إضاءات رواية “بين اصطياد الحلم” لمروان عبد العال
تاريخ النشر: 04/12/15 | 11:02“.. لكنّ الفارق الواضح أنّ عشق السّياسي يَروحُ باتّجاه طموح المتصوّفين الّذين أفنوا حياتهم وجدا في دفع ضريبة التوحّد مع الله، بينما عبد العال لا يزالُ يناورُ فكرة التوحّد مع ألوهيّةِ قلبِهِ في مسعى الوصول لوطن مسبي.”
منذ متى؟ لا أذكر تماما، وأنا أنتظرُ فُرصة تليقُ بوقفة جماليّة عند ما كتبه؟ لا أسأل لأنّي لا أملك إجابة شافية على سنوات تابعتهُ خلالها سياسيّا وأدبيّا بصمت بالغ. وكنتُ أحتاجُ وقتاً لأنسِجَ ثوبا بلا رتوق يليقُ بصمتٍ طال حول جماليّات ما أنتجهُ مروان عبد العال منذ “سفر أيّوب” عام 02 حتّى “60 مليون زهرة” 015.
ليست رغبة الإكتشاف وحدها قادتني لتسجيلِ ملاحظاتي حول إنتاجهِ الأدبي، ولكن عمق الغبن الّذي لحق به على صعيد الحوارات النّقديّة، والفكريّة عُموما. وقياسا بندرة ما يحملُهُ خطابه من هواجس حول الحلم الفلسطيني في الأدب عموما والفلسطيني خصوصا لم يسجّل نقد بمساحة الإبداع الفكري- حسّي الّذي صدّرهُ تحتَ تسميّة ما اصطلحنا على تسميته بالأدب الملتزم. الأدب الّذي لم يلتزم تجاهه الكثيرون في زمن المُزق الإلكترونيّة، والسّرقات الأدبيّة. زمن احتراف التّجارة بثقافة الجسد. زمن القلّة الوفيّة، لا تزال، لجماليّات النّص فكرا، لحنا، حسّاً، لونا، وضميرا.
لست ممّن يدعمون محافلَ النّدب على تفكّكِ معايير الكتابة الرّوائيّة، ولكنّي ممّن يحفلون بالإنزياحات المدهشة لمفهوم تجلياتها الحداثيّة ضمن أشكال جديدة، في أحايين، مربكة. وبغضّ النّظر عمّا يُعزى من أسباب لغياب المعايير التّقليديّة في الكتابة الرّوائيّة، إلا أنّي بقيتُ على اعتقاد بضرورة اختراق المبنى التّقليدي، وابتكار خطاب جديد يناسب الموضوعة، ولو أدّى لتماهٍ مع نمط شكلاني جديد يطيحُ بسلَفِه.
ولعلّ المفترق الّذي عندهُ توقّفتُ وتساءلتُ حولَ ما يكتبه عبد العال يخصّ تحديدا الموقف| الشّخص| المكان, الّذي يستطيعُ منهُ أن يبدأ تسجيل رواية. فاللّافت حقا أنّه يستطيعُ أن يفعل في كلّ بقعة يقف عليها، والمدهش أنّه لا يحسب حسابا لجماليّات النّص قبل أن يعلن استراحة من ملاحقة الفكرة الّتي يعنيها، أو تعنيه، لا فرق بين الدّلالتين. فهو ملاحق بلا آخر من فكرة تستولي عليه بكامل جوارحه، لا يلوي معها على ما عداها، حتّى يقرّر القلم وقف سباق تسلّحهِ مع السّطر. من يلاحق الآخر؟ ليس السّؤال الّذي يتناسب مع إجابة حين يجري الحديث عن هذا الكاتب بالذّات، لأنّهمّا، المُلاحِق والمُلاحَقِ معا، يسيران إلى تحقيّق غاية واحدة ممثّلة بتحقُّق الحدث.
بقيتُ على اعتقاد، أنّ همّهُ السّياسي كمسؤول كبير في تنظيم سياسي مُقاوِم رافد رئيسي من روافد الفكر الّذي يغذّي إنتاجه الأدبي. ومقتنعة أكثر من ذي قبل أنّ همّيه السياسي والأدبي لصيقان، ومكمّلان الواحد لغريمه. نعم غريمِهِ، وليسَ صديقِهِ لأنّهما كليهما يتنافسان بلا نهاية، في لاوعيهِ، كما واقِعِهِ، على حقّ أحدهما في تصدّر الآخر ضمن مشروعهِ الفكري العام. تنافسٌ يسحبُ المتلقّي لرحى صِراعِهِ، فيختلطُ الأمرُ عليه، ويتركُهُ منقسما بين عالمين، وصوتين، التّقريري والآخر االعاطفي لتوفّرهما على ذات النّبرة المؤثّرة في روح وفكر المتلقّي.
والمثيرُ في استنتاجي هذا أنّ الكاتب ذاتهُ لا ينشغلُ بنوعيّة الصّراع، الّذي يجري في نصّه بينَ مُتنافسيه، لأنّ فكرة الحدث غاية عليا يضمرها النّص، فيكاد ينسى ما عداها. قد ينشغلُ بتهذيب اللّغة، وصياغة الجُمل، لكنّه لا يلتزم بخلافِ ذلك، كأنّه يطربُ للّغطِ المُتصاعِد من حوله. فالتّصاعد البنيوي لديه يعتمدُ أساسا على إيقاعٍ نفسيٍّ مُتفاوِت. يعلو ويهبط وفق درجة استِئناسِهِ بِمُستوى التّصاعُد الدرامي بين الشّخصيّة والحدث. وشخصيّاتِهِ يَحكمُها، غالبا، معلّق كلّي على الحدث، وتمتلك هامش حريّة يُمكّنها من الخروجِ بسلاسة عن سُلطة راويها، وبتلقائيّة تُحسد عليها، فتتوزّع بكلّ اتّجاه، كما يحدث مع جفرا مثلا. يتركها الرّاوي المعلّق تهجس، وتحلم. تنفصل وتضيع، لكنّها تعودُ طَوعاً حينَ يلوّح لها، فتصيرُ جزءا من الأغنية، والدّبكة والعتابا.
إذن كيف يمكن لمسيرة طويلة مع القضيّة الحُلم في حياة روائي، هي فلسطين، أن تمخرَ عباب زمن يكادُ يخلو من النّقد والتّوجيه، والتّشجيعِ خارج محيطه السياسي الّذي يجيدُ السّباحة في أقاليمهِ بفنيّة عالية؟ وأن يتابعَ هذا الغوص الجميل في حلم طويل معبّىءٍ بالذّاكرة والتّداعيات دون كلل؟ كيف أمكن له أن ينتصرَ على موج يتقلّبُ في رأسه، ويفوّر في نصّه، دون أن يثير شهيّة المتمهّنين في فهمه؟ أهي ضريبة يدفعها من يُقاوِمُ واقعه؟ أم أنّهُ ثمن الخروج عن طوق الإجماع السّياسي الرّسمي؟ وهل النّبش في خبايا التّاريخ المدفون تحت أغلال القهر والنّفي والأسر يضع ما نكتبه دون ذرائع مُنتظرة في خانة الحياد والعَزل؟ كلّها أسئلة زاحمت فكري، وأنا أراجع مواقفهُ ونصوصه السّريعة. أكانت سببا في تراجُعِ الرّوائي لصالح السّياسي، أم أنها سيناريوهات مفترضة لحيثيّات مُتخيّلة وحسب؟
أشياء كثيرة تُقالُ حول ذوبان الحدودِ بين هويّتي الرّوائيّ والسّياسي عند مروان عبد العال. شخصيّا، وجدتُ الخاص في مزيج هذه التّركيبة النّوعيّة، الّتي تدمج المرجعيّات السّياسيّة بالكتابة الرّوائيّة، فهما يتبادلان الهموم بمثل ما يتبادلان الفرح، والشّوق. لكنّ الفارق الواضح أنّ عشق السّياسي يَروحُ باتّجاه طموح المتصوّفين الّذين أفنوا حياتهم وجدا في دفع ضريبة التوحّد مع الله، بينما عبد العال لا يزالُ يناورُ فكرة التوحّد مع ألوهيّةِ قلبِهِ في مسعى الوصول لوطن مسبي. فصورة اللّاجىء الّذي لا يشبعُ من التّحديقِ في بئرِ لُجوئِه نسمع رجعَ أنفاسِها في أشكال الحُلُم الّتي يوزّعها على ورِقهِ شأنَ أيّامِه في هذا الورق. والحُلُمُ الّذي أعنيهِ يُتابعُ مع كلّ عملٍ جديد بقعة جديدة من جهات الوطن. وبقدر ما يضيق يتّسعُ خطوات رُجوعٍ لبداياتهِ. فهل الحُلُمُ فِعلُ هزيمة، أم فعلُ انتصار؟
هو المُدهِشُ في الحالة الّتي يعيشُها أبطاله. تمتدُّ أو تُختَصَرُ فيها أحداثُ رواياته. فالكاتبُ شأن رُواتهِ وأبطاله، لا يعرفُ معنى الهزيمة عند أحلك المفترقات التّاريخيّة ضراوة. هي ملحوظة تتجاوز المضموني إلى البنيوي أسجّلها بحقّ نِتاجِه. أعترف أنّي لم أصادف للآن روائيّا يصرّ أن ينتصرَ على قلمه، وبؤس واقعه كعبد العال، فمن لُجَّةِ الضّياع، وتيهِ النّزوح يخرجُ بحكاية الخاتم، شبيه أسطورة خاتم علاء الدّين، ليملك على القارىء حنينهُ. ففي “جفرا” يحدثُ سباق مدجّجٌ بالشّوق لدى كلّ من يقرأها، تنتقل بعدوى الحنين ذاته بهدف العثور على خاتمٍ متخيّل يهديهِ لامرأة تشاطره حلُم ينشطر إلى أحلام. فمهنة الرّاوي مطاردة الأحلام حتّى رمق التحقّق بأيّ شكل، ولو عبر حُلُم يتأجّل. وبرغم أنّ العشيقة صيغت في جُزئها الحُلُمي من ورق، غير أنّ أبعاد المكان ومطر الذّاكرة يحقّقان الشّرط الآدمي في حضور شخصيّة من لحم ودم بغاياتها الكثيرة. ويظلّ الحلُمُ شبقاً مفتوحا على سيناريوهات المتخيّل لدى المُتَلقّي، فلا هوَ يكلُّ، ولا واضعَ هندستِهِ العشوائيّة يخبو وهجَ إصرارهِ على الظّفر بالغنيمة. غنيمة لا تُسجّل، لا توثّق، إنّما تُعاشُ بمساحةِ الأملِ المُعلّقِ بين واقعين، أحدهُما حاضرٌ، والآخر مُفترض.
بقلم: رجاء بكرية