الحكمة عمل ابداعي
تاريخ النشر: 09/07/13 | 3:00يعيش المرء في هذه الحياة بين طموح وامال عذاب تداعبه اطياف السنا والرفعة , فيزهو بنفسه ويخطر بهامه , يرنو الى الافق البعيد نظرة امل وثقة , ويدأب ساعيا وراء متاع الحياة وشهوة النفس الجامحة احيانا , وقد يكبو ويتعثر ,يتألم ويتنكد , واحيانا قد يظفر بمبتغاه ويلذ به وتتوق النفس الى المزبد من الملاذ والمتاع , في فورة القوة والبأس , وفي حضن الغفلة والاسترخاء ,ظنا منه ان الامور تسير على وفق ما يشتهي الانسان منا ,وهو حق شرعي ان يحيا الفرد حياته بكل دقائقها وابعادها , وكل مفرداتها وحيثياتها
ولكن من الحكمة التريث ومن الادب التروي , فقد يتغير اتجاه الرياح وتحمل في ثناياها ما لا يسر , وفي اعطافها ما يغص البال , ويعكر الصفو , ولذا فالصفو اخو الكدر ,والظلم اخو العدل , كما ان الخير اخو الشر ,وقد تمر بالانسان في كل يوم احداث تسترعي انتباهه ,وتحولات تعصف به , لعلاقتها الوثيقة بحياته الخاصة او المجتمع الذي يعيش فيه او بالانسانية التي هو جزء منها , ومن الناس من يتقبل هذه الاحداث وهذه المفردات كلما وقعت , ويستقبلها فرادى , ويحاول ان يربط الاسباب بالنتائج , ولا يرهق ذهنه في جمع المتشابهات
منها وموازنتها بعضعا ببعض ليخرج بفكرة عامة , ومنهم من لا يفلت حدثا من احداث الحياة الا بعد ان يقرنه بامثله ويقارن بين الاسباب كما يقارن بين النتائج , فيصل الى اراء محكمة مستخلصة من تجاربه وتجارب الاخرين من الفكرين قبله , فيصدر هذه الاراء في
كلمات موجزة تنطبق على كثير من الحالات وتشمل عددا من المفردات فتسمى (حكمة )
فالحكمة هي القول العام الذي يصدق على كثير من الحالات الفردية , وهي زبدة التجارب وخلاصتها , يستخلصها الموهوب بمقارنة الاسباب والنتائج وملاحظة التشابه والتباين . يقول المتنبي :
الة العيش صحة وشباب فاذا وليا عن المرء ولى
انها حكمة وصل اليها المتنبي بعد ان لاحظ حالات الكثيرين من الناس , فهذا تمنى لم تغنه ثروته عن الشباب والصحة , فهو دائم الشكوى لا ينال من مباهج الحياة ما يناله الصحيح الجسم الشاب الفتي
واخر له مركزه العالي ما ليس لغيره ولكنه يشكو مرضا ما فهو لا يأكل الا بعض صنوف الطعام غير الشهية ولا يتناول منها الا بقدر , فلم يعوضه مركزه عن الصحة , .وثمة اخر له من البنين ما ليس للاخرين (والبنون زينة الحياة الدنيا) ولكنه قاب قوسين او ادنى من القبر
اذ ليس في بنيه ما يدفع عنه توقع الموت وانطفاء الحياة ونحو ذلك من افراد الناس المفتقرين الى الصحة او الى الشباب , فان ملاحظة جميع هذه الحالات وغيرها مما يمكن افتراضه او تصوره , ان اي شئ مهما عظم امره لا يمكن ان يغني عن الصحة والشباب
وانهما اذا انحسرا عن انسان فقد انتهى . ومن الحكم ما يصدق في جميع العصور وجميع الاحوال والظروف , ومنها ما هو اقل انطباقا , ومنها ما يصدق في عصر دون عصر . لا شك اذن ان ايراد الحكمة في مكانها عمل ابداعي كبير التأثير يثبت الافكار
ويمنح الاذاهان والالباب غذاء دسما مستساغا.