عمي ياسين وكرم حسن
تاريخ النشر: 13/12/15 | 22:03في طفولتنا الجميلة، حظينا بلحظات سعادة لا تعد ولا تحصى، كنا نصنع سعادتنا بأيدينا، حسب المساحة المتوفرة لنا، وقلة من الكبار، ساهموا في إضفاء مثل هذه اللحظات، من بين هؤلاء، كان عمي ياسين.
في سنوات الستين عندما كنت في سني طفولتي الأولى، رافقته في مشواري، وما زلت احفظ لعمي ياسين بزاوية دافئة ملؤها الحب والاحترام حتى اليوم، حيث احترمنا كأطفال صغار ووهبنا تقدير لم نلاقيه من غيره من الكبار. أخذنا معه في سيارته التندر “الويلز” الزرقاء- السيارة الوحيدة في عائلتنا- وسافر بنا في ازقة القرية وتحدث إلينا بلسان طيب وقلب رحوم. نشأنا على حبه صغارًا ورحب بنا في بيته كمراهقين، وبعد أن افترقت دوربنا وتشتتنا في بقاع الحياة، بقي لعمي ياسين دفئ معشش في روحنا..
عمل عمي ياسين 30 سنة عند ابراهيم مطانس في مصانع الشايش، حُرم من انهاء تعليمه بسبب الفقر، ولكنه كان مهني وفنان في صنعته وشعاره في الحياة: “اقصد الى قمم الاشياء تُدركها.. تجري الرياحُ كما ارادت لها السفنُ”.
*تطوع لبناء قريته والقرى المجاورة*
وفي حديث مع ابن عمه احمد علي طه قال: انضم ياسين الى الجبهة الدمقراطية في دير الأسد عام 1967، هو وجميع أخوته. كان عضوًا في المجلس المحلي في سنوات 76- 78 وهو العضو الخامس في المجلس المحلي عن الجبهة الدمقراطية، شارك في المظاهرات والاضرابات على صعيد القرية وعلى صعيد المجتمع الفلسطيني برمته، عرف عنه بأنه مثابر في كل جلسات المجلس التي عقدت في أيامه، لم يتوان عن حضور أي جلسة.
انسان بسيط، خلوق مثابر، حتى في نقاشه خلال جلسات الجبهة كان نقاشه هادئا ومثمرًا، ورشح لرئاسة المجلس المحلي ولم يحظ بتأييد، شارك الجميع في افراحهم واطراحهم، وشارك في جاهات الصلح، كان انسان مستقيم وشريف، وليس صاحب سطوة.
ياسين محمد القاسم واخوته اشتهروا بحرفتهم في شغل الحجر الطلياني وقد تطوعوا وبنوا الجدران في أيام العمل التطوعي في قرية دير الاسد والقرى المجاورة، دون اي مقابل وابدعا في هذا المضمار، وقد استمر عمّي في العطاء بهذا المجال حتى اصيب بأوجاع شديدة في ظهره.
تربطنا بياسين قرابة عائلية من الدرجة الاولى، ولكنه كان جاري قبل أن يكون قريبي، وكان خير الجار لكل الجيران، لم يؤذ نملة في حياته، إنسان بكل ما في الكلمة من معنى، عرفناه متواضعًا وكريمًا.
برز عمّي في نضاله حول أرضه وأرض اخواته وهي منطقة تسمى “كرم حسن”، عبارة عن (35) دونم وهناك عشرة دونمات تحولت بعد المصادرة إلى أحراش تحيط بكرم حسن، وبعد أن صادرتها السلطات الإسرائيلية، بني عليها مزرعة كلاب، والكلب الذي يمرض يطلق سراحه من البوابة لينقض على جيرانه العرب. ربى اليهود في الكرم خلايا النحل، واليوم زُرع الكرم من قبل الكيبوتس بالأشجار المثمرة، وعلى أراض “كرم حسن” واراض اخرى مصادرة أقيم كيبوتس “نحال كيشور”.
خاض ابناء ابو حسين، قاسم الحسين والد المرحوم ياسين، المعارك داخل اروقة المحاكم لاسترجاع الكرم،ولم ينجحوا بذلك، طُلب منهم مع قبل دائرة اراضي اسرائيل تبديل ارضهم بارض داخل قرية دير الاسد ولكن العائلة رفضت التنازل عن الكرم.
*الخيريين كثر لكنه الأفضل*
تقول سعيدة طه زوجة ياسين: تزوجنا عام 1967 كنت في الثامنة عشر عاما وتربطني به صلة القرابة، اخترته لأنه انسان جيد ومثله الكثير، ولكن لا يوجد أفضل منه وما زلت اومن بما اقوله 48 عاما من الزواج.. وفّر لي كل شيء، وأخذ على عاتقه كل مسؤولية البيت، فزوجي محب للبيت ومحب لكل الناس.
كان زوجي من اوائل السائقين في حارتنا، فكان يقود تندر الويلز، الذي يعود ملكيته لمصنع الشايش حيث كان يعمل لدى لعائلة بولص من قرية البعنة المجاورة. خدم التندر أهل الحارة في قرية دير الأسد، فكان يقل المرضى والنساء الحوامل للإنجاب في المستشفى، العديد من النساء أنجبن اطفالهم داخل التندر، وقام بإحضار الموتى من المستشفى إلى القرية وغيرها من الخدمات الانسانية لأهل الحارة والعائلة. ركّب بتندره الاطفال الصغار وأخذهم في نزهات. لم يُزعل أي طفل كان. احب الاولاد جميعا وكأنهم اولاده.
تضيف سعيدة: منذ ان تزوجت وانا افلح الارض مع زوجي وعائلته حتى تمت مصادرتها ومنعونا من الدخول الى الكرم، أخذ اليهود بقطف اشجار الزيتون وطلبوا من زوجي ياسين ان يذهب لأخذ الغلة، لمدة عامين قطف اليهود الزيتون وبعدها امتنعوا عن اعطاءنا ثمار ارضنا. كان العمل في الارض بجانب زوجي له نكهة جميلة جدًا، فأقمنا معا طقوس نفرح بها في موسم الزيتون والخروب وزراعة القمح وغيرها، فأحببنا امنا الارض وتجذرنا مع جذورها.
منذ مصادرة الارض عام 1976، سافرنا إلى تركيا واحضرنا الاوراق الثبوتية التي تؤكد ملكيتنا للأرض، وحتى يومنا هذا ونحن ندفع الأموال للمحامي الذي يترافع عن قضيتنا، علّنا نسترجع كرم حسن.. الكثير من اهالي دير الاسد بادلوا أرضهم بأرض أخرى في منطقة الماحوز، او بدل ارض غائبين او اي قطعة ارض اخرى ولكن زوجي ياسين رفض المبادلة ورفض البيع، بقي متأملا بان الارض ستعود الى اصحابها ما داموا يطالبون بها.. بقي لنا اليوم، ما يقارب ال 30 دونم ارض، بنينا بيوتنا وبيوت اولادنا، وبعض من بيوتنا بلا رخص عمار لأن السلطات لا تسمح لنا ببناء بيوت في ارضنا. ربى اولاده على حب الارض والوطن، قضى (20) سنة في خدمة بلده واهله.
منذ سنوات طويلة اصيب ياسين بداء السكري وحافظ على صحته كما يجب، وقبل عام هاجمه مرض عضال ففارق الحياة وهو معي بين ابناءه على سريره، مات على “قلة مهله”، صلى لربه وودّع الحياة، فدعناه بأقحوان الجبل وزغاريد الحرائر.. رحلت وتركت وراءك وجعا مرًّا.
*التحقيق مع أهالي دير الاسد بتهمة تدريب عسكري*
يقول ابن عمه احمد محمد طه الاسدي: في عام 1952 اسست في قرية دير الاسد “الرابطة” وزج بمعظم رجال قرية دير الاسد في السجن ومن ضمنهم الأخ الأكبر لياسين المرحوم حسين لمدة ستة اشهر متتالية، وقد اقيم كشاف مع طبول وزمامير في القرية واذكر ان الصحف تحدثت عن نشاطنا وعنوان الجريدة كان: استمرار التحقيق مع عرب دير الاسد المتهمين بقيام تدريب عسكري.
تربيت في بيت والده محمد القاسم، وتربطني قرابة ونسب من الدرجة الاولى بياسين، ورفقته كانت رائعة، كان اصغر منا سنا وصداقتي كانت مع اخيه المرحوم يوسف، احب الارض كما احب اصدقائه واقاربه وخصنا نحن بمحبة خاصة لأنه تزوج اختي سعيدة واحب اقاربها كما اخلص على حبها ما يقارب الخمسون عاما.
كان يقطف التين والصبر ويحضره بيديه لزوجته وابناءه ودللهم حتى رمقه الاخير. عاش ومات ياسين انسان اشتراكي، مدافعا عنيدا، وطني ونضاله من اجل استرداد ارضهم، اثبت ما آمن به دائما: “إنَّ الذي يرتجي شيئا بهمته يلقاهُ.. لو حاربته الانس والجِنُ”.
وقد أثبت في كلّ الوقت أنّه الرجل الموقف، ومداخلاته الوازنة يذكرها كل من رافقه واستمع وتمتع بحديثه. استشعرنا مرارة الفقد وجلل المصاب ونحن نودعه.
*ما زال كرم حسن في أروقة المحاكم*
يقول ابن شقيقه محمد حسين قاسم: ارضنا التي صودرت ومن ضمنها كرم حسن عام 77-78 بنوا عليها كيبوتس “ناحال كيشور” ووضعوا بها مستوطنين مع حراسة.
عام 1979 جاء امر مصادرة كرم حسن، ملك جدي وابنائه و(220) دونم في منطقة دير الاسد، صودرت جميعها فبقي منها (62) دونم، اخذوا منها (48) دونم وجعلوها منطقة عمومية. تمسك حياة جدي ابو حسين محمد القاسم وعمي ياسين واخوانه جميعا بالأرض، توفى والدي حسين عام 1981 وكانت هناك محكمة بموضوع الارض ضد الدولة ونحن طلبنا من المحكمة اذا اردت ان تبدل ارضنا فليعطونا ارض ملك للدولة وليست ارض مصادرة وهذا لا يمكن ان يحدث لأن الدولة دولة احتلال ولا يوجد لديها أراض وجميع ما تملكه اراضي مصادرة من العرب.
ما زال ملف ارضنا مفتوحا في اروقة القضاء ضد مصادرة اراضينا والمحامي الذي يترافع عنا امام محكمة العدل العليا، هو نفسه كان القاضي الذي حكم بمصادرة اراضينا حينها، وقد وعد بإرجاع الارض لأننا ظُلمنا.
لم يعترف عمي ياسين بما تقوم به دولة اسرائيل، فهذه الاراضي من حقنا وحق اولادنا، اليوم بقي لنا في كرم حسن فقط (6) دونمات مسجلة بالطابو..
رحل عمي ياسين تاركاً وراءه وجعاً مرّاً.. لك الرحمة الواسعة أبا محمد وستبقى فعالك الوارفة سراجاً وهّاجاً يبدّد العتمة وينير دربنا.
ميسون أسدي