آمال عوّاد رضوان تُحاورُ الشاعرَ سعود الأسدي
تاريخ النشر: 21/07/13 | 23:33على أنغام الموسيقى الكلاسيكيّةِ دَخلتُ إليهِ، ووجدتُهُ أمامَ شاشةِ الكمبيوتر، غارقًا في كتابةِ أبياتٍ تتحدّث عن مَسرحيّةِ فاوست، فكانَ سؤالي الأوّل: مَن هوَ فاوست؟ وما سببُ ومدى اهتمامِكَ بهِ؟
فاوست هو شخصيّةٌ تاريخيّةٌ وحقيقيّةٌ في الحكايةِ الألمانيّةِ الشعبيّةِ الّتي تتحدّثُ عن السّاحر والكيميائيّ الألمانيّ يوهان جورج فاوست، والّذي أبرمَ عقدًا معَ الشّيطان، يَقضي بأن يَقومَ الشيطان بخدمتِهِ طوالَ حياتِهِ، ليَستولِيَ بالمقابل على روحِهِ في حياتِهِ، لكن الاستيلاءَ على روحِهِ بشرطِ بُلوغِهِ قمّة السّعادة.
وقد كتبَت هذهِ القصّةَ بلغةٍ جميلةٍ ممزوجةٍ بخيالٍ شعبيٍّ كبيرٍ، وقد صارَ لفاوست أثرٌ كبيرٌ لأعمالٍ روائيّةٍ عديدةٍ كبيرةٍ، بسبب غِنى موضوعِهِ مِن جميعِ الوجوهِ، ولثقافتِهِ العاليةِ وهو دكتور في الفلسفة ومواضيع أخرى، وقد بدأ هذه الأعمالَ الشّاعرُ الإنجليزيُّ كريستوفر مارلو، ثمّ الشّاعرُ الألمانيُّ ليسنغ، وصارتْ أساسًا لأعمالٍ أدبيّةٍ عالميّةٍ عديدة، أشهرُها مسرحيّةُ فاوست للشّاعرِ الألمانيِّ غوته، الّتي كتبَها بجُزءَيْنِ بينَ الأعوامِ (1806-1832).
ركّزَ في الجزءِ الأوّلِ على روح د. فاوست الّتي باعَها للشّيطانِ مفستوفيلس، وركّزَ في الجزءِ الثّاني على مُعالجةِ ظواهر اجتماعيّةٍ، وأمورٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ مُعقّدةٍ، لذا تُعتبرُ مِن أهمِّ الأعمالِ الّتي اختلطَ بها الأدبُ بالفلسفةِ، إذ إنّ هذهِ الشّخصيّةَ مُتعدّدةُ الجوانبِ، والمُغريةُ جدًّا للرّوايةِ كانتْ أيضًا مُغريةً لِتُقدَّمَ على دُمى العرائسِ، فتنتقلُ مِن بلدٍ إلى بلدٍ لأناسٍ مُحترفين، لتقديمِ هذهِ الشّخصيّةِ، وآخرُ ما نتجَ مِن هذهِ الشّخصيّةِ عمَلٌ أوبراتيٌّ كبيرٌ، للموسيقارِ الفرنسيِّ شارل جونو (1818-1893) تحت عنوان فاوست.
*أرى الشاعرَ الأسديّ مُنهمِكًا في تذويت ووضع روايةِ فاوست الأوبراتيّة، في عملٍ مَسرحيٍّ، وبلغةٍ عربيّةٍ شِعريّةٍ، فما الّذي يُميّزها في صياغاتِها الجديدةِ، عن أعمالِكَ في أوبرا عايدة وأوبرا لابوهيم؟
إنّها إعادةُ صياغةٍ وبناءٍ، وإضفاءَ رُؤيتي أيضًا على هذه الشّخصيّةِ، ضمنَ الإطارِ المَرسومِ لها كشخصيّةٍ مسرحيّةٍ أو أوبّراتيّةٍ، وأنا أُدخِلُ رُؤايَ كما يَحلو لي، وكما توحي بهِ لغتي العربيّةُ، وقد التزمتُ في هذا العملِ الأخير ِنهْجَ أبي العلاء المعرّيَ، في لزومِ ما لا يَلزمُ، أي أنّني جعلتُ القافيةَ الأخيرة والّتي قبلَها متشابهَتيْنِ، هذا كلُّهُ كتبتُهُ شِعرًا مُقفّى بقافيتيْنِ، منهُ ما كانَ يَطولُ، ومنهُ ما كانَ يَقصُرُ.
يقولُ وهو يَضحكُ، إنّ الّذي يَحدوني إلى ذلكَ، قولُ الصّوفيِّ الكبيرِ شهاب الدّين السهروردي: (فتَشبَّهوا إنْ لمْ تَكونوا مِثلَهُم/ إنّ التّشَبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ)، أو لقولِ أبي فِراس الحمَداني: (وللنّاسِ فيما يَعشقونَ مَذاهبُ). وأنا هذا ما أعشقُهُ وما أراهُ، ولا أُلزِمُ بهذهِ الرؤيةِ أحدًا، ولا أُلزمُ قارئًا للتقيُّدِ بما أقولُ، بل هي مُحاولةُ إعادةِ بناءِ أوبرا جميلةٍ أحببْتُها وسمِعتُها عشراتِ المَرّاتِ.
تقولُ في مطلع مَسرحيّةِ فاوست: "والآدميُّ تُرابٌ لا تُهذّبُهُ نارٌ"، كيفَ وصلتَ لهذا المعنى ولهذهِ الكلماتِ؟
وصلتُ لهذهِ الكلماتِ ولهذا المَعنى دون شكٍّ، مُتأثّرًا بالمِعرّيّ إذ يقولُ: (لم يَقدرِ اللهُ تهذيبًا لِعالَمِنا/ فلا تَرومَنَّ للأقوامِ تهذيبا/ ولا تُصدّقْ بما البرهانُ يُبطلُهُ/ فتَستفيدُ مِنَ التّصديقِ تكذيبا)، لأنّ فاوست أوّلُ مَن حاولَ أن يكونَ رجُلَ مَنطِقٍ فقالَ: ما لي أنا وللمنطق، فأدرُسُ أرسطو وأفلاطون؟ مع أنّهُ كانَ يُفاخِرُ ويقولُ: لو ضاعتْ كتبُ أرسطو وأفلاطون مِنَ الناس، ونَسيَتْ تلكَ الفلسفاتِ، لأعَدْتُها بأجملَ ممّا كانتْ عليهِ. ثمّ قالَ: ما لي وللمنطق؟ فلأذهبْ إلى الطّبِّ، لأنّ الطبَّ مُهمّتُهُ حِفظِ الأبدان، ولكن نقطةَ ضعفِ الطبِّ أنّهُ لا يُطيلُ الأعمارَ ولا يُؤجِّلُ المَنِيّةَ، بل يَنتفعُ منهُ صاحبُهُ، فيكونُ للاستفادةِ المادّيّةِ وجمْعِ الذّهب. فهل أريدُ القانونَ، لأُخلّصَ المَظلومَ مِنَ الظالِم؟ ولكن هذا صِراعٌ ومَحاكم، وما المَحاكمُ إلّا حلبَةَ صِراعٍ بينَ رجالِ القانونِ، يَنفُذونَ مِن بينِ السّطور، فيَجعلونَ الحقَّ باطِلًا والباطلَ حقّا. إذن؛ ماذا أكونُ إن لم أكُنْ رَجُلَ مَنطِقٍ أو طِبٍّ أو قانون؟ هل أكونُ رَجُلَ لاهوتٍ؟ فما لي وللّاهوتِ، ما دامَ أنّ ما سيَكونُ لا بدَّ أن يكونَ، وما سيَحدثُ لا بدَّ أن يَحدثَ؟ وأخيرًا سنموتُ. ثمّ يَنتهي إلى أنّهُ يُريدُ أن يتعلّمَ السّحرَ، وهذهِ هنا فلسفةٌ تركّبتْ عليْها كلُّ شخصيّةِ فاوست عند جوته، وعندَ الإنجليزيّ مارلو، والألمانيّ ليسنغ.
لماذا اختارَ د. فاوست السِّحرَ مهنةً؟
هو يَعتقدُ أنّ السِّحرَ هو المجدُ والعظَمةُ، وأنهُ يُصبحُ أحسنَ مِن إمبراطورٍ، وأحسنَ مِن أكبرِ شخصٍ في الوجودِ، وهو يَمتلكُ الوجودَ بهذهِ القوّةِ الطاغيةِ، فالنّاسُ منذ أنْ كانوا وبدايات الحضارات، ظهَرَ السّحرةُ وأدهشَتْهُم، فأُعجِبوا بهم. هو أرادَ أن يَبيعَ نفسَهُ للشيطانِ عن طريقِ السِّحر، وهذا الشيطانُ يَضمنُ لهُ رغباتِهِ وكلَّ ما يُريدُ، وأهمُّها أن يُعيدَ لهُ شبابَهُ، ويَعودَ إلى هواهُ، ليرجعَ إلى تلكَ الصبيّةِ مارغريت، الّتي تظهرُ في الجزءِ الأوّلِ مِن روايةِ فاوست، فهذهِ الشخصيّةُ الغنيّةُ الثريّةُ الفلسفيّةُ الّتي أقفُ عندَ ليسنع وما قالَهُ عنها، أَخْلُصُ إلى أنّنا نحن بحاجةٍ إلى ما يُشبهُ تلكَ الشخصيّاتِ الأسطوريّةِ فيقولُ ليسنغ: يجبُ أن ننظرَ إلى هذهِ الشخصيّةِ بجدّيّةٍ، وأنْ أعملَ لها عملًا جادًّا، لأنّ شخصيّةَ فاوست تقدِرُ أنْ تُجدِّدَ قوّةَ الروحِ الألمانيّة.
كيفَ يَنظرُ الأسدي إلى دوْرِ الأسطورةِ في الإبداع والحَضاراتِ والقوميّةِ؟
كلُّ شعوبِ أوروبا، ولا أستثني شعبًا، لهم أساطيرُ ومَلاحمُ أسطوريّةٌ، ونحن بثقافتِنا العربيّةِ الّتي كانتْ مَلآى بالأساطير، وقد عملَ الزّمنُ، وعمِلَ النّاسُ، وعملتْ وُجهاتُ النظرِ في الأساطيرِ على إزالتِها، وعدَمِ العنايةِ بها والتّركيزِ عليها. ومِن وجهةِ نظري، ومِن تطلّعاتي إلى الشعوبِ الأوروبيّةِ، كالألمان، والفرنسيّينَ، والإنجليز، والروس، والفنلديّينَ، وشعوبِ البلقان، أنَّ نزعةَ القوميّةِ بدأت سنة 1800، وكبرَتْ ووصلتْ في أوروبا في الثورات عام 1848، بسببِ العنايةِ بالشيءِ القوميّ.
وما هو الشيءُ القوميُّ برأي سعود الأسدي؟
التّراثُ، والأساطيرُ، والمَلاحمُ، وحتّى الموسيقى، والنحت، والرسم، والشعر، وهذه كلّها انعكستْ في الشعورِ القوميّ في هذهِ االشعوبِ الأوروبية.
على الصعيدِ العربيّ، كيف تَعامَلنا وتفاعلنا مع هذهِ الأساطير؟
نحن الشعوبُ العربيّةُ نظرنا إلى أساطيرِنا على أنّها شيءٌ غيرُ ضروريٍّ، وحَملنا عليها حملةً شعواءَ، معَ أنّهُ نحنُ بشرْقِنا لنا أساطيرُ، مثل كتاب جلجامش، ذلكَ الأثرُ مِن بلادِ النهريْن، فاهتمَّ بهِ الغربيّون، وحلحلوا وحلّلوا رموزَ كتاباتِهِ المِسماريّةِ، وانوَجدَ الكتابُ بحدود عام 1980. فأينَ المئة عام الأولى، لِما يُسمّى "القوميّة العربيّة"، عندما بدأ الناسُ يَتحسّسونَها مِن عام 1860، لمّا طلعَ الشاعر إبراهيم اليازجي (1847-1906) وقال: (تنبّهوا واستفيقوا أيُّها العربُ/ فقدْ طمَى الخطْبُ حتّى غاصتِ الرُّكَبُ)؟
ذهبَتْ هذه الصّرخةُ كما في وادٍ، وكانتْ كمَن يَرقُمُ على الماءِ، لأنّ النزعةَ القوميةَ، والّتي كانَ أوّلُ تنغيمٍ عليها مِن بلادِ سوريا، لمّا رَجعَ الاستعمارُ، طبعًا هو لا يُريد لهذهِ القوميّةِ أنْ تَنهضَ قوميًّا، ولا صناعيًّا ولا ثقافيًّا أو أدبيًّا، ولا مِن أيِّ وجهٍ. وظللنا نَلفُّ ونبرُمُ في الغيبيّاتِ، وأكبرُ دليلٍ على ذلكَ، ما نشاهدُهُ الآن في العالمِ العربيّ، وما يحدثُ الآنَ في مِصر، الّتي أنتجَتْ عبدَ الناصر الذي نادى بالوحدةِ!
ماذا كانت نتيجةُ نداءِ الوحدة اليوم؟ وأين مضتْ الجُهودُ التي بُذلت، والخُطبُ الّتي قيلت، والكتبُ الّتي كُتبت، والفلسفاتُ الّتي حَكتْ عن القوميّةِ والعروبةِ والوحدةِ؟
كلُّها ذهبَتْ أدراجَ الرياح، لأنّهُ كما نرى في مصر الآن مَعاركَ، إسلاميّين وأقباط وغير إسلاميّين، وحربًا كونيّةً على سوريا. فما المعنى؟ إنّنا نحنُ كأُمّةٍ لا زلنا شبْهَ دُوَلٍ، فليستْ هي دولٌ عربيّةٌ، وإنّما مَحميّاتٌ وقبائلُ وإماراتٌ، وخليطٌ مِن ناسٍ، أقلُ ما يُقالُ، هُم هُمّلٌ مِنْ غيرِ راعٍ، لأنّ الهُمّلَ في اللغةِ هُمُ الماشيةُ والقطيعُ مِنْ دونِ راعٍ، فهذا القطيعُ مِنَ المُحيطِ إلى الخليج بدونِ راعٍ، كما اليومَ نُحسُّ بهِ، ونَشعرُ بهِ ونَراهُ، وكيفَ أنّنا نحنُ لم نُحقّقْ خلالَ المئةِ سنةً الأخيرةِ شيئًا يُذكَرُ، لا صِناعيًّا، ولا اقتصاديًّا، ولا زراعيًّا، ولا ديمقراطيًّا، ولا اجتماعيًّا، لأنّنا نحن نُشبهُ 4-5 قوى؛ إسلاميّةً، وديمقراطيّةً، وقوميّةً، ورجعيّةً، وخَدَمَةَ أمريكا، أمامَهُم طاولةٌ، وكلُّ واحدٍ يَشدُّها لجهتِهِ، فهذا الضياعُ العربيُّ حقيقةٌ، ولكن للمثقفِ الّذي لهُ بوصلةٌ هي مأساةٌ، وتتكرّرُ هذهِ المأساةُ كلَّ عشرينَ وثلاثينَ سنة.
أرى أنّ الفلسفةَ تحتلُّ حيّزًا في تفكيرك، فما أثرُ الفلسفةِ على الفِكر، وعلى مُجرَياتِ الأحداثِ، في فلسطين والعالمِ العربيِّ والكونيّ؟
عامَ 1948 ابتدَعوا لنا كلمةَ "النكبة"، وهي لا تُعَبّرُ، وعام 1967 ابتدعوا لنا كلمةَ "النكسة"، وهي أيضًا لا تُعبّرُ، وابتدعَ الفلسطينيُّ كلمةَ "الانتفاضة"، وأدخلَها في لغاتِ العالم. فهل جُهدُ الفلسطينيِّ منذ عام 1936 حتّى اليومَ أثمَرَ؟ لا. فما هذا المَرضُ العضالُ الّذي يُصيبُ هذه الأمّةَ؟ أنا لا أدري.
هل سببُ المرضِ العضالِ العربيّ؟ اقتصاديٌّ؟ اجتماعيٌّ؟ فكريٌّ؟ فلسفيٌّ؟
الأمّةُ العربيّةُ ليسَ لها فلسفةٌ، وأُمّةٌ لا تملكُ فلسفةً لا تعني شيئًا، لا في القتالِ، ولا في السلامِ، ولا في البناءِ، ولا في التقدّمِ، ولا في التعليم، وحتّى برامج التعليمِ خاويةٌ. فأنا حينما أنظرُ في ثقافاتِ الأممِ الغربيّةِ، وموسيقاها، وتراثِها، وفنونِها كالرسم والنحت والمسرح والأوبرا، أجدُها في رأسِ السلّمِ، وأجدُ أنّنا دونَ الدرجةِ الأولى، فموسيقانا مُتخلّفةٌ، وفلسفتُنا متخلّفةٌ، وحتّى الّذينَ ظهَروا منّا ولَهُم فكرٌ قدْ أُهمِلوا.
فأنتِ اليومَ كأستاذةٍ ومُثقّفةٍ، ولكِ إبداعٌ، وترغبينَ بالكلمةِ الحرّةِ الجميلةِ يا ستّ آمال، لو دخلتِ إلى المكتبةِ العربيّةِ، تجدين أنّ كلَّ الفِكرِ السلفيِّ موجودٌ، فأينَ الفكرُ التقدّميّ؟ لماذا كُتبُ سلامة موسى مَخفيّةٌ عن الرفوف، والّتي كان يَنظرُ فيها نظرةً تقدّميّةً للمجتمعاتِ، ومنها المجتمع المصريّ؟
وأينَ كُتبُ طه حسين وكُتب العقّاد؟ لماذا ليس لها وجودٌ في مَكتبتِنا العربيّةِ؟ إذن كيف سينوجدُ عبد الرحمن بدويّ، هذا الفيلسوف الكبير، وأكبرُ مُفكّرٍ عربيٍّ رصَدَ كلَّ شيءٍ فلسفيٍّ مِن اليونان حتّى اليوم، ولهُ كتبٌ ما يربو على ثمانينَ كتاب؟ وما هو تأثيرُهُ في الفِكرِ الموجودِ اليومَ؟
وينعتونَ أناسًا بأنّهم مُفكّرونَ ومُنَظِّرونَ، وهُم ليسوا بمُفكّرينَ ولا مُنظّرينَ، بل هُم كِذبةٌ، ومُنعطفُهم السياسيُّ لجهةٍ ما، ولا يُريدونَ سوى خِدمةِ ذواتِهم، مِن خِلالِ مَعاشٍ كبيرٍ، فما أثرُ هذا التفكيرِ وهذا التنظيرِ على الشبيبةِ والناشئةِ العربيّةِ؟
ما يقولُهُ الأسدي عن الفِكرِ العميقِ هو استفزازٌ للذاكرة، ومُساءلةٌ حولَ المستقبل. وبصفتِكَ حارسُ الذاكرةِ في أبحاثكِ وكتاباتِكَ، فما المخاطرُ الّتي تواجهُ ذاكرتنا اليومَ، مَحلّيًّا وفي الوطن العربيّ، في ظلِّ الحداثة؟
نحنُ بدون تأسيسٍ ثقافيٍّ كبيرٍ للناشئةِ! قد نُعلّمُ الناشئةَ هندسةً، وزراعةً، وميكانيكيّاتٍ، وطبًّا، ومحاماةً وغيرَها، ولكن، نحنُ نريدُ ثقافةً لهؤلاءِ المُتعلّمينَ، فلا أريدُ أن أُنَظّرَ على الناس، ولكن ما أراهُ وأُحِسُّهُ وأشعُرُهُ، أنّ دوْرَ الثّقافةِ ضعيفٌ جدًّا في مُجتمعاتِنا، فأنا أذكُرُ كذاكرةٍ، مثلما أنتِ تفضّلتِ، أنّهُ سنةَ 1965 عملنا مهرجانَ المُتنبّي في الناصرة، فمَجموعةٌ مِنَ الشّعراءِ قالوا، نريدُ شيئًا نُقدّمُهُ للناس، فكان المُتنبّي أحسنَ حبّةَ تفّاحٍ في سحّارةِ الأدب (صندوق)، فعملنا في ال ymca في الناصرة ندوةً كبيرةً لمجموعةٍ مِنَ الأدباءِ والشعراءِ، واكتظّتِ القاعة، ولم يَعُدْ مكانٌ للحضورِ، ووقفَ الناسُ على السطوحِ والشبابيكِ ليَسمعوا المُتحدّثينَ. فاعمَلي لي اليومَ ندوةً مثلَ ذاكَ الشكل، واجْمَعي ناسًا مثلَ ذاكَ الشكل. لا يمكنك.
لماذا هذا الهبوطُ والصدودُ والهروبُ من الثقافةِ العربية؟ هل هو الشعورُ باللاجدوى؟ بالإحباط؟ هل بسببِ الهزائمِ والنكساتِ، وعدمِ وجودِ خطواتٍ للأمام، أم هي المشاعرُ الهزيلةُ بالانتماءِ القوميّ والعروبيّ؟
بسبب الشّعورِ بالفقدِ للانتماءِ للقوميّةِ والعروبةِ، التي كان عبدُ الناصر شعارَها، وصَنعَ وحدةً لم يَقبلوها، وبالمقابل قاموا بمؤامراتٍ لفسخِ الوحدة، وهذه المؤامراتُ خدَمتِ الرجعيّةَ والاستعمارَ. فأينَ مصالحُ ومنفعةُ الشعبِ العربيّ؟ ففي مصرَ الآنَ هناكَ الملايينُ ممّن يُنادونَ بالمَقال الديمقراطيّ والتغييرِ، فلماذا لا نضعُ الأيدي بأيدي بعض ونعملُ على التغيير؟ هُم لا يُريدونَ ولا يَقبلون، فهذا العمل اللّامُنتمي، وعدمُ الشعورِ بالانتماءِ وبالشعور القوميّ، هو كارثةُ الأمّةِ العربيّة.
ألا يُمكنُ أن يَعترضَ أحدُهُم ويَقولَ، إنّ الشّعورَ القوميَّ هو الّذي جلبَ الكارثة للأُمّةِ العربيّة؟
هذا غيرُ صحيحٍ، وتدجيلٌ، وكذبٌ، وتسريبٌ لأفكارٍ لا علاقةَ لها بالقوميّةِ، فأنا ما أقولُهُ، إنّ الثقافةَ الأساسيّةَ ضروريّةٌ، ويجبُ إرضاعُها للناشِئ في البيتِ، كما يَرضعُ لبنَ أُمِّهِ، فأمّةُ اقرأ لا تقرأ، وهناك كتبٌ لا يفتحونَها. ومقارنةً مع الشعوب الأخرى، فلنضربْ مثلًا عن شاعرٍ في الغرب، حين يُصدر كتابَ شعرٍ بعشراتِ آلافِ النُّسَخ، ولكن هذا الكاتبُ العربيُّ الّذي يَكتبُ ألفَ نسخةٍ، ما تأثيرُهُ على الملايينِ العربيّةِ والإسلاميّة؟ فهو يَكادُ لا يُذكر، وحتّى لا يُعرَفُ اسمُهُ.
هل يحتاجُ الإنسان العربيُّ إلى برمجةٍ تثقيفيّةٍ حديثةٍ ومدروسة؟ وكيف؟
نحن نحرثُ الماءَ ونرقمُ على الهواءِ، وليسَ هناكَ مِن مَردودٍ، لأنّ البرمجةَ للإنسانِ العربيّ غيرُ موجودةٍ، فأنا لا أعني أنّ الإنسانَ جهازٌ نُديرُهُ ونُحرّكُهُ بالروموت كونترول، ولكن علينا أن نَخلقَ لهُ طموحًا فرديًّا وجَماعيًّا، ونعملَ لهُ هدفًا يَسعى إليهِ، مِن خلال برامجِ التعليم والتثقيف والموسيقى، فما هذه الأمّةُ التي لا تتماشى إلّا مع إيقاع الدربكّة؟ فقضيّتُنا مثلُ كبكوبة خيطان صوف على شجيرة البلّان، ومهما حاولتِ أن تُعالجيها، لا يُمكنكِ أن تسحبي خيطًا واحدًا منها. فعلى سبيلِ المثال، لا يوجدُ لدينا موسيقى.
ولكن، نحن عندنا الكثيرُ مِن الأغاني، ومئاتِ المَحطّاتِ الغنائيّةِ والفضائيات العربيّةِ الطربيّةِ؟
كلّه يُغنّي ويَهزّ ويَسحَج، فما هذه الأمّة الّتي لا تسلكُ حفلاتُها إلا بالتّصفيقِ والسّحجة؟ فربّما أريدُ أن أضع رِجلًا على رجل، وأتأمّلُ بالصوتِ والموسيقى التي توحي بصورٍ وحكايةٍ؟ لا نجد. وإذا لم يكن صوتُ الدربكّة عاليًا، فلا موسيقى لدينا، وهذا الأمرُ نراهُ في كلّ شيءٍ، فالشاعر دربكّة، والكاتب دربكة، والخطيبُ دربكّة، والواعظُ دربكّة، ومُعلّمُ المدرسةِ دربكّة، والشرطيُّ دربكّة، والحكومة دربكّة، وأعراسُنا دربكّة، وأمّ العريس درعكّة دربكّة. فماذا نحن؟ نحنُ شعبُ الدربكّة.
نحنُ نجهلُ تراثَنا الشعبيّ في بلادِنا الّتي نُكبتْ عام 1948، فنسبة 95% من الشعبِ الفلسطينيّ فلّاحونَ، وأيُّ فلّاحٍ منّا هو بدائيٌّ، وعندهُ ثقافةٌ محدودةٌ على قدّهِ، وأغانٍ على قدّهِ، وحتّى هذهِ الشعبيّات البسيطة مِن سحجةٍ وأعراسٍ مُسِحَت، والسببُ اختفاءُ نمطِ الحياة.
وهل نقدرُ أن نتماشى اليومَ مع التراث، ومعَ الّذي نحن عليهِ الآن؟
لا زال لنا رِجْلٌ في الماضي، ورِجْلٌ غيرَ ثابتةٍ على الحاضر، فكيف يمكنُ أن نَثبُتَ؟ وكيف يمكنُ أن نُؤدّي دوْرَنا؟ وأعطي مثلًا رهيبًا، أليس لنا لغةٌ مَحكيّةٌ؟ ولصُلبِ الإبداع أقولُ، إنّ لنا لغةً مَحكيّةً، أسوةً بلبنان، فلها لغةٌ مَحكيّةٌ، وللعراقِ ولمصرَ وللجزيرةِ ولشمال إفريقيا، وكلّ لغةٍ لها قسَماتُ الشعبِ الذي أنتجَها، فهل مُثقّفُنا نَظرَ في مرآةِ هذه الشعوب مِن خلالِ اللغةِ المَحكيّة؟ لا، فقد تقوقعَ بمجموعةِ قصائد يُعلّمُها في المدرسةِ، وأكثرُ من هذا، ماذا يعرف؟ فوالله لو كانَ يَعرف، اكونُ مُتفائلًا. فنحن عندنا تحتَ كلِّ حجَرٍ حكايةٌ في بلادنا، وفي كلِّ وادٍ أقوالٌ قِيلت، وفي رؤوسِ الجبالِ قِيلت مِئاتُ الرّدّاتِ، والزّمنُ كلُّها مَسَحَها مِن ذاكرةِ الناس، ويُحاولُ بعضُ المنكوبينَ مِن خلالِ برامجهم التي أُشاهدُها، ان يتحسّسوا وجوهَهم وقسَماتِهم، ويَرَوْها امامَ المرآة، فيُجَمّلونَها بالرتوش في الرموش والحواجب، وتكونُ الرقعةُ على الأكتاف مشخترة (اي غير متقمنة)، ويُسمّونها بلغةِ الفلاحين مشخلبة. رقعتنا لا يتماشى حالُها على تلفزيوننا، وأغنيتُنا أيضًا مشلوخةٌ ومنزوعةٌ، ولا تقولُ ولا تُعبّرُ، فكيفَ نكونُ أمّةً عظيمة؟ فهل العظَمةُ بالبُقّ وبالكلام؟ تحتاج إلى تضحيةٍ وبذلٍ، وعِلمٍ وثقافةٍ، وفولكلورٍ وأساطيرَ وتراثٍ، وكيف تُجددُ شبابَ الأمّةِ دون أسطورة؟
وهل للدّينِ علاقةٌ برفضِ الأساطير ومَحوها؟
ها هو بيتُ القصيد، أنتِ وضعتِ إصبعَكِ على الوجع، فحتّى حينَ تقرئينَ في كُتبِ الدينِ، ففيها قصصٌ وأشياءُ جَبّت وقطعتْ ما قبلَها، فكيفَ قطعَتْهُ؟ وهل نقولُ كلُّنا آمين؟ هذا غلط وخطأ. هذا شيءٌ جميلٌ، وأوروبا حينَ كانتْ في الظلمات، نقلَ الأوربيّون الترجماتِ العربيّةَ لأرسطو وتنوّروا، ولكنّنا طفأنا شمعتَنا، وأضاءَ الغربُ شمعتَهُ مِن شمعتِنا، وأنارَ دياجيرَ ظلامِهِ، أمّا نحن، فاعتبرْنا ذلك زندقةً وكفرًا وإلحادًا. لماذا؟ فآلتُهم جاهزةٌ، فهل تظنّينَ أنّ الناسَ يقرؤونَ هذا الكلام؟ ولكي يَرتاحوا يقولون: نحنُ قتلْنا الفكرَ، وقتلنا العقلَ، لأنّنا نحنُ ربُّ العقلِ، ولا يبدو عليهم أنّهم ربُّ العقلِ. ففسِّرْ لي ما هو عقلُكَ، حين تُحلِّلُ قتلَ البريءِ في حمص وحلب، وذبْحَ الطفلِ وتُسمّي على ذبْحِهِ وأكْلِ كبدِهِ؟ هذا الأمر لا يَقبلُهُ لا دينٌ ولا شريعةٌ ولا الغابُ، وحتّى الشعوبُ آكلةُ لحومِ البَشرِ لا تفعلُ ما يَفعلونَ، ونحنُ نموذجٌ وأُمّةٌ أمامَ العالمِ كلِّهِ، وأمامَ شاشاتِ التلفازِ والكمبيوترِ والإنترنت، وصرنا باختصارٍ "شعبَ عزارةٍ والعالمُ علينا شهود؟ ثقافيًّا عزارة، وفنّيًّا عزارة، وأخلاقيًّا عزارة، وسياسيًّا عزارة. وقالَ ضاحكًا بمرارةٍ كي يُريحَ نفسَهُ مِن ترجمةِ كلمةِ عزارة: عزارة لغةً تعني المثالبَ والعيوبَ، ومثلما قالَ الإمامُ الشافعيّ: "نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا/ وما لزمانِنا عيبٌ سوانا.
كيفَ تُقيّمُ علاقةَ أجيالِنا بثقافتِنا الكلاسيكيّةِ؟
ثقافتُنا الكلاسيكيّةُ مُهمَلةٌ، مِن تراثٍ وعظماء شعرائِنا ومفكّرين، مِن عصورِ الجاهليّةِ والإسلامِ والعبّاسيِّ، وأنا أتحدّى إذا كانَ هناكَ في مدارسِنا العربيّةِ وجودٌ حقيقيٌّ للمعرّيّ، وهو أعظمُ شاعرٍ في الشرقِ والغرب، وجهة نظري. وأتحدّى إذا كانَ هناكَ شاعرٌ يُذوِّتُ لذاتِهِ المُتنبّيَ، حتّى يُعطِيَ طلّابَهُ مَصلًا مِنَ القوّةِ والشجاعةِ والعنفوان؟ هو موجودٌ، ولكن ليسَ لهُ أثرٌ. فوجهة نظري هي، أن خيبةَ آمالِنا في كثرةِ النكباتِ والنكساتِ والهفواتِ والسقطاتِ المُحبطةِ، الّتي ألمَّتْ بهذهِ الأمّةِ شرقًا وغربًا، فإذا كانَ المُثقّفُ مُحبَطًا، والبيتُ مُحبَطًا، و"الأُمُّ مَدرسةٌ إذا أعدَدْتَها/ أعددتَ شعبًا طيّبَ الأعراقِ"، غيرُ مُعدَّةٍ، إذن؛ ماذا يحدثُ في مجتمعاتِنا؟ موظّفاتٌ؟ سكرتيراتٌ؟ شغلٌ مَكتبيٌّ؟ ليسَ لدينا صناعةٌ! لنا جوعٌ للقمحِ وللزراعة! فمَن أفضل، تلكَ الكتبُ الّتي أُلِّفتْ خلالَ خمسينَ ستّينَ سنةً، عن الأحزابِ وخُطَبِ المُناسباتِ في الوطن العربيِّ، أو إقامةُ سكّةِ حديدٍ لقطارٍ، يَصلُ مِن مَرّاكشَ إلى الجزائر، إلى ليبيا، إلى مصر، إلى الشام، إلى بغداد، ويَربطُ الأمّةَ العربيّةَ بشريانٍ تجاريٍّ صناعيٍّ، يُطوّرُ الصناعةَ والتجارةَ وحركةَ العمّالِ، ويَعملُ على تواصلِها دونَ جَواز سفرٍ وفيزا، ويُسَهِّلُ التنقّلَ مِن بلدٍ إلى آخر؟ هذا العربيُّ البائسُ الحزينُ جسمُهُ موجوعٌ، وأينما أوجعَهُ جنبُهُ يتأوّهُ ويتأخأخ، وهذا يَحتاجُ إلى طبيب.
برأيك، مَن هو طبيبُ الإنسان الفلسطينيّ والوجعِ العربيّ؟
مثلما قالَ المثل "العَيا عَيا والطبيبُ الله"! عامَ 1948 احتلّتنا جيوشُ الـ هاجاناه الإسرائيليّة، وعملوا اجتماعًا للناس، وخطبوا بهم بالميكروفون بلغةٍ عربيّةٍ مُكسّرةٍ، ففهمَ الناسُ أن أمامَهُم نصفَ ساعةٍ للإخلاءِ، والتوجُّهِ إلى سوريا، ولم يقولوا لبنان، أرادوا أنْ يَزُتّونا ويَرمونا إلى سوريا، حيثُ لا رجعةً لنا منها، إذ كانوا يتأمّلونَ أن يكونَ الموقفُ معَ لبنانَ جيّدًا (خوش بوش)، وكنتُ ابنَ العشر سنوات مع أختي عائشة نركبُ على الحمار، كنّا نقولُ في رحلتِنا التهجيريّةِ و(شمّةِ الهوا): (أمّا الضحكة ثلاث أشكال، آه آه آه، أُه اُه أُه، إِه إِه إِه)، وأتارينا وإذ بنا كنّا نسخرُ ممّا حدثَ، ولا نعرفُ أنّ هذا تعبيرُ ضحكٍ عما صارَ، وتبيّنَ أنّهُ انضحكَ علينا ثلاثَ مرّاتِ، الغربُ ضحكَ علينا، والعربُ ضحكوا علينا، والرجعيّوَن ضحكوا علينا، وهذهِ الضحكةُ شتّتتْنا، وربُّنا جعَلنا ننطقُ نحنُ الأطفالُ، لنصوّرَ مأساتَنا بأسلوبٍ ساخرٍ، ففي عِزّ حماها والنّاس هاجّة وهاربة، كنّا الأطفالُ نركُب الجحشَ، ونُغنّي ساخرينَ عمّا يَحدثُ ونضحكُ، وهذهِ الأغنيةُ مُعبّرةٌ أكثرَ مِن أيّ خطابٍ سياسيّ، فالاستعمارُ ضحِكَ علينا، والانتدابُ انتدبَنا لِنستقِلّ، فطلعنا ليسَ نحن، وثمّ مُلوكُ العربِ الّذين قالوا إنّهم يُريدونَ نصرة فلسطين، سلّموا فلسطين، والرجعيّون عندنا مِن أغنياءَ ورأسماليّينَ، حين سمعوا طلقَ البارودِ في حيفا ويافا، ركبوا سيّاراتِهم، وذهَبوا ليُصيّفوا في لبنان، كانوا يفكّرونَ أنّ الأمرَ يَحتاجُ إلى شهرِ زمانٍ ويَعودون، ولا زالوا حتّى اليوم يَنتظرونَ العودة.
ما قصّة سعود الأسدي مع شمّة الهوا التهجيريّة وتفاح لبنان؟
قال بتنهّدٍ مازحًا: حينَ كنّا نَسيرُ خارجين مِنَ البلدِ في رحلتِنا التهجيريّةِ و(شمّةِ الهوا)، قالَ جدّي، نُريدُ أن ننامَ في الوعر القريب، وغدًا نرجعُ لبلدِنا. وأنا الطفلُ شطَحَ خيالي، وأردتُ لبنانَ، لأنّي أردتُ أن آكُلَ مِن تفّاحِ لبنان، إذ كنّا نَسمعُ أنّ في لبنانَ تفّاحٌ، وكنّا فقط نسمعُ بالتّفاح ولا نعرفُه، والقريةُ الّتي بها شجرةُ تفّاح، كنّا نأكلُ حبّاتِها وهي ما زالت في النوّارة، فلمّا تَصيرُ حبّةُ التفّاحِ بحجم حبّةِ الزعرورة، نتعربشُ شجرةَ التفاح لنسرقَها ونأكلَها. فهذا الطفلُ المحرومُ الراكبُ على جحشٍ ويُغنّي ساخرًا، كانَ خيالُهُ مُعبِّرًا، وجوعُهُ مُعبِّرًا، وحبّةُ التفّاحِ أيضًا مُعبّرةً ، وكلُّ ما في لغتِنا يَحكي، ولغتُنا العامّيّةُ تحكي بأبلغِ الكلام، ولغتُنا الفصحى تحكي بأبلغ الكلام.
طالما تتوفّرُ لدينا اللغة بشقّيْها الفصيح والعامّيّ، فأين تكمنُ المشكلةُ في أُمّةِ اقرأ؟
أُمّةٌ بدونِ لغةٍ لا تصلحُ، فكلُّ الأُممِ نهضَت بنهوضِ اللّغةِ. وبوجود أكبرُ نسبةِ أُمّيّةٍ موجودةٌ في عالمِنا العربيّ، لا يقرؤون ولا يَكتبونَ ولا يَحفظونَ ولا يُبدعونَ، فكيفَ سننهضُ يا سيّدتي؟ يأتي شخصٌ ويَسوقُها بعصاةٍ أو بخطابٍ أو وعظةٍ، فيخرجُ القرضاوي (القرداوي) يُنظّرُ ويُكفّرُ، فيقولُ اذبَحوهُم ونشكرُ أمريكا. فلماذا تشكرُها وهي الّتي أنزلتنا للبئر وقطعتِ الحبْلَ بنا؟ فهذا الإنسانُ العربيُّ وعلى مسؤوليّتي، لا يعرفُ عدوَّهُ ولا صديقهُ، إلّا مَن رحمَهُ الله.
برأيكَ، كيفَ تنظرُ مجتمعاتُنا العربيّةُ للمرأة؟
كلُّ مجتمعِ يَقمعُ الأنثى والمرأةَ هو مُتخلّفٌ، وعندما يأخذ الأشياءَ مِن وجهةِ عنصريّةِ الرجُلِ ونواياهُ ضدّ المرأة، فهذا المجتمعُ لا يمكنُ أن يتقدّمَ، ولا يمكنُ حتّى أن يحلمَ بالتطوّرِ، فنحنُ أمامَ معضلةٍ ومرضٍ عضالٍ، لا يمكنُ الا بالثقافةِ والتثقيفِ أن يصيرَ.
ماذا يعني سعود الأسدي بالثقافة؟
أوروبّا حينَ خرجَت مِن ربقة الكنيسةِ تحرّرت بالثقافة. والثّقافةُ هي تراثُنا، وأشعارُ العصرِ العبّاسيِّ والأندلسيّ، وأشعارُ جبرانَ والمَهجَرِ ضروريّةٌ، فلا يجبُ أن نُكفّرَ جبرانَ ولا سلامة موسى، ولا نُكفّرَ طه حسين، ونسرقَ تمثالَهُ ونضربَهُ، ونُحطّمَ رأسَ عميدَ الأدبِ العربيّ في مَدينةِ المِنيا، ولا نُكفّرَ أبو العلاءِ المعرّيّ، ونُحطّمَ تمثالَهُ في حلب، كما فعلَ التكفيريّونَ، ففلسفةُ العقلِ والشكّ هو أبو العلاءِ المعرّيّ، فهل الشكُّ سيّءٌ؟
وحين يَضربُ التكفيريّونَ والرجعيّونَ رأسَ أبي العلاءِ المعرّيّ، الذي هو رمزُ العقلِ في الشعرِ العربيّ، فمَن يُقنعُني في الشعرِ العربيّ؟ المعرّيُّ يُقنعني، وأرى بشعراءَ آخرين جَماليّةٌ رائعةٌ، مثل ابن زيدون، وعمر بن أبي ربيعة أيضًا، فهذه النماذجُ الجميلةُ مِن شِعرِنا وأدبنا وثقافتِنا أينَ هيَ اليومَ؟
ومِن ناحيةِ الفلسفة، فأين كتابُ الفلسفةِ "إخوان الصفا وخلّان الوفا"، لمؤلّفِهِ أحمد بن عبد الله، وللفارابي فلسفة، فما علاقةُ أجيالِنا الناشئةِ اليومَ بهذهِ الثقافةِ الفلسفةِ عندَ العربِ وبمعرفتِها؟ وهل يَدري أحدٌ اليومَ عن كتاب "التوابع والزوابع" لابن شُهَيد الأندلسيّ، الّذي كانَ دُرّةً مِن دُرَرِ ونوادرِ الأدب العربيّ الضائعة؟ وهل أحدٌ يَدري بـ "رسالة حيّ بن يقظان"، الّتي تقولُ بأنّ طينةً اختمرتْ عندَ الجُزرِ الهنديّةِ الشرقيّة، ونبضَت فيها الحياةُ واهتزّتْ، وتكوّنَ الإنسانُ ثمّ جَرى مع الغزلان، ورضعَ مِنَ الغزالةِ ونشأ في الطبيعة، وبعدَما ماتتِ الغزالةُ اخذ يُفكّرُ في الوجود، وعندما التقى برجل الوحي قال له، أنتَ بوحْيِكَ وصلتَ إلى ما وصلَ إليهِ تفكيري، فكانتْ فلسفةُ المُؤاخاةِ بينَ العقل والنقل، نقل علوم الدين، فكتبَ عنها ابنُ سينا، وشهابُ الدين السهروردي، وابنُ طفيل، وابن نفيس وابن رشد.
وماذا تعني للأسدي توزيعة أقطار بلاد الشامّ؟
كانَ الزجّالُ يَقولُ: "ولبنان ضمّة ورد في حضن سوريا"، أليست هذهِ قصيدةً وطنيّة؟ لم يَقلْ لا قوميّة ًولا عروبةً، فأجملُ شيءٍ أنّ هذهِ سوريا الأُمُّ، وهذه لبنان وردة في حضنِها، فهل هناك مِن أحدٍ مِنَ الانفصاليّين يَستجيبُ، ويَردُّ على هذهِ الثقافةِ؟ هل يَعرفُها وهي مُذوّتةٌ في ذاتِهِ وجوّاهُ وداخلِهِ، وفي قرارةِ نفسِهِ؟
الرجُلُ رأسماليٌّ غريبٌ، آتٍ مِن مَشاريع أموالِ السعوديّةِ، فلذلكَ لبنانُ لا يَهمُّهُ، ولا سوريا تهمُّهُ، فلماذا ونحنُ صغارٌ حين كنّا نسمَعُهم يُغنّونَ في قريتِنا دير الأسد: (زحلة بلدنا والعرق مشروبنا)، كنّا نَسكَرُ على الردّةِ، مع أنّنا لم نعرفِ العرَقَ ولم نرَهُ؟
برأيك، ما مَدى ارتباطِ الحداثةِ بالماضي؟ وكيفَ ترى العلاقةَ بينَهُما؟
جميعُ مفرداتِنا العامّيّةِ كناياتٌ وتَشابيهُ واستعاراتٌ وشاعريّةٌ، ولها دلالاتٌ اجتماعيّةٌ ولغويّةٌ وبيئيّةٌ وتاريخيّةٌ وأخلاقيّةٌ، فمثلًا التعبيرُ العامّيُّ مثلَ (ضبَّ الرمَس- عن الغروب)، فهل أجملَ منهُ تعبيرًا؟ فيأتي المُثقفونَ بين قوسيْن، ويقولونَ هذه لغةٌ عامّيّةٌ، فلماذا يَنجَنّونَ ويَنْحَنّونَ؟ لأنّهم يُحاضِرونَ بالفصيح، ويُريدونَ أن يُحافظوا على فصيحِهم، وعلى إعراب إذا ولا سيّما فاكتبوا إعرابَهُما، ولكن لمّا هناكَ لغةٌ صاغَها شعبٌ صياغةً عبقريّةً، علاقتُهُ بالأرضِ أربعةُ آلاف سنة، وكلُّ كلمةٍ لها جذورٌ عُمرُها أربعةُ آلافِ سنة، ومنذ الكنعانيّين وحتّى اليوم، فالمطلوبُ هو الشعرُ، إن كانَ فصيحًا أو عامّيًا، وليسَ اللغةَ كشرطٍ.
هناكَ أناسٌ يَتفلسفونَ ويَقولونَ الحداثة، ويكتبونَ الحُجُبَ والرُّقَعَ، فإذا كانتْ هناكَ للزجلِ ميزةٌ إيجابيّةٌ هو أنهُ يُغنّى، والشعرُ العربيُّ القديمُ كانَ يُغنّى، ومرحلةً بمرحلةٍ أعرِضُها، فصنّاجةُ العربِ القديمةِ هوَ الأعشى، والشعرُ كانَ يُغنّى، ولمّا الخليليّ عملَ الأوزانَ على أساسٍ موسيقيٍّ كي تُغنّى، فسمّاها التفعيلاتِ، وحينَ رأى أحدَهُم يَطرقُ على النحاس، أعادَ الإيقاعَ، وإذا بهِ يُشبهُ الشعرَ، فوضعَ العَروضَ كعِلمٍ، ومعنى العلمِ الدّقّةُ، كالرياضيّات، والموسيقا، والفَلك، والقواعدِ، وأوزانِ الشعر، كعِلمٍ لا يُمكنُ أن ننصرفَ عنه بسببِ الحداثة، فهناك بالكلاسيك حداثةٌ كما هي اليوم، فيَصِفُ المُتنبّي الحصانَ قائلًا: رِجلاهُ في الركْضِ رِجْلٌ واليدانِ يدُ/ وفِعلُهُ ما تُريدُ الكفُّ والقدمُ. فحينَ يَركضُ الحصانُ برِجْلٍ واحدةٍ وبيدٍ واحدةٍ، لو أحسّها بيكاسو الرسّامُ الحداثيُّ، لرَسَمَ لوحةً وفازتْ بالجائزةِ الأولى، فهناكَ في الشعرِ القديمِ حداثةٌ وَرِقّةٌ جُنونيّةٌ، فمثلًا الشاعرُ المُخضرم سحيم، كان عبدًا أسودَ نوبيًّا أعجميًّا مَطبوعًا في الشعر، اشتراهُ بنو الحسحاس، فعاش في الصحراءِ، فكتبَ شِعرًا رقيقا، يَعجزُ عن كتابتِهِ أكبرُ شاعرٍ يعيشُ في حضارةِ بيروت، فقالَ يُشبّبُ بأختِ مولاهُ وكانتْ عليلةً: ماذا يُريد السّقامُ مِنْ قمَرٍ/ كلُّ جَمالٍ لوَجهِهِ تَبَعُ!/ ما يُرتجى خابَ مِن مَحاسنِها/ آمالُهُ في القباحِ مُتّسـَعُ!/ غيّرَ مِن لونِها وصَفّرَها/ فزيدَ فيهِ الجَمالُ والبدعُ/ لو كان يَبغي الفداءَ قلتُ لهُ:/ ها أنا دونَ الحبيبِ يا وجعُ!
وهناكَ شعرٌ قالَهُ الشاعرُ الناسكُ العبّاسيُّ أبو بكر الشبلي: يا بديعَ الدَلِّ والغَنَجِ/ لكَ سلطانٌ على المُهَجِ/ إنّ بيتًا أنتَ ساكِنُهُ/ غيرُ مُحتاجٍ إِلى السُّرجِ/ وعليلًا أنتَ عائدُهُ/ قُد أتاهُ اللهُ بالفرجِ/ وجهُك المأمولُ حجَّتُنا/ يومَ يأتي الناسُ بالحُججِ.
وقولُ الشاعر أبو صخر الهُذلي: أمَا والذي أَبْكَى وأَضْحَكَ والذي/ أَماتَ وأَحيا والذي أَمْرُه الأَمْرُ/ لقد تَرَكَتْنِي أَغْبِطُ الوَحْشَ أَن أَرى/ أَلِيفَيْنِ منها لا يَرُوعُهما الزَّجْرُ/ إِذا ذُكِرَتْ يَرْتاحُ قَلْبي لِذِكْرِها/ كما انْتَفَضَ العُصْفُور بَلَّلَهُ القَطْرُ/ تَكادُ يَدِي تَنْدَى إِذا ما لَمسْتُها/ وتَنْبُتُ في أَطْرافِها الوَرَقُ الخُضْرُ/ فيا حُبَّها زِدْني هَوًى كلَّ ليلةٍ/ ويا سَلْوةَ الأَيامِ مَوْعِدُكِ الحَشْرُ/ وإنّي لَتَعْروني لِذكراك هزّةٌ/ كما انتفضَ العصفورُ بلّلَهُ القَطْرُ/ عَجِبْتُ لِسَعْيِ الدَّهْرِ بيني وبينَها/ فلما انْقَضَى ما بيننا سَكَنَ الدَّهْرُ.
هذهِ صورةُ العصفورِ يَنتفضُ، وريشاتُهُ تهتزُّ بحَركةٍ جميلةٍ، ألا يَخفقُ لها القلبُ؟ طبعًا هذهِ حداثةٌ وظرافةٌ ولطافةٌ، لكنّ المثقّفَ يُريدُ أن يَكسرَ القوانينَ والأوزانَ. حسنًا، اِكسِرْها، ولكن أحضِرْ لنا أشياءَ تُبهرُ!
هل سعود الأسدي متعصّبٌ للشكلِ وللّغةِ؟
أنا غيرُ متعصّبٍ لا للشّكلِ ولا للّغةِ، لأنّ الشكلَ يَتماهى معَ المضمون، ومِقوَدُ اللغة بيدي فصحى وعامّيّة، فحينَ شققتُ الدربَ في العامّيّة بعد عام 1948، وكنتُ أوّلَ مَن كَتبَ بالعامّيّةِ كتاب "أغاني مِنَ الجليل" عام 1976، ولاقى رَواجًا قدْرَ كلّ كتب الأدبِ الّتي كُتبتْ خلالَ خمسينَ سنة، ومِن ثمّ كثرَ الّذينَ يَكتبونَ بالعامّيّةِ، وهذا مُثْبَتٌ، فقد طبعتُ منهُ آلافَ النسخ، لأنّي أحكي حصيلةَ ثقافةٍ تنعكسُ في فلسطين، عن السنسنلة والأرض والبيدر وخشب البيت والطين والحاكورة وكلّ شيءٍ فلسطينيّ، فالموضوعُ ليسَ موضوعَ لغةٍ، إنّما إبداعٌ باللغةِ، وأُثبتُ لكِ ذلك، فمثلًا لغةُ الإشاراتِ في نشرةِ الأخبارِ هي لغةٌ إيمائيّةٌ وإبداع، مَفهومةٌ لمَن يتعلّمُها، وهناكَ لغةٌ عامّيّةٌ مُكمّلةٌ، وهي سيّدةٌ ليستْ جاريةً، بل كاملةً ومُكمّلةً بكناياتِها واستعاراتِها ومَجازاتِها وتَشابيهِها، فكلُّ مَن غنّتْ وهاهتْ وزغردتْ قالتْ شِعرًا.
ففي كتابِ "المثل السائر" لابنُ الأثيرِ، في الجزءِ الأوّلِ يقول، ماذا يجبُ على الكاتبِ أن يعرفَ، فيضعُ أوّلًا وثانيًا وثالثًا، فلا يَستوي الأمرُ بدون قرآن، ودونَ أيّام العرب، ودون الصرفِ والنحو، ودونَ الثقافةِ اللغويّةِ، وفي النهايةِ يَقولُ، يجبُ على الكاتب أن يعرفَ ما تقولُ الماشطة وهي تُمشّطُ العروسَ لتَجْلُوَها، وما تقولُ الماشطةُ عندَ جلوةِ العروس، وما تقولُ النادبةُ على الميت. أريدُ أديبًا واحدًا يلتزمُ بقوْلِ ابنِ الأثير.
ماذا عن أدبِ التّعديدِ الّذي ذكَرَهُ عميدُ الأدبِ العربيّ طه حسين في كتابِ الأيّام؟
في كتابي "أغاني مِن الجليل" كتبتُ الزجَلَ والأحزان، وجعلتُ للمرأةِ الفلسطينيّةِ صفحاتٌ، وماذا كانت تقولُ مِن عتابا الفراقيّات، وهذا اللفتُ هو تجاوُبٌ معَ ابنِ الأثير، فذهبتُ إلى نسوةٍ يُعدّدنَ، وطلبتُ منهنّ أن يَنوحوا، فقالت لي: عزا يا خايب، شو بدّك تفاوِل علينا، وحدا يموت عندنا؟ هِلّي يا دموع العين هلّي عَ اللّي إلو ومثل البدر هَلِّة/ واحْرقي خدّي وجفوني ويا عساهم يسمعوني/ كنت خِلّو وكان خِلي والعواذل يشهدون.
سجّلتُ الأغاني الّتي تقولُها النساء، ومنهنّ البدويّة ريحانة مِن عرب العرامشة، ولمّا أتى أحمد شوقي سنة 1926 في طريقهِ إلى لبنان، يومَ نصّبوهُ أميرَ الشعراء، مَرّ بفلسطين، وكانتِ السيّاراتُ في بدايتِها، وكانَ يَركبُ سيّارةً رسميّةً سوداء، ولم تكن الألوانُ الحديثة، فقالتِ الأغنيةُ السوريّةُ حينها، ولهذا يجبُ أن نعرفَ، ليسَ فقط بالكلام والحكي بل بالعمل: بينَ الرّقّة ودير الزور لمعت ماكينة سودا (سيارة)، فكانتْ هذهِ الماكينةُ حدَثًا في العشرينات، وصارَ يُغنّي السوريّونَ في أعراسِهم، الله يرضى عليهم، وينشلهم ربّي ِمن محنتِهم ومِن مصيبتِهم، ويَرجعونَ ليُغنّوا بينَ الرقّةِ ودير الزور لمعت ماكينة سودا، وكنّا صغارًا ونغنّي: ليّا وليّا يا بنيّة، يا ليّة العربيّة، ولبنان ضمّة ورد في حضن سوريا.
الأسدي دُعيَ بأبنودي فلسطين، فكنتَ المبادرَ والرائدَ في الكتابةِ العامّيّةِ في البلاد، فمَتى أُطلِقَ عليكَ اسمُ الأبنودي؟ وكيفَ تعاملتَ مع هذا اللّقبِ الجديد؟
عمّي، الأبنودي هو أبنودي في مصر، وسعود الأسدي هو سعود الأسدي في فلسطين، فثوْبُهُ ليسَ لي، وثوبي ليس له، وهو شاعرٌ وأنا على قدّي، ولا أريدُ أن أتحدّثَ بكلامٍ زائدٍ، فلغتي شيءٌ، ولغتُهُ شيءٌ آخرُ، ورُؤاي (جمع رؤيا) شيءٌ ورُؤاهُ شيءٌ آخرُ، وتجربتي مُغايرةٌ وليس عندي نيل أو دلتا أو صعيد، عندي قريةٌ فيها عين ماء مثل زمبوعة الإبريق، والمرأة كانتْ في قريتي تنتظرُ ساعاتٍ حتى تملأ جرّتها بالماء، لتعودَ إلى بيتِها، فنحن أُمّةُ فلسطين العطشانة للماء، ومَن لديهِ نهرُ الراين، أو دجلة الفرات، أو النيل أو غيرها، فالأردن وفلسطين ليس بها ماء، والحضاراتُ نشأت على الماء، كالعراق ومصر، بينما نحن عشنا بعلًا، لهذا سُمّيَ إلهنا الأوّلُ إلهُ بعل، فأمّتُنا كانت تُؤمنُ بقوى الطبيعة وإلهٍ تجليهِ الطبيعة، وبوجهةِ نظري الشخصيّة الفنّيّةِ والإنسانيّة، أنّ مَن آمَنَ بالبعل أو بغيرِ البعل، أو بإلهٍ واحدٍ أو بعدّةِ آلهةٍ، كإلهِ البحر وإلهِ الشمس، وإله الجَمال وإلهِ الخصب وغيرها، فلهُ نفسُ التوجّهِ هو الإيمانُ، فالفراعنةُ المصريّونَ أوّلُ مَن نادَوْا بالإلهِ الواحد، وهذا مُثبَتٌ علميًّا وتاريخيًّا، ومِن ثمّ صارتْ نُسخٌ أخرى، لأنّ هذا شرعيٌّ تمامًا، لأنّ عقلَ الإنسانِ يُفسّرُ هذا الوجودَ بهذا التفسير، وحين نادى بإلهٍ واحدٍ، أيضًا هذا شرعيّ، فبدلَ أن تكونَ مَثلًا عشرةُ آلهةٍ، يكونُ إلهٌ واحدٌ، ولكنّ التوجّهَ واحدٌ هو الإيمانُ، وكلُّ الأمرِ يَدورُ حولَ مِحورِ الإيمان، فيُقالُ إنّ اليومَ تأثّرت الكُتبُ بالإلهِ الواحد، وصاروا يَقولون لا إلهَ إلّا اللهَ، وهذا جيّدٌ.