فيفري عنوان الندم العظيم وكل السيناريوهات غير مُمكنة
تاريخ النشر: 20/07/13 | 12:22
عندما نكون أمام تعدّد الاحتمالات والسيناريوهات خلال أزمة سياسيّة، فهذا مجال للتفكّر والتكهّن وتصنيف المعطيات وترتيب الخطاب والمواقف والصور، ووضع فرضيات مستقبل المشهد والمصير.
لكنّنا في تونس اليوم أمام حالة فريدة من الإبهام حيث نقف أمام كمّ هائل من الأخبار والنصوص والخطابات واللقاءات التي لا تبني تصوّرا ممكنا للقادم.
والأخطر أنّ كلّ طرف محدِّد في العمليّة السياسيّة يتمسّك بموقف وليس له من أسباب قدرته عليه أمر حاسم. فليس لأهل الحُكم ما يجعلهم يتمسّكون بمقولة الأغلبيّة والشرعيّة وهم يَقسونَ على الواقع ببروباغندا صراخِ أنّهم الحلّ الأوحد وبيدهم الخلاص وبعدهم الفوضى، بل الجحيم.
كما أنّه ليس للمناهضين ما يؤهّلُ لرفع سقف مواقفهم فتكون موغلة في الثوريّة إلى حدّ الحسم برفض مؤسسات الحكم القائمة.
***
لم يستعدّ أيّ طرف، ولم يُعطَى حضورا شعبيّا يؤهّل للمواقف الجديّة ورفع السّقف، فكان تجسير الهُوّة حتّى ضعفت امكانات المشترك من أجل وضع خطّة انقاذ وطنيّ تٌبنى على الحوار وعلى التوافقات.
وكان من الممكن أن يُبقى الاتحاد العام التونسي للشغل لتونس حلقة الوصل لكنّ قيادته تحرّكت بحُمّى ميدان التحرير وأفقدتنا مراكمة لقاءات الحوار الوطني. ألم يجهض الاتحاد مبادرته ببيان 3 جويليّة 2013؟
وربما نتفهّم تعجيل أحزاب من الاتحاد من أجل تونس وعلى رأسها "نداء تونس"، ونتقبّل ونفهم راديكاليّة الجبهة الشعبيّة التي تخسر الفرص الحقيقيّة لتقع في فخّ المعادلة المصريّة التي ليس من السهل اسقاطها على واقع حالنا وتوازناتنا السياسيّة. هذا قبل أن يكتمل مشهدها، وقد لا تُفرز نتائجها الحقيقيّة قريبا.
وقد نقدّر أنّها سياسة الذهاب إلى الأقصى في البيانات المطالبة بحلّ المجلس الوطني التأسيسي وتشكيل حكومة تسيّر الدولة وتعدّ الانتخابات، بعد أن وصل خطاب "الحُكم" إلى كلّ أقاصي رغبةِ التفرّد والإقصاء، وبعد كلّ تجاوزات حدود الوفاق والمشترك.
***
في تونس يحتاج الكلّ إلى الكلّ، ونحتاج قبل هذا فرز الحكماء من كل جانب، وفرز الثابتين من المهرولين، والمتماسكين من الراقصين على كل نغم سياسي.
الأحزاب، والكثير من القوى المدنيّة والاجتماعيّة لم تترك لنا الوقت الكافي للقراءة والاستفادة والتبصّر وأخذتنا بالسرعة الساذجة بإصدار المواقف وإعلان تجييش لا يقدر عليه أيّ طرف.
وقبل الحدث المصريّ الأخير كان لنا ما يوجع فهمنا، ونحن نعيد ترتيب حضور الجنرال رشيد عمار التلفزي وإعلانه الاستقالة، وهو يعلن في الأصل أنّه غير مستعدّ لتقديم أيّ حقيقة وأنّه باعنا كلاما لا يصلح إلاّ لمزيد تعقيد الأمور وطرح الأسئلة.
وكنّا لازلنا في تكاثر سؤال عن قتلة شكري بلعيد وعن خبر الشعانبي، وريبة أهل باردو من نوّاب بأغلبيّة هشّة – لا تشكيكا في نتائج الانتخابات، بل لأنّه إلى حدّ الآن لم تُحسم أغلبيّة بيّنة، فلا غالب ولا أغلبيّة تُقرأ عدى حركة الأسهم على جداول سبر الآراء.
***
لم يقدّم أيّ طرف خطابا للتونسيات والتونسيين، الكلّ يخاطب أنصاره ويلوّح بنداء للماسكين بالمعادلات الاقليميّة والدوليّة.
لم يتمكّن أي طرف من مخاطبة الشّعب باعتباره الأغلبيّة التي نعرف، نحن الميّتون غمّا حيث نراقب، وحيث نُحصي الحيارى والخائفين من القادم والغاضبين والمتردّدين في الموقف والمكذبين الجميع.
ربما تصدر أكثر المواقف حكمة على طاولات منسيّة في المقاهي وفي البيوت والأسواق وفي الجدل المواطنيّ المتذمّر بلا حول ولا قوّة، ولا نتائج.
***
قد تكون الأمور أكثر وضوحا في مكاتب قرار خلف البحار وخارج الضغط، وفي جدول المصالح الكبرى حيث توضع الأجندات المعدّة للإملاء والتي تجد بيننا دائما أعوان تنفيذها.
بهذا الاعتبار ثمّة من يحرص على تقديم صورةِ من يصلح للرهان، لا لشعبه بل لوصيٍّ.
وتونس ليست مُحدّدة في المعادلة الجيواستراتيجيّة لكنّها في قلب الحسابات، خاصّة وأنّ المعادلات الدوليّة ترتكز اليوم أكثر على خرائط مرتبطة جغرافيا وسياسيا. ولنقدّم هنا المثال الأبسط لحقيقة بيّنة: ينعكس الحسم في سوريا ومصر بشكل مباشر على قصر قرطاج وقبّة باردو وبيوت سياسيّة في "مونبليزير" وما والاها وما عارضها.
وللمحلّل وللمتابع في هذا الباب أن يقدّر الأمور فقط حيث نكاد نجهل حقيقة الأصوات في قنوات التواصل شمالا وغربا.
***
نعتقد أنّ موعد 23 أكتوبر 2013، مرورا بكلّ مواعيد النداء لزحف الأشباح الجماهريّة قبله (من الحكم ورافضيه) سيكون محدّدا لأنّه سيكون جديّا لكلّ الأطراف لتثبيت حقيقة قوّتها وقدرتها على الحضور.
ولكنّه سيكون موعدا لمزيد ضعف الدولة وزيادة منسوب اليأس الشعبي إذا لم تعلو الحكمة بالتوصّل إلى توافق حول خارطة طريق وطنيّة واضحة يحسم من خلالها أمر الدستور والقانون الانتخابي وموعد الانتخابات في إطار تعاقد على حمايّة المصلحة العليا والتصدّي للفتن والقبول المبدئيّ بالخيار الديمقراطي من أجل المُرور إلى المرحلة الثالثة من الانتقال.
وليس لي أن أعلن أنّني أكثر تفاؤلا ممّا أفكّر فيه فعلا لأنّ الماسكين بأمر المستقبل السياسي لتونس يدقون طبول نصر لن يكون لأحد.
ومن المعقول أن يُحاسب أهل الحكم قبل غيرهم، لأنّهم مطالبون بإثبات جدارة شرعيّة –نتفهّم ظرفها- وبحسن تسيير العمليّة السياسيّة وإدارة الدولة وطمأنة المواطنين.
ولأنّهم فوّتوا فرصا، وقد كان بالإمكان احداث توافقات حيث كان هدفهم تجاوز الفترات الصعبة فقط لا استثمارها من أجل الانقاذ الوطني. وسيبقى فيفري 2013 عنوان النّدم العظيم.