلامٌ على ابنةِ أمِّي وأبي – صفحة 31 – 35 ” ) . إنَّ القارىءَ لأوَّل ِ وهلةٍ ، عندما يقرأُ هذه المقالة ، يظنُّ أنَّ الشاعرَ يعني أختهُ أو فتاة ً ما تتحلى بجميع ِ القيم ِ والمُثل ِ الساميةِ … ولكنَّ أديبَنا يقصدُ بابنةِ أمي وأبي شجرةَ الزيتون المُباركة التي ترمزُ أيضًا إلى البقاءِ والصُّمودِ والتشبُّثِ بالأرض ِ وإلى الخير ِ واليُمن ِ والبركة ِ والنور ِ لأنها شجرة ٌ مُبَاركة ٌ – كما جاءَ في الأسفار ِ المقدَّسةِ – وترمزُ إلى الأرض ِ والوطن ِ ككل . يستهِلُّ الكاتبُ مقالتهُ الأدبيَّة َ بهذهِ الجمل ِ : ( ” يا أجملَ بناتِ الجليل ، وأحلى صبايا فلسطين كلّها .. الساكنة مع لداتها فوق قمم ِ الجبال ِ وفي أعماق ِ السهول ِ تختالُ بأجمل ِ حُلة ٍ وتزهُو في أحسن ِ طيلسان ٍ … صعدَتْ إلى السفوح ِ ، ونزلتْ إلى الأودية ِ … وتزاحمتْ جموعُها في كلِّ مرج ٍ وبستان ٍ وكرم .. ” ) . ويقولُ : ( ” أنتِ لا تدرين يا أختاهُ كم أحِبُّ أن أضمَّكِ إلى صدري وأداعِبَ ذوائبَ شعركِ بيدي !! وليتكِ تعلمينَ أنني ساعةَ أضمكِ بينَ ذراعي أضمُّ بكِ أمي وأبي !! وأشمُّ في جذعِكِ وفروعِكِ عطرَ عطرَ ذلكَ العرق ِ الذي غسَّلناكِ بهِ أيامَ صباكِ الجميل ِ !! لا تتعجَّبي أنني يومَ أجيىْ إليكِ عندَ الصباح ِ ، وأنفِّرُ الأطيارَ التي تنامُ في صدركِ .. أسمعهُ معها أطيارا ً أخرى تنطلق ُ بكلَ أسرابها من بين أوراقكِ وغصونكِ ، إنها لهاثُ المحراثِ ونبراتُ أبي وصوتُ أمي الذي لا يبرحُ سمعي منذ ُ ذلكَ العهد الحبيب .. !! ” ) . ويقولُ : ” ( سخرُوا بكِ أيَّتها الشجرة ُ المُبارة ُ ، إذ دعوكِ مرَّة ً شجرة َ السَّلام ِ المفقود في الأرض ِ … !! وأخالكِ ما زلتِ تذكرينَ يومَ غمَرَكِ الطوفانُ ، وقد حسبوُا منذ ذلك الحين أنَّهُ ارتدَّ إلى الأبدِ عن هذا الكوكبِ …ألا تعسًا للبشريَّةِ العمياءِ التي لا تدري أنَّ الطوفانَ ما زالَ يغمرُ ناسَهَا من قديم ِالحقبِ … إلخ .. ” ) .
إنَّهُ لأسلوبٌ أدبيٌّ شاعريٌّ رائعٌ لا يُضاهيهِ أحدٌ من الأدباءِ المحليِّين ويعيدُ إلى أذهاننا ووجداننا روائعَ جبران خليل جبران التي ُترجمتْ إلى مغظم ِ لغاتِ العالم ِ . والكاتبُ ، من خلال ِ حديثِهِ عن شجرة ِ الزيتون ِ يتطرَّقُ وبشكل ِعفويٍّ وانسيابيٍّ وبرؤيا فلسفيَّةٍ شموليَّةٍ وبشفافيَّةٍ وبرفاهةِ حِسٍّ إلى مواضيع عديدة وقضايا مهمَّة وأمور ومشاكل وعقدٍ ما زالتْ تعاني منها البشريَّة … فشجرةُ الزيتون هي رمزٌ للسلام ِ والمحبَّة منذ عهد طوفان نوح فقد أطلقَ نوحُ الحمامة َ ( كما جاءَ في سفر التكوين ” العهد القديم ” ) ورجعَتْ إليهِ بغصن ِ زيتون ٍ بعدَ انحسار ِ الطوفان … ولكنَّ الطوفانَ الحقيقي لم ينتهِ بعد وما زالَ الناسُ إلى يومنا هذ ا يعيشونَ في طوفان ِ وفي موج ٍ مُتلاطم ٍ من الخطايا والذنوبِ والحقدِ والكراهية ِ … وما زالتِ الحروبُ والتناحراتُ والصراعاتُ مُستمِرَّة ً والجشعُ والطمعُ والخداعُ والقتلُ موجودًا ومُستمرًّا بشكل ٍ متفاقم ٍ بين جميع ِ شعوبِ العالم ِ … ولم ينتهِ التناحرُ العرقي والديني والقومي والنزاعُ الإقتصادي والطبقي .. إلخ .. . ويتطرَّقُ الكاتبُ في مقالتِهِ إلى الأشخاص ِ المُزيَّفين إجتماعيًّا وأدبيًّا وثقافيًّا الذينَ يرتدوُنَ ثيابًا ليست لهم وأكبر من حجمِهم بكثير ويدَّعُون الأدبَ والشعرَ والإبداعَ وهم بعيدون كلَّ البعد عن هذا العالم والفن العلوي الرائع ، فيقولُ مثلا ً : ( ” ما أبلغَ حديث خطابكِ وما أجمل نشيد شعرائِك الذين يقفون كلَّ صباح ٍ على منابركِ ، من كلِّ بلبل صدَّاح وهزار ٍغِرِّيد …! ! !!! أولئك سَوَّتهُم يدُ الله ِ وحدها بالمواهب ليكونوا هم الشعراء والأدباء في طبيعتهم وفطرتهم ويغنوا للجمال والمحبَّة ، ويغمرُوا بأنغامهم أديم َ الأرض !!! والويلُ من الناس ِ للذي يلبسُ أثوابَ البلبل ِ وهو غراب ويضعُ لنفسِهِ أجنحة ً ليطيرَ في الجوِّ وهو حجر … !! ويتقنّعُ بملابس الزهرة الجميلة وهو شوكة ٌ … ويزعمُ أنهُ سلطان ُ الكلمةِ الخالدة ، والكلمة ُ الخالدة ُ تأبى أن تقبَلهُ َوصِيفا ً في قصرها …. ذلك لأنَّ المواهبَ ، تلك التي نراها عبرَ العصور تنزلُ من السماء على المستحقين بهيئةِ حمامة ، هي وحدها التي تصنعُ الشعراء والأدباء في العالم ” ) إنَّ المقصودَ والهدفَ واضحٌ جدًّا فينتقدُ الكاتبُ الأشخاصَ المنتحلين المزيَّفين الذين يدَّعونَ كتابة َ الشعر والأدب وهم بعيدون كليَّا عنه وما أكثرهُم في زمننا هذا وفي بلدنا (( محليًّا )) لأنه أصبحَ كلُّ شخص ” يخربشُ ” بضعة َ كلماتٍ مُبهمة ٍ ولا يعرفُ الفاعلَ من المفعول به والمبتدأ من الخبرِ أصبحَ وبقدرة ِ قادر ٍ شاعرًا مبدعًا وأديبًا جَهبذا ً ووطنيًّا مقدامًا . وكانَ قد قضى سنين طويلة من حياتهِ صامتا ً صمتَ أهل ِ الكهف أو مع الطرف الآخر المعادي لشعبهِ … وفجأة ً يُصبحُ شاعرًا وأديبًا وَوَطنِيًّا مُناضلا ً – والصحف المحليَّة التجاريَّة الصفراء وشبكات الأنترنيت أصبحت منابرَ واسعة ً ومرتعا ً لأولئكِ المسوخ ِ والشراذم المُتطفلين على الإبداع ِ والأدب ِ والفنِّ الحقيقي .. وهذه واحدة ٌ من جناياتِ الإعلام ِ المُعاصر ِ في غيابِ النقد العلمي الموضوعي عن الساحة ِ الأدبيَّة . إنَّ الإبداعَ في شتى المجالات ِ : من شعر ٍ وأدبٍ وموسيقى ورسم ٍ هو موهبة ٌ ربانيَّة من عند الخالق ِ والذي لا توجدُ عندهُ الموهبة ُ الفطريَّة الرَّبانيَّة فمنَ المستحيل ِ أن يكونَ شاعرًا أو أديبًا أو فنانا ً ويُعارضُ المشيئة َ الإلهيَّة َ ولا تستطيعُ أيَّة ُ وسيلة ٍ إعلاميَّة مهما كانت أن تجعلَ منهُ مبدعا ً . ويُشبِّهُ الكاتبُ يوسف ناصر الموهبة َ الرَّبانيَّة َ بروح ِ القدس ِ الذي نزلَ على شكل ِ حمامة ٍ على يسوع ِ المسيح ِ عندما جاءَ ليتعمَّدَ عندَ يوحنا المعمدان على ضفاف ِ نهر ِ الأردن . وإنَّهُ لتشبيه ٌ رائع ٌ ، ويوسف ناصر هو أوَّلُ من جاءَ بهذا التشبيهَ المبتكر . وفي نهاية ِ المقال ِ يُخاطبُ أديبُنا شجرة َ الزيتون ِ ويعدُها أنهُ سيزورُها كلَّ يوم ٍ وأنَّ شجرة َ الزيتون ِ مشتاقة ٌ للأحبَّة ِ الذين رحلوأ ( أبيه وأمه ) وأنَّ الذي سيأتي كلَّ يوم ٍ أبوهُ وأمُّهُ الساكنان فيهِ والعائدان ِ إليها من أعماق ِ الترابِ ( لشجرة ِ الزيتون ) في ثيابهِ . .. فلاحًا يحملُ على كتفيهِ المحراثَ العجوزَ وفاءً للأهل ِ ولترابِ الوطن ِ .
وإلى لوحةٍ أخرى من الكتاب بعنوان : ( ” من منكم بلا خطيَّة – صفحة 42 – 49 ” ) : – يتطرَّقُ الكاتبُ في هذه المقالة ِ إلى موضوع القتل على خلفيَّةِ شرفِ العائلةِ وهو ضدُّ هذه الظاهرة وضدُّ كلّ من يرتكبُ جريمة َ القتل ِ في صددِ هذا الموضوع … لأنهُ لا يوجدُ إنسانٌ بلا خطيَّة.. وبما أنَّ الرجلَ الذي يرتكبُ خطيئة َ الزنا في مجتمعنا الشرقي لا يُعاقبُ إطلاقا ً فلماذا تُعاقبُ الفتاة ُ والمرأة ُالشرقيَّة والعربيَّة عقابًا صارمًا ، وفي الكثير ِ من هذه الحالات تُقتلُ حتى لو كانت بريئة ً واتهِمَت كذبًا وافتراءً … ويرى الكاتبُ ، بدورهِ ، أنَّ مجتمَعنا العربي بشكل ٍ عام يتناسى ويتجاهلُ أمورًا وقضايا كثيرة ً مُهمَّة ً ومصيريًّة ً أهم بكثير من قضيَّةِ الفتاة التي مارَستْ الخطيئة َ الجسديَّة ( ممارسة الجنس خارج إطار الزواج ) … مثل : شرف الجيوش العربيَّة التي هُزمَت هزيمة ً نكرا ، والبلاد التي احتلت والمدن التي دُمَّرَتْ والصَّبايا التي اغتصبت .. وغيره … ويتساءلُ الكاتبُ ويقولُ : ما قيمة ُ خطيئتها ( الفتاة ) أمام خائن ٍ يحملُ وطنهُ على طبق ٍ ويقدِّمُهُ للأعداء وأمامَ َمنْ يقضي وقتهُ مع البغايا في المواخير (( ربما يقصدُ أمراء وشيوخ النفط وأثرياء العرب والزعماء )) … ويقولُ أيضا : ( ” إنَّ الأرواحَ والأجسادَ مُلكٌ لخالقِها وحدهُ في السماء فمَن الذي جعلكَ أيُّها القاتلُ ربًّا في الأرض ِ ُتحيي َوُتمِيتُ ومن الذي أذنَ لكَ أن تقتلَ نفسًا حيَّة ً ولسيت لكَ وصاية على روح ِ حشرة ٍ واحدة ٍ تجولُ في السماءِ … ولستَ أحق في الحياةِ من نملةٍ تدبُّ في الأرض ِ وفراشة ٍ تسيحُ بين الحدائق !!! ” ) .
ويدافعُ الكاتبُ عن المرأة ِ وعن حقوقها الإنسانيَّة وكيانها فهيَ الجنة ُ في منازلنا وإنها أطهرُ ما صنعتهُ يدُ اللهِ على الأرض ِ، وأجملُ زهرة ٍ خلقها بين الخمائل ِ ( كما يراها ) ويستشهدُ بقول ِ السَّيِّدِ المسيح ( كما جاءَ في عنوان المقالة ) وذلك عندما جاءوا إليهِ بامرأة ٍ اتهمَتْ بالزنا فقالَ لجميع ِ الموجودين : ” من منكم بلا خطيَّة فليرجُمها أوَّلا ً بحجر ٍ ” فخرجَ الجميعُ لأنهم كلهم كانوا خاطئين … فقالَ يسوعُ للمرأة ِ عندها : إذهبي ولا تخطئي . وكان هذا قبلَ ألفيِّ سنة فكيفَ فكيفَ بنا اليوم في القرن الواحد والعشرين وما زالَ مجتمعُنا يقتلُ المرأةَ على خلفيَّةِ شرفِ العائلة ِ … إنهُ لأمر ٌ مُؤسفٌ ومُخجلٌ للغايةِ ، وذلك نتيجة ً للجهل ِ والتخلف ِ والإنغلاق ِ والتحجُّر ِ الفكري … إلخ .
وإلى رائعة ٍ أخرى من الكتاب ِ بعنوان : ( لا تبكِ عينك يا أخيَّة – صفحة 73 ) يتحدَّثُ فيها الكاتبُ عن موضوع ِ الأخت التي لا تقلُّ أهميَّتها عن الأم ودورها المقدس ، بل هنالك الكثير من الأخوات ُقمْنَ بدور ِ الأم والأخت معًا تجاهَ إخوتِهنَّ من تربية ٍ وتثقيفٍ ورعاية ٍ وعناية ٍ والكدّ والعمل داخل وخارج البيت وإعالة الأسرة . … والقليلُ القليلُ منَ الكتابِ والأدباءِ العربِ الذينَ كتبوا للاختِ وذكروها في شعرهم وأدبهِم، وعلى العكسِ ِ فالعديدُ من الشاعرات والأديبات العربيَّاتِ تحدَّثنَ وكتبنَ عن إخوتهنَّ بتوسُّع ٍ في إنتتاجهنَّ وإبداعهنَّ الأدبي ( من شعر ونثر ) – مثالٌ على ذلك : الخنساء وفدوى طوقان … إلخ . وهنالك مواضيع مهمَّة ٌ جدًّا وما زالت مُهملة ً عندَ العربِ في الأعمال ِ الأدبيَّةِ وحتى الفنيَّةِ ، مثل : موضوع الصداقة فنادرا ً ما نجدُ شاعرًا أو أديبًا عربيًّا يتحدث عن هذا الموضوع ِ …. ونلاحظ ُ هذا أيضا في الأغاني التي نسمعها فجميعُ الأغاني العربيَّة – القديمة الكلاسيكيَّة والحديثة – تتتحدَّثُ فقط عن الحبِّ والعشق ِ بكلمات تكون تافهة ً أحيانا ولا توجدُ للأسفِ أغنية ٌ عربيَّة ٌ واحدة ٌ تتحدَّث ُ عن الصداقة ِ أو عن الأخوَّة ِ … إنَّ الكاتب َ يوسف ناصر يبدعُ في هذعه اللوحة ِ أيضا وبأسلوبهِ الأدبي الشاعريَّ المُنمَّق دائمًا ، ويرى في كلَّ اختٍ مثاليَّة ٍ : الأم والمُعلمة … ويجبُ على الأخوة ِ أن يحترموا أخواتهم ويعاملوهم أحسن معاملة ٍ ، فيقولُ مثلا ً : ( ” اخواتنا في أيِّ مكان أنتنّ … سلام ٌ عليكنّ من كلَّ زهرة ٍ شذيَّة ٍ ، وتحيَّة لكنَّ من كلِّ فجر ٍ باسم ٍ … ! آنساتنا أنتنَّ في المحن …. وسيَّداتنا في حقكنَّ علينا من الإكرام ِ والتوقير للدائم ِ … وأمانتنا أودعهنَّ آباؤنا وأمهاتنا في قلوبنا …!! نفحُ للوردِ أنتنَّ في أنوفنا … وذوب الثلج تحت ألسنتِنا !! أنتنَّ اللواتي يزغردُ قلبُ الواحدة ُ منكنَّ ابتهاجًا بوفر ِ اخيها في ميادين المجدِ المؤثل ِ ، وصولته في ساحات ِ النصر ِ العظيم ِ ” ) .. . إلخ . لا يوجدُ كلامٌ أبلغ وأعظم و أروع من هذا الكلام . فالأختُ عند الكاتبِ هي الشقيقة ُ والأخيَّة والمحظوظة وهي المرأةُ الفاضلة ُ أينما كانت سواء ً الجارة أو ابنة القرية أو المعلمة أو الطبيبة أو الممرضة أو الكادحة .. إلخ . في هذه المقالة ِ يغوصُ الكاتبُ في لجَّة ِ التعبير ِ عن تجربة ٍ قاسية ٍ يكشفُ فيها بأسلوب ٍ رمزيٍّ عن الجزاءِ السيِّىءِ ونكران ِ الجميل الذي لقيهُ ممَّن أسْدَى لهم المعروفَ بعد خدماتِهِ الجليلة لهم . وأمَّا في لوحتهِ الرائعةِ بعنوان : ( أمس كانَ يوم جنازتي – صفحة 88 – 94 ) فيختصرُ فيها للكاتبُ يوسف ناصر الكوميديا الإلهيَّة َ بجميع ِ أبعادِها وتموُّجاتِها الفلسفيَّة والإنسانيَّة والميتافيزكيَّة ويريدُ أن يُؤكدَ للجميع ِ بأنَّ السعادة َ الحقيقيَّةَ َ هي في القناعة . ويتحدَّثُ على لسان ِ الموتِ مُتهكمًا من الظالمين المتجبِّرين الذينَ كانَ همُّهُم فقط جمعَ المال : ( ” أنظروا كلَّ الذين تجبَّروا وباعُوا نقوسَهم لسلطان ِ الدراهم ِ والدنانير ِ والذين قتلوا وسرقوا كيفَ يشتهونَ ساعة ً واحدة ً ، لا يومًا ليصرخوا بأعلى أصواتهم ، إننا تنادمون ” ) .. إلخ .
وإلى رائعة ٍ ولوحة ٍ أخرى من الكتابِ بعنوان : ” أمَّي خيرُ أمٍّ ولدَتني – صفحة 95 – 100 ” يتحدَّثُ فيها الكاتبُ عن الأمومةِ فيُعدِّدُ دورَ الأمِّ وأهَمِّيَّتها : إجتماعيًّا وأسريًّا وتربويًّا … إلخ وبلغة ٍ عذبة ٍ جذابة ٍ آسرةٍ . فالامهاتُ كما يقولُ الكاتبُ هنَّ رياحينُ الدنيا حيثما كانوا في الأرض ِ ، ويطلبُ من الذينَ توفيت أمَّهاتهم أن يخشعُوا في ذكرى يوم ِ الأم من كلَّ عام ويقفوا دقيقة َ حدادٍ واحدة إجلالا ً وإكبارًا لهنَّ … ومن الذين أمهاتهم ما زلنَ على قيدِ الحياةِ أن يوقروهُنَّ ويُمجِّدوهُنَّ قبلَ الوداع ِ الوشيك … ( حسب تعبيرهِ ) وأنَّ الفراغ َ الرَّحيبَ اللذي يمتدُّ بين الأرض ِ والسماءِ يضيقُ برحبهِ من فضاءٍ أسودٍ يتركهُ غيابُ الأمِّ كأنها يدُ الله ِ الممدودة من أعلى السماء إلى الأرض فيجبُ تقبيلها .. ويستجلي ويستعرضُ الكاتبُ دورَ امِّهِ الكبير والمقدَّس أيامَ طففولتهِ ونشأتهِ … ولم ينسَ طعمَ الخبزِ الذي كانت تعدّهُ للعائلةِ والطعام الشهيّ الذي كانت ُتهيِّئهُ والمُعاملة الرائعة والحنان الذي كانت تعاملهُ له ولإخوته .
وإلى مقالة ٍ أخرى بعنوان : ( ما أعظم أن تكونَ مُعلمًا – صفحة 55 – 65 ) حيثُ يذكرُ فيها الكاتبُ دورَ المعلم وأهميتهُ في تربية ونشأةِ الطلابِ … وهذه المقالة ُ والخريدةُ الأدبيَّة ُ تفوقُ في معانيها ، في نظري ، قصيدة ” أحمد شوقي ” في المعلم … من خلال ِ استعراض دور المعلم ورسالته التربويَّة المقدَّسة … وبلغة ٍ أدبيَّةٍ بلاغيَّةٍ شاعريَّة ٍ ساحرةٍ تفوق ُ أسلوبَ ولغةَ َ الشعر (( وينقصُها الوزن والقافية فقط )) – فيقولُ الكاتبُ : ” ما أعظمَ أن تكونَ معلما ، !! كنْ معلمًا وأنتَ أنبل من في هذا العالم ِ … كن مُربيِّيًا وأنتَ أكرم بني البشر .. حسبكَ أيُّها المعلمُ عُلوًّا في السماءِ فوقَ كلِّ لقبٍ وكفاكَ شرفا ً في الأرض ِ فوق كلِّ شرفٍ ، أنَّ السَّيِّدَ المسيح لهُ المجدُ ناداهُ تلاميذهُ ” يا مُعلمُ ” ، فتشرَّفَ اللقبُ بهِ وتقدَّس ويا بشراكَ يومَ وقفَ على الجبل ِ مُعَلمًا البشريَّة َ أسمَى القيم ِ وأنبلَ المُثل ِ … ويقولُ : ” ولقد شرَّفكم اللهُ ومَجَّدَكم أيُّها المُعلمونَ يومَ اختاركم ووكلكم لأشرفِ خدمة ٍ وأمتع عمل ٍ ، لترعوا أطهرَ خليقتِهِ على الأرض ، أطفالنا … تباركَ عملكم وتقدَّس .. وما أسعدكم وما أعطاكم من قلوبكم ، وما أكرمكم من أرواحكم ، وأيٌّ في الأرض ِ أعظمُ ِممَّن يُعطي الناسَ من فتاتِ قلبهِ ، ويسخو عليهم من حشاشة ِ روحِهِ ، فتيهوا في الكون ِ مرحًا ، أنتم ملوكُ الأرض ِ ، وعلى رؤوسكم تيجانٌ مُرصَّعة ٌ بالمجدِ والسُّؤدُدِ ، أينَ منها تيجانُ الأكاسرة ِ والقياصرة ِ ” ) إلخ .
في هذه اللوحةِ الشاعريَّةِ الرائعةِ عن المعلم فيُشيرُ الكاتبُ ، بدورهِ ، لرسالةِ المعلم ِ المقدَّسةِ وتفانيهِ سنيَّ عمرهِ وزهرة شبابهِ في تربيةِ الأجيال ِ . وعندي كما قلتُ انَّ الكاتبَ يتفوَّقُ على الشاعر ِ أحمد شوقي في قصيدتهِ للمعلم ِ ، وذلكَ في الأبعادِ والمعاني التي يطرقها وفي الصور ِ البلاغيَّةِ التي يرسُمُها حيثُ يستجلي بتوسُّع ٍ دورَ المعلم ويتجلى في هذهِ الرائعة ِ المعاني الفلسفيَّة ُ والقيمُ والمثلُ والحكمُ الرائعة ُ . ومنَ المؤكدِ أنَّ الكاتبَ أيضًا قد تأثرَ بقصيدةِ شوقي ، وخاصَّة ً عندما يتحدَّثُ عن القيم ِ والمُثل ِ وأنَّ اللهَ هوَ خيرُ مُعلم ٍ . وكما أنَّ السَّيِّدَ المسيح هو كلمة ُ اللهِ وفادي البشر ِ قد قد أطلقَ عليهِ التلاميذ ُ يا معلم ُ . ومن منا لا يذكرُ بيتَ شوقي المشهور حيثُ يقولُ : ” سبحانكَ اللهمَّ خير مُعَلم ٍ علمتَ بالقلم ِ القرونَ الأولى ”
وإلى مقالةٍ أخرى وأخيرة أستعرضها من الكتاب بعنوان : (” حتى متى تبقونَ في الظلمةِ – صفحة 113 – 118 ” ) فيتحدَّثُ فيها الكاتبُ عن دور ِ الثقافةِ والكتاب وأهميَّته في تثقيف وتعليم ِ وتنوير ِ المجتمع ِ … وينتقدُ ، بدورهِ ، مجتمعنا ويستغربُ كيفَ أنَّ معظمَهُ يفكرُ فقط في شراءِ واقتناء ِ لذائذِ الطعام ِ والمأكولاتِ الشَّهيَّةِ والملابس ( المأكل والملبس فقط ) ويُهملُ كليًّا الأمورَ الفكريَّة َ والروحيَّة َ والثقافيَّة َ ( الكتب والمطالعة . ولنكتفِ بهذا الكمِّ من الإستعراض لمواضيع الكتاب .
– وأخيرًا وليسَ آخرًا – إنَّ هذا الكتابَ ” ورق ٌ ورحيق ” من أروع وأسمى الكتبِ المحليَّةِ التي صدرت حتى الآن وجديرٌ بهِ … بل يجبُ أن يكونَ في كلَّ مكتبةٍ وفي كلِّ بيتٍ لأهمِّيَّتِهِ وليقيمتِهِ الأدبيَّةِ والبلاغيَّةِ والثقافيَّةِ والتربويَّةِ والإنسانيَّةِ ولمَا يحملهُ من نور ٍ وهَدي ٍ وقيم ٍ ومُثل ٍ ومبادىءَ سامية رائعة مُقدَّسة وتعاليمَ لاهوتيَّة يتجلى فيها الإيمانُ الحقيقي وانعكاسُهُ الإيجابي على جميع ِ النواحي الحياتيَّة ِ … وهوَ واسعٌ ونفيسٌ وهامٌّ جدًّا لجميع ِ الأجيال ِ والمراحل ِ ، وخاصَّة ً لجيل ِ الشبابِ الناشىءِ الذي يحتاجُ إلى إرشادٍ وتوجيهٍ صحيح ٍ وسليم ٍ … وكيفَ سيشقُّ طريقهُ ويخوضُ مُعترَكَ الحياةِ على أحسن ما يكونُ ليصِلَ إلى بَرِّ الأمان ِ … هذا بالإضافةِ إلى المستوى الفني العالي والرَّاقي للكتابِ والأسلوبِ العذبِ الساحر ِ الرومانسي الشاعري والجزل ِالمنمَّق الذي لا نجدُهُ عندَ مُعظم ِ الكتابِ والأدباءِ المحليِّين … بل لا أجدُ أديبًا فيما قرأتُ استعملَ اللغة َ العربيَّة َ هذا الإستعمال الذي دلَّ على سحرها وجمالها وموسيقاها وكانَ ذلكَ بفضل ِ غزارةِ اطلاعِهِ فيها ومعرفتهِ لأسرارها وحُسن ِ درايتِهِ بدقائِقِهَا . فأشكرُ الأستاذ َ يوسف ناصر على إهدائهِ لي نسخة ً من هذا الكتاب ِ ونقولُ لهُ هنيئا ً لكَ على هذا الإصدار الرَّائع ونحنُ في انتظار ِ إصداراتٍ أخرى جديدة لهُ ( شعريَّة ونثريَّة ) في القريب .
بقلم: حاتم جوعيه – المغار