مقالة نقدية حول المشروع الروائي لمروان عبد العال
تاريخ النشر: 12/12/15 | 13:14مروان عبد العال في مشروعه الرّوائي
بين اصطيادِ الحُلُم، وصناعة النّبوءة هاو بلا منازع!
(الجزء 2)
“..وكما سجّل الصبيّ هواجسه على الهواءُ حينذاك، يسجّلها كهلا عبر التّجربة المُرّة راويا، وعلى هواء نزوحٍ قسري من مخيّمه، نهر البارد، عام 06. بحَفرٍ أعمق في مناحي الرّوح، ليجمع الصّوت والصّورة عبر دفق عميقٍ، لكن سريع للكلمة، ذلكَ لأنّ الطّفولة أقدر على كسب المعارك الوجوديّة”
شكل البداية، ومسارات البحث
قلّة ممّن يمتهنون الكتابة، والرّوائيّة تحديدا يتواضعون حين يجري الحديث حول نفوذ أعمالهم. ومن ندرة هذه القلّة يخرجُ عبد العال. يكشف سرّها قبل أن تنضج، لكنّه لا يقاتل، كما يفعل كثر، على موقعه فيها. يصادقها كما يجوز للكاتب أن يفعل، ويوسع لها مكانا في قلبه، يكتب كما يأكل ويشرب ويمشي، كفرض يومي مُلزم. ولأنّها لديه لا تعتمد على مرجعيّات أكاديميّة، فهو يحضنها أكثر ممّا تحضُنُهُ، ويُلاحِقُ سرابها شأنَ واقعها برغبة الإصرارِ على الإستزادة من مذاق التّجربة، تجربته النّوعيّة في شكل البحث. فهو يعتمد كليّا على إيقاعِهِ النّفسي، كما أسلفت، ويضيفُ إليهِ نشوة التّحليق، الّتي للفنّان اللّوني حين يَطبَعُ عن روحِهِ حالة بالفرشاة، ثمّ يسحبُ ضجيجها إلى الورق. هناك يبدأ فعل الطّنين، والقلق. ولو أنّي حاولتُ، الآن، استحضار المرأة في أعمالهِ لجزمتُ أنّهُ وجه بجهات سبع لامرأة واحدة تشبه جفرا، تبهت أو تتألّقُ مع ارتدادِ دوائرِ النّداء. فحين يحتدّ الصّوت نعثر عليها بكامل تجربتها، تاريخها، وأناقة عطرها، وسط تماهيها الكامل مع وجوه شخوصه الممسوحة في معظم لوحاته.
وبرأينا المتواضع، لم يكتمل وجه المرأة في أعماله إلا في عمله الأخير، كما يجوز أن نتحسّسها من مادّة بشريّة، وأعني، روايته قبل الأخيرة، “شيريديل الثّاني”، حيثُ حضرت الرّائحة والعذوبة والجسد، ربّما، لأوّل مرّة، واضحة منذ قرأتُهُ، لكنّها لا تستمرّ طويلا، فغالبا يتنبّهُ السّياسي، مذعورا، لوقوعِهِ في شرك العشق، ويجدُ فيهِ إدانة لمسيرةِ نضاله، فيمسح أثرها بهرب سريع لبقعة لون يضربها تحتَ سكّرة باب المرأة في الغابسيّة، مثلا، كأنّ أبطاله امتدادا علنيّا لحياته الشّخصيّة. وأريدُ أنّ الأمور تكادُ تختلط عليهِ، أحيانا، فيضيعُ بين هويّات، الرّاوي، والكاتب والبطل. يلجُم فكرة تجييش المشاعر لصالح الإرتفاع بوتيرة العاطفة، وينشعل بتكثيف السّرد كي يخلُصَ من مأزق قلبه. ورغم عدم قناعتي بجدوي هذه التقنيّة الأسلوبيّة ولو بذريعة التنصّر لنكبات تاريخه، إلا أنّي أحتفي باختراعاته الغريبة لمساحات حلُم يأتي بها من قنبلة تبعثره تلك، والتّبعثر لديه تقنيّة أسلوبيّة، أو ميزة مُلفتة تعُوفُها بقدر ما تُلاحِقُها. تضيقُ بها بقدر ما تُوسعُ لها من مساحات أفقك.
لكنّي أرى، وعطفا على تضييق عُنُقِ العاطِفة، أنّ الإلتزام للقضيّة الأم، فلسطين، لا يعني أن تناور الهرب كلّما وقع أبطالك في شركِ العشق، فتؤسطرهم ليظلّوا أحياء بعد الغرق! وأعني، قد يأخذك الرّاوي إلى البحر، ويفرض عليك أن تغلق عينيك لمجرّد أنّهُ لم يعد بحرا فلسطينيّ الهوى والهويّة، وأنّ عدوّا سارقا يتحكّم الآن بسمكِهِ وموجه، فتكادُ الغابسيّة لا تحضرُ إلا كنبض في الذّاكرة الجمعيّة للمكان، تحسّها ولا تراها، تحلمُ بها ولا تتذكُرها، مثلا.
وكما يترك الحدث مفتوحاً على أفقِ المتلقّي، يصنع الشّيء ذاته في الوجه النّسائي الّذي يحضر في أعماله، فهو لا يحدّد صورته النّهائيّة شأن لوحتِهِ، بل يتركه لخيالات المتلقّي ذاته، كي يستكمل رسمه في مخيّلته. فهل يمكن اعتبار هذه التقنيّة الأسٍلوبيّة قوّة أم ضعفا في مناحيها البنيويّة؟ شخصيّا لا أميل لملامح النّسوة الباهتة، رغم أنّها تمنحُ فضاء أشدّ اتّساعا من النّقد في النّبشِ والتّأويل. ففي “زهرة الطّين” مثلا، يكادُ المُتلقّي لا يتذكّر من المرأة إلاّ صوتها، بينما تحضرُ في جفرا بنصفين، أحدهما أنثوي ممثّلا بسرّ الخاتم، والآخر حلمي عبر تداعيات الذّاكرة الّتي تسترسل لصور أزمنتها وأمكنتها. وكلّما تقدّمنا في كتاباته تأنسن حضورها، وأصبحت بلون وعطر وجسد.
في “إيفان الفلسطيني ” تشمّ بدنها، ولون أنوثتها في شخص البطل، كأنّها تدبّقُ بهِ كما يفعلُ النّمل الأسود في رجعِ الذّاكرة. فالمرأة لديهِ نقيضُ البؤسِ والظّلمة، واحتياطي القلب من العشقِ والشّهوة، واستراحة المحارب من بؤسِ تبعاتِ النّكبة، والنّزوح، وبحث اللّاجىء الدّائم عن موطىء كرامة ليشيد بيت أمل. وسط المعارك النّفسيّة، والجسديّة الحامية يتجلّى المخيّم بكامل وجَعِه، وغبارِ فَرَحه. هو منجى برغم أنّهُ البقعة السّوداء في تاريخ اللّجوء، يسجّلهُ الفلسطيني بإبرِ منافيهِ في باطنِ كفّهِ، وقدمه. مسيرة، لا تزال، طريّة، نازفة، كأنّها بعضُ تردّداتِ إجلاءٍ حدَثَ أمس. و “ذات أمس” تُصبحُ في مُعجم الرّواية سببا مُباشراً لفعلِ مُقاومة في المشروع الرّوائي لعبد العال. فهو بمثلِ ما يصرّ على بقاءِ المُخيّم يصرّ على العودةِ إلى قريتهِ المهجّرة.
وصحيح أنّ “حاسّة هاربة” لا تمتلك ما لسلَفِها من أناةٍ وفنيّةٍ، إذما قورِنت ب “زهرة الطّين”، “جفرا”، وإيفان الفلسطيني، لكنّ أهميّتها تأتي من فكرة توثيقها لشواهد حيّة من واقع حال التّهجير الثّاني لمخيّم البارد، وغبنِ التّاريخ في استرجاعِ سيناريو النّزوح الأوّل، لكن بزجاجة ملوّنة، أما قلتُ أنّ مشروعهُ الإنتصار دائما عبر حقول أمل؟ فبحقّ هذا العمل يجوز أن يقالَ عملٌ توثيقيٌّ سريع يختلط فيه كلّ شيء، والكتابة السّريعة إحدى مآخِذي على مشروعه إجمالا. هو يستعجل في خوضِ غمارِ العملِ، وتكاد تضيّعُ اللّهفة عليهِ مُتعةَ الخوضِ في التّفاصيل الصّغيرة الّتي تصنع فنيّة الحدث. فتسريعُ النّهاية، ليس لصالحهِ غالبا. تقنيّة القفز المشهدي الّتي تداهم مخيّلتنا وسط انثيال حاد ساخن للذّاكرة، تعتبر سياسة شخصانيّة لعبد العال في تسريع وتيرة الحدث بهدف تحديد نهاياته، لقد بقيتُ على اعتقادٍ راسخ أنّ التأنّي في تسجيلِ وقائع الحدث سيضمنُ تسييسا مضمونيّا لأبعادِهِ الفنيّة.
“حاسّة هاربة” أنفاسُ “صبيٍّ يكتبُ على الهواء”!
لسبب ما، لا أحدّدهُ تماما رأيتُ الصبيّ الّذي يكتب على الهواء حاضرا أمامي بكامل براءتهِ وخجله الفطري في مدرسة الأنوروا، خلال قراءتي ل “حاسّة هاربة.” قصّة مروان عبد العال الأولى الّتي صوّرت فتيلِ سراج الكاز، والدّخان الأسود، وخوف الطّفل من هربِ سقف البيتِ مع ريحِ الشّتاء واحتراق الورق بمخيّلة يقصف الرّوح وجعها. فقصّة “صبيٌ يكتبُ في الهواء” بنظري، تسجيلٌ متقدّم لسرّ الصبيّ الّذي شبّ وتكهّل، وظلّ مُطاردا بصورة ذلك المعلّم القامع، الّذي صفعهُ بسبب لوحة أبدعها على قاعِ كرسيّ متهالك، وصمت. الصبيّ الكهل يسجّل على ذات الهواء، وعبر “حاسّة هاربة” المعلّم الجديد ممثَّلا بخلايا الإرهاب الّتي تقتلعهُ مجدّدا، ويتصدّى لها عبر المقاومة الجسديّة والكلاميّة. ففيهِ يسجّل “الطّفل الكبير” انتصارهُ على كلّ أشكال القمع الّتي وقفت ولا زالت، أمام أحلامِ لاجىء، لكن بثورةٍ عارمة. وكما سجّل الصبيّ هواجسه على الهواءُ حينذاك، يسجّلها كهلا عبر التّجربة المُرّة راويا، وعلى هواء نزوحٍ قسري من مخيّمه، نهر البارد، عام 07 بحَفرٍ أعمق في مناحي الرّوح، ليجمع الصّوت والصّورة عبر دفق عميقٍ، لكن سريع للكلمة، ذلكَ لأنّ الطّفولة أقدر على كسب المعارك الوجوديّة بقدر أقلّ من الجهدِ لمجرّدِ أنّها شاهدٌ على كسرِ خزفِ واقع تستطيعُ أن تصمت على ضيمِهِ وتحزن، ما لا تقبلهُ الكُهولة مُجرِّبةً. وأنت تخرجُ من عملهِ هذا تحمل لوحة لجيرنيكا مُتخيّلة بريشة لاجىء يصرّ أن يراها العالم بصفعة وبدون صفعة محمولة على أكتاف الملايين الّتي نزحت تماما، وانقلبت نسورا تجرح. فصوتُ المعلّم موبّخا، يتردّد لا يزال:( “هل هذا المقعدُ ملك أبيك كي تعبثُ به كما تشاء؟” يصمتُ الطّفل، وتدوّي الصّفعة كاوية على وجهه).
تخيّلوا أنتم كم سيمرّ من وقت ليبدأ ذلك الصبيّ، الّذي تحشُدُهُ ذاكرة زَخِمة بتفاصيل الوجعِ والهزيمة، بالتّحدّي ليحيل مشروع لوحتهِ البعيدة، “الجيرنكا” إلى عمل روائي ملحمي مفصّلا على عملهِ الرّوائي قبل الأخير، “شيرديل الثّاني”.
(روائيّة وتشكيليّة فلسطينيّة، ناقدة في مجال الفنّ المرئي)
رؤية نقديّة: رجاء بكريّة