خاطرة أدبية: أعذب الشعر
تاريخ النشر: 05/12/15 | 14:09أعذب الشعر
هل هو أكذبه
أم أصدقه؟
…
في شعرنا العربي تطغى المبالغات الشعرية وهي كثرة كاثرة، ومنها مثلاً ما قاله ابن المعتمر:
مررت على الفرات وليس تجري *** سفائنه لنقصان الفرات
..
فلما ذكرتك فاض دمعي *** فأجــراهن جــريَ العاصفــات
…
ومما قاله المتنبي:
ورد إذا ورد البحيرة شاربًا *** ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضب بدم الفوارس لابس *** في غيله من لبدتيه غيلا
…إلخ والمبالغات في هذه القصيدة لا تخفى.
..
ومن طريف ما قرأت في هذا الباب قول امرئ القيس في وصف فم المرأة:
..
كأن المدام وصوب الغمام *** وريح الخزامى ونشر القُـطُر
يُعـلّ بها بـرد أنيابـها *** إذا غـرّد الطائــر المستحــر
..
يعلق ابن رشيق في العمدة على وصف الشاعر:
..
“وصف فاها بهذه الصفة سحَرًا عند تغير الأفواه بعد النوم، فكيف تظنها أول الليل؟
(العمدة ج2 باب المبالغة، ص 52)
جميل جدًا يا أستاذنا ابن رشيق !
…
الأمثلة كثيرة، ويبدو أن الأذن العربية تستملح الكذب في الشعر وتتقبل المبالغة، وكأنها أجمل.
يقول ابن رشيق أيضًا:
..
“ومن فضائل الشعر أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه – حسن فيه، وحسبك ما حسّن الكذب”
العمدة. ج1، ص 10
***
من جهة أخرى يقول حسان بن ثابت:
..
وإن أشعر بيت أنت قائله *** بيت يـُقـال إذا أنشـدته صدقــا
وإن الشعر لبّ المرء يعرضه *** على المجالس إن كَيسًا وإن حمقا
..
ولكن ذلك لم يحل دون استخدام حسان للمبالغات في شعره، فهذا أمر كان طبيعيًا وما فتئ.
___
من أجمل ما قرأت في الصدق -وأعني به ما هو في الواقع كائن أو محتمل- قول المعتمد بن عباد في منفاه وهوانه في أغمات (المغرب)، وقد جاءته بناته يزرنه:
..
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا = وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ = فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً = في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بُعيد العزّ ممتهنٌ = يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً = عيونهنّ فعاد القلب موتورا
يطأن في الطين والأقدام حافيةً = تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا
من بات بعدك في ملك يُسر به *** فإنما بات بالأحلام مغرورا
إلخ
…
ومن القصائد الجميلة كذلك بصدقها وبوحها قول ابن زريق في درّته الفذة، وهو يناجي حبيبته:
لا تعذليه فإن العذل يولعه *** قد قلـت حـقًا ولكن ليـس يسمـــــــــعه
جاوزت في نصحه حدًا أضرّ به *** من حيث قدرت أن النصح ينفعه
إلخ
ثمة قصائد كثيرة مما فيه صدق ومشاركة وجدانية،
ويبقى السؤال: أي الشعر أعذب؟
أكذبه؟
أصدقه؟
ب. فاروق مواسي